ليس السبب الوحيد الذي يدعونا للكتابة عن هذه الرواية أنها فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية ( البوكر ) في العام ٢٠١٧ ، وليس فقط لأن كاتبها شاب سعودي إستطاع بما متلك من مواهب وثقافة عالية أن يصعد بسرعة الصاروخ إلي قمة الكتاب المؤثرين عربيا ودوليا ، ولكن وبجانب ذينك السببين فإن موضوع الرواية الذي يتتبع حياة الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي يضيف للرواية متعة كبري للقراءة والتأمل ..
نجح الكاتب ببراعة عالية وبثقافة مدهشة وإلمام تام بالأدب الصوفي أن يحول سيرة بن عربي إلي عمل ذو جلال عرفاني يجعلك مجبرا علي متابعة سرده المتقن لرحلة بن عربي في الحياة والمليئة بالتقلبات والتحولات العظمي ( منذ أن أوجدني الله في مرسية حتي توفاني في دمشق وأنا في سفر لا ينقطع ، رأيت بلادا ولقيت أناسا وصحبت أولياء وعشت تحت حكم الموحدين والأيوبيين والعباسيين والسلاجقة في طريق قدره الله لي قبل خلقي ) …
وبريشة فنان بارع إستطاع الكاتب أن يوظف الفترة التي عاش فيها إبن عربي ، تلك الفترة المليئة بالصراعات والتحولات الحادة والمؤثرة في تاريخ المسلمين والعالم الإسلامي عموما ، لينقل لنا المشهد بلغة تجمع بين غموض التعابير الصوفية التي يعتبر ابن عربي من روادها وبين لغة الكاتب الواقعية المزينة بالشاعرية والقدرة علي السرد والوصف ، فمن الأندلس التي كان يتمزق ضميرها بين مفارقتين عظيمتين ، إنطلقت مسيرة الرواية متقفية حياة الإمام الأكبر محي الدين ابن عربي ، كان المشهد في الأندلس وكأنه مسرحية سريالية حيث كانت تعيش في تلك الفترة مرحلة سياسية قلقة وإنقسامات حادة إستدعت من أعيانها وفقهائها إستدعاء البطل يوسف بن تاشفين إمام دولة المرابطين ليعبر البحر وهو إبن السبعين عاما علي جواده في ملحمة إسطورية تحاكي أحلام المراهقات بالفارس المنقذ ، ويقول المؤرخون أن ذلك العبور أجّل سقوط الأندلس أربعمائة عام ( ياله من عبور وياله من رجل ) ، المفارقة هنا أنه بينما كان الواقع السياسي يتداعي كانت الحركة الفكرية والأدبية تضطرد صعودا وتشهد إزدهارا ، ويكفي أن الإمام الأكبر بدأ حياته بمقابلة تاريخية مع المفكر الكبير إبن رشد ، والتي ينقل الكاتب حوارهما في روايته بأمانة المؤرخ لا بخيال الروائي ..
لا غرو أن تنطلق التأملات الصوفية في الرواية من رؤيا رآها ابن عربي الشاب وهو محموما تكاد تطبق عليه قوي الشر لولا أن تداركه رجل قسيم وسيم فأنقذه من الأشرار ، سأل ابن عربي الرجل من أنت ؟ أجابه الرجل أنا سورة يس ، تلك كانت مرحلة جديدة في حياة بن عربي ( كانت رسالة الله إلي قلبي ومشكاة الهدي في الطريق ، سأبقي طيلة عمري واقفا عند أسوار هذه السورة سائلا الله أن يكشف لي أسرارها ويفتح لي أبوابها ، فالله لا يمنح مفاتيح السور ، ولا يفتح أبواب القرآن إلا للأولياء الذين يعرفونه حق معرفته ويحبونه حق محبته ، رحلت الحمي وبقيت يس ) ..
وهنا يصور الكاتب منهج ابن عربي في تلقي العلوم ، ذلك المنهج القائم علي الإلهام والفيض الإلهي الذي يتنزل علي قلوب المتقين وبصائر المهتدين ، وهو العلم الذي سيتجلى لاحقا في كتابات ابن عربي المركزية كتفسير للقرآن الكريم ، وكتابيه فصوص الحكم والفتوحات المكية ..
بعد ذلك ينطلق بنا الكاتب لنعيش معه رحلات ابن عربي إلي المغرب ، مصر ، الحجاز ، بغداد ثم دمشق التي إختتم بها حياته الثرة ، كانت الرحلة مزيجا من البحث عن الحقيقة والعرفان ، والحب والحياة ، والزهد والترقي في مدارج السالكين ، كان ابن عربي مسافرا يبحث عن أوتاده الأربعة ليكمل رحلة اليقين التي بها تكتمل رسالة تزكية النفس لدي السادة الصوفية ، يقول الشيخ عبدالرحيم البرعي
ندعوك بالأربعة والكتب الأربعة
والسور المية والعشرة وأربعة
بالملايكة الستة والكرماء الأربعة
بنينا محمد والخلفاء الأربعة
والفقهاء السبعة وأقطابنا الأربعة
أوتاد الأرض في القبل الأربعة
الأبدال والنقباء العشرة في أربعة ..
في مكة ينفجر العشق في حياة ابن عربي بعدما التقي بنظام إبنة الرجل الصالح في البيت الحرام ، ولما اشتعل العشق بينهما كتب ابن عربي ديوانه ترجمان الأشواق
ليت شعري هل دروا
أي قلب ملكوا ؟!
وفؤادي لو دري
أي شعب سلكوا
أتراهم سلموا
أم تراهم هلكوا
حار أرباب الهوي
في الهوي ، وارتبكوا
بينما ينهي الكاتب هذه العلاقة ( المشتعلة) بصورة سينمائية مدهشة تقرر علي ضوئها أن نظام ليست إلا من أقطاب ابن عربي الذين يبحث عنهم ( في القبل الأربعة ) وبالتالي لا سبيل إلي الزواج منها ، وتحتل المرأة مكانا مهما في سيرة ابن العربي الواقعية والمروية إذ أخذ العلم باكرا علي يدي الشيخة فاطمة القرطبية التي كان لها أبلغ الأثر في حياته ..
في مكة تنفتح أبواب العلوم العرفانية لإبن عربي فيكتب ( الفتوحات المكية ) وكثيرا من كتبه التي أحدثت حراكا كبيرا في المشرق العربي كله ، والذي سيتجلى لاحقا في الرواية بالطريقة التي عومل بها ابن عربي وتلاميذه من العلماء والفقهاء ( الرسميين ) في الدولة الأيوبية ، حيث تعرض للمضايقات والإتهامات المتواصلة والمتكررة ، ولا ينفصل ذلك عن الإضطراب السياسي الذي كانت تعيشه الأمة في ذلك الوقت والذي أثر علي الحركة الفكرية والثقافية ..
تختم الرواية حياة ابن عربي بمشاهد حزينة تصور الصراع المستمر بين الخير والشر من ناحية ، وبين المدارس الإسلامية المختلفة والمتصارعة من ناحية أخري ، وهو ما كان سائدا في تلك الفترة حيث عاصر بطل الرواية مأساة السهروردي الذي اتهم بالزندقة وتم قتله في زمن الأيوبيين خنقا ..
وعلي كل فإنه من المعلوم أن الرواية ليست عملا تاريخيا يحاكم بمناهج التدقيق والإلتزام الأكاديمي ، والكاتب نفسه لم يزعم ذلك ، ولكنه من حيث أراد أم لم يرد فقد استدعي من ذاكرة التاريخ أنفس ما فيها، ومن الأندلس أعبق سيرها ، ومن المشرق العربي أزكي قصصه العرفانية الملهمة..