اخوتى لقد دار حديث كثير حول قصيدة كررى وكتب كثير من الصحفيين اعمدة صحفية ينتقدون القصيدة بإعتبارها كذب وتزوير للتاريخ ،، وظل هذا الحديث يتكرر سنويا كلما حلت ذكري الاستقلال وكثيرين من الذين كتبوا لم يفهموا القصيدة ولم يفهموا روح الشعر ولم يفهموا الزمان والمكان الذى قيلت فيه القصيدة ،، وكثيرين من الذين كتبوا لم يفهموا إبداعات الخيال الشعري ومقارناته لربط الماضى(التاريخ) بالحاضر اللحظى عبر استخدام إبداعات اللغة العربية فى الجناس التصويرى وتشبيه التمثيل ،، هذه القصيدة قيلت يوم رفع علم الاستقلال :(اليوم نرفع راية استقلالنا ) : (ويسطر التاريخ مولد شعبنا): وفى ذات تلك اللحظة كانت جحافل الجيش الإنجليزى تتزاحم داخل القطارات فرارا من السودان فحاول الشاعر بخيال مبدع وتصوير بليغ ربط هذه اللحظة الآنية بفدائية وبسالة مقاتلى كررى ربطا للماضى بالحاضر ، واعتبر الشاعر ان خروج وفرار القوات البريطانية التى يشاهدها الشاعر فى تلك اللحظة هى نتاج لتلك الفدائية وتلك البسالة التاريخية، والشاعر لم يستدعى بسالة كررى وحدها وإنما استدعاها واستدعى غيرها من البطولات (فاليذكر التاريخ ابطالا لنا عبد اللطيف وصحبه غرسوا النواة الطاهرة ** ونفوسهم فاضت حماسا كالبحار الزاخرة) وربط كل ذلك برفع علم الاستقلال وخروج المستعمر بقواته التى اعتبرها فرارا وهزيمة من بسالة وتضحية وجسارة المجاهدين والجندى السودانى ((من أجلنا ارتادوا المنون ** ولمثل ( *هذا اليوم* )كانوا يعملون)) والشاعر بخياله يعتبر بطولات الماضى حققت الانتصار (الآن) وهذه حقيقة لأن البريطانيين يعلمون ان هزيمة كررى لم تكن عسكرية وإنما كانت استخبارية بسبب اختراق بعض رجالات الخليفة الذين جندهم سلاطين باشا والذين اقنعوا الخليفة عبر رؤيا كاذبة ان المهدى جاءهم فى المنام وقال لهم ان الخواجات سيهزمون فى جبال كررى ليذهب الخليفة بجيشه الى هناك حتى يكونوا فى العراء ليحصدهم مدفع المكسيم ،، ولذلك الخواجات كانوا على قناعة راسخة ان ذكاء السودانيين وبسالتهم التى هزمتهم فى شيكان وابادت جيشهم وقائدهم العظيم هكس باشا، وهزمتهم فى موقعة الخرطوم وذبحت غردون كانوا على قناعة ان تلك البسالة وذلك الذكاء اذا وجد قائدا محنكا يمكن أن يكرر انتصارات شيكان والخرطوم ولذلك عجلوا الفرار ،، ولذلك حينما يقول الشاعر:: مالان فرسان لنا :: هنا يشير الى الماضى ، وحينما يقول:: بل فر جمع الطاغية :: هنا يشير الشاعر الى اللحظة الآنية لحظة خروج الجيش البريطانى والذى سماه الشاعر فرارا من تلك البسالة والجسارة التاريخية ، ولذلك اخوتى لاتظلموا الشاعر فقد كان مبدعا فى الخيال ،، ويجب أن نتذكر ان خالد بن الوليد حينما انسحب بالجيش من غزوة مؤتة وعيرهم بعض الصحابة وسموهم (الفرار) غضب الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك الوصف وقال ( بل هم الكرار) ، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستخدم هذه الاساليب اللغوية المبدعة فى الحديث الشريف ،، فحينما قال :: (فاظفر بذات الدين تربت يداك ) فإن تربت يداك تعنى ان يدك ستصبح خالية إلا من التراب اى (فقرت يداك) وقطعا الرسول لم يقصد هذا المعنى اللفظى وإنما قصد العكس تماما اى (لا تربت يداك) وهذا يسمى اسلوب التضاد والمعاكسة اى ان تذكر الشئ وتقصد ضده ،، او قد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قصد (ان لم تظفر بذات الدين تربت يداك) وهذا يسمى اسلوب النفى الايجابى فى استخدام اللغة اى حذف الكلمة حرفيا واثباتها معنى ،، وايضا فى حديث معاذ حينما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ::( ثكلتك امك وهل يكب الناس على مناخيرهم فى نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم ) فقطعا الرسول لم يقصد حرفيا (ثكلتك امك) وإنما قصد (لا ثكلتك امك) او ان (لم) تمسك لسانك ستكون النتيجة ثكلتك امك ،، وهذا الأسلوب استخدمه الشاعر أحمد شوقى فى قصيدة دمشق حينما قال :: آمنت بالله واستثنيت جنته *** دمشق روح وجنات وريحان :: وقد كفر بعض المتنطعين الشاعر بهذا البيت حيث أن ذهبوا الى المعنى اللفظى الظاهر اى انه آمن بالله ولم يؤمن بجنته(واستثنيت جنته) رغم ان بلاغة اللغة وخيال الشعر يحتمل ان يكون الشاعر قصد انه (يستثنى) جنة الله من الأوصاف الى سيلقيها على دمشق ،، او قد تكون (السين) زائدة فى استثنيت بمعنى انه قصد ( ثنيت) جنته اى انه آمن بالله أولا وثنى إيمانه بجنته ثانيا.