وكالات : كواليس
من قلب صعيد مصر جاء وحيدًا، وتمرّد على الوظيفة الحكومية، وركل المناصب، وعاش على نهج المفكر القومي الراحل جمال حمدان، لكنه لم ينعزل عن الناس، وبدأ ينقّب عن الجواهر التي يطمسها الوحل، فكتب عن الثورات المجهضة، وبمبضع الجراح بدأ يضع يده على أوجاع الوطن وأحزانه، فكتب ثلاثية “الخيال والمجاز والفراغ السياسي”.
هذا هو الباحث في الاجتماع السياسي عمار علي حسن (1967)، درس السياسة والاقتصاد، وتعدّدت قراءاته وثقافاته، فكتب الشعر والقصة والرواية والمسرحية، وبلغت كتبه حوالي 50 كتابًا، كان أولها عن التصوف والسياسة، والتقته ;كواليس ليكون هذا الحوار:
خبرات وتجارب
-
كمثقف عرف طريقه مبكرًا، كيف كانت البداية، ومن أي المنابع نهلت حتى صار تكوينك الفكري والأدبي؟
أنهل من منبعين: أفواه الناس وسطور الكتب، وأرى أن نصف المعرفة تُؤخذ من الشارع، وقد جادت عليَّ الحياة ببيئات اجتماعية متنوعة، حيث عشت في الريف، ثم انتقلت إلى المدينة واقتربت من البادية، وأعيش بين المدنيين، ونلت طرفًا من حياة العسكريين؛ إذ قضيت فترة تجنيدي ضابطًا احتياطيًا بالقوات المسلحة المصرية، وفي السفر أيضًا سمعت ألوانًا من المعارف، ورأيت أشكالًا من الفنون.
في كل هذه المراحل استمعت إلى حكايات وأساطير وملاحم شعبية، وإلى حكم وأمثال، ورأيت أنماطًا من البشر، ومررت بخبرات، واطلعت على تجارب غيري.
الحرية والمهنية والحياد
-
كثيرًا ماردّدت، أن الإعلام في مصر يسير نحو الهاوية والانهيار، وإن استمر هذا الوضع، فالجميع خاسرون، فما السبيل لإصلاحه؟
لا سبيل لإصلاح أي إعلام بلا ثلاثة أشياء: الحرية والمهنية والانحياز إلى الناس، وتبنّي أشواقهم للعدل والتحرّر، والكفاية والأمان.
والإعلام المصري في الوقت الراهن يفتقد إلى كل هذا تقريبًا، وأداؤه لا يسرّ أحدًا؛ ليس لضعف في مستوى منتجي الرسالة الإعلامية -فبعض المصريين قامت على أكتافهم منابر إعلامية ناجحة، مقروءة ومسموعة ومرئية، في العالم العربي- لكن لأن الإعلام المصري الآن يعاني من الاحتكار والتوجيه والانتقائية، ويميل كل الميل للسلطة السياسية، ويقع في فخ الدعاية والتلاعب.
-
التجليات السياسية للأدب، كيف تتمثّل في أعمالك الروائية والقصصية؟
أعمالي متنوعة، هناك من بينها ما يمكن أن تصنّفه على أنه “رواية سياسية”؛ مثل: “سقوط الصمت” عن ثورة يناير، و”السلفي” عن منطق ومسار وخطاب الجماعات السياسية الإسلامية و”جدران المدى” و”آخر ضوء” عن محنة اليسار، ويوجد أدب الحرب؛ مثل: رواية “زهر الخريف”، وهناك الواقعية الاجتماعية والواقعية الفجّة أو السافرة؛ مثل: رواية “باب رزق”، و”حكاية شمردل”.
وهناك الروايات الصوفية؛ مثل: “خبيئة العارف”، و”شجرة العابد”، و”جبل الطير”، وفي الأخيرتين فانتازيا ظاهرة، وهناك الرواية التاريخية؛ مثل: “بيت السناري”.
أما قصصي القصيرة فهي متنوعة بين عوالم الريف والمدينة، وشخوصها مختلفون كثيرًا، وإلى جانب هذا كتبت نصوصًا سردية غير مصنّفة؛ مثل: “عجائز البلدة” عن الريف الذي رأيته في طفولتي، و”مقام الشوق” وهي تجلّيات صوفية.
في كل هذا تكون الأحوال الاجتماعية والسياسية موجودة -أحيانًا- في الخلفية، ففي النهاية “لا يوجد حدث فني، وإنما يوجد حدث سياسي يُعالج بطريقة فنية”، حسب قول نجيب محفوظ.
-
تقول إن الثقافة يجب أن تسبق السياسة، فهل يعنى ذلك أن المجتمع العربي في حاجة إلى ثورة ثقافية تغيّر من طريقة تفكيره؟
الثورة الثقافية يجب أن تسبق الثورة السياسية، وعدم تحقّق هذا هو ما أدّى إلى إخفاق الأخيرة أو تعثرها أو انحرافها إلى اقتتال وحرب أهلية في العالم العربي. وعلينا أن نستفيد مما جرى، فننهض ثقافيًا، ووقتها قد لا نحتاج إلى ثورات؛ لأننا سندخل في حركة إصلاح سياسي تتقدّم إلى الأمام، وتحقّق بالقوانين والإجراءات والخطط والتصورات والمؤسسات ما ينادي به الثوار.
قلائد زينة
-
كيف تُقيّم دور المثقف المصري والعربي، وهل أدّى بدوره، أو أنه خان الأمانة في رسالة الوعي العام ؟
أغلب المثقفين تحولوا إلى قلائد زينة، تضعها السلطات المستبدة في أعناقها لتقلّل من قبحها، أو تحولوا إلى “صلصة” توضع على السمك المُشرِف على التعفّن، كي تجعله مستساغًا للجوعى. والمثقف يجب ألا يمشي خلف السلطان يسوّغ له، وإنما في الأمام، ليكون القاطرة التي تجذب مجتمعه نحو التقدّم. ومع كل هذا لدينا مثقفون عضويون يعملون مع الناس، ويعارضون -ليس حبًا في المعارضة- إنما بحثًا عن الأرقى دومًا.
-
ما رأيك في الدور الحالي لوزارة الثقافة، هل هي مع الوعي العام، أو أنها من أجل إدخال المثقفين الحظيرة، كما قال أحد وزراء الثقافة من قبل؟
ليت الثقافة بلا وزارة، وتُترك لمؤسسات المجتمع المدني، وإن كان لا بد من وزارة فيجب ألا تحتكر العمل الثقافي. والمشكلة الآن أن الثقافة يُنظر إليها على أنها شيء هامشي أو عابر، أو يمكن الاستغناء عنه، وهذا الأمر زاد في السنوات الأخيرة في مصر، بطريقة مفزعة.
-
على مدى سنوات طويلة والمثقف العربي بين مطرقة السلطة وسندان الحاجة، هل أضحى مصير المثقف الملتزم هو الحصار؟
ليس الحصار الإعلامي فقط، إنما التجويع والتشويه أيضًا. وهناك من يؤثّر هذا فيه، فيتوقف فزعًا أو خوفًا أو رهقًا أو مضطرًا، وقد يمضي في طريق مغايرة، وهناك من يعاند، وهناك من لا ينشغل بكل هذا ويعكف على مشروعه، سواء كان أدبيًا أو فكريًا، حتى يكمله. وفي العموم كثير من الكتّاب موزّعون على السلطة أو الأحزاب أو رجال الأعمال أو جهات في الخارج، والمثقف المستقلّ عليه أن يكون على استعداد للمعاناة، ودفع الثمن.
أما أنا فقد حسمت الأمر مبكرًا، وآمنت بفكرة: قاتل واصنع مصيرك، وسمّيت هذا “الأسطورة الذاتية”، وكتبت عنها، ورأيت في جمال حمدان أو طه حسين -أحيانًا- أو زهير الشايب بعض الأمثلة.
إنها أسطورة فعلًا، ليس من قبيل المبالغة والتضخيم أو مدح الذات، وإنما نتيجة الشعور بهول ما على الكاتب المستقل أن يفعله ويبذله من جهد ويتمرّن عليه من أساليب المقاومة والتطهر، وكأنه يشبه من يصنعون المعجزات فيضفي الناس عليهم أساطير، وأنا أردّد دومًا مقولة محمود درويش “حاصر حصارك”، وواثق من الانتصار، على الأقل لِما أؤمن به من فكر أو دور.
وهم تجديد الخطاب
-
الإصلاح الديني والدين والتدين، وتجديد الخطاب الديني، قضايا نراك مشغولًا بها، فما رؤيتك للنهوض بالإصلاح الديني؟
لا إصلاح دينيًا بلا خمسة شروط؛ هي: الأول هو أن يكون الإيمان مسألة فردية لا وساطة فيها بين العبد وربه، والثاني أن نقتنع تمامًا بأن العقل يكمل مسيرة الوحي ولا يضادّه، بل هو المواكب للتجدّد والتطور المستمر، والثالث أن يتم التمييز الواضح بين الدين والسلطة السياسية، بحيث لا يتحول الدين إلى “أيديولوجيا” أي عقيدة سياسية، أو يبني الحكم شرعيته على الدين، أو يظن الحاكم أنه مختار من الله، وليس من الشعب أو الأمة.
وأما الرابع فهو العودة إلى الوظيفة الأساسية للدين، وهي الامتلاء الروحي والسمو الأخلاقي والخيرية أو نفع الناس. وأما الخامس هو أن يُبذل جهد فائق ومتواصل في الإصلاح الاجتماعي، فالحديث عن إصلاح ديني في مجتمع يعاني من التخلّف والأمية والفقر الشديد يعدّ ضربًا من الهذيان.
“الإصلاح الديني” فهذا هو ما يجب أن يكون، أما الاكتفاء بالطلاءات المزيفة التي تأتي في رِكاب ما يسمّى “تجديد الخطاب الديني” فلا تكفي، ولا يتم الأمر على نحو سليم إلا إذا فرّقنا بين الدين والتدين وعلوم الدين والتّديين.
إصلاح الأزهر
-
هل ترى أن الأزهر في حاجة إلى إصلاح، وما الوسائل اللازمة لذلك؟
نعم، الأزهر في حاجة إلى إصلاح، ويمكن أن يأخذ هذا ثلاثة مسارات، الأول: إصلاح المؤسسات من أعلى، والمقصود هنا أن تقوم السلطة السياسية في أي بلد به مؤسسات للتعليم الديني بوضع قوانين وتشريعات وخطط لإصلاح المناهج، وتحسين كفاءة القائمين على العملية التعليمية، لا سيما أن بعضهم يؤمن بهذا الخيار وفق القاعدة التي تقول: “ما لا يُزع بالقرآن يُزع بالسلطان”. لكن هذه العملية قد يشوبها قدر من القسر والإجبار.
والثاني، هو الإصلاح الذاتي، وهو خيار أفضل، لكنه يحتاج إلى أن يأتي على رأس المؤسسات التعليمية الدينية، أو تلك التي تنتج الخطاب الديني، ومن يؤمن بأهمية الإصلاح، ويعمل من أجله، ويمتلك الرغبة الدائمة والقدرة المتنامية على النهوض بهذه المهمة.
أما الثالث فهو المساعدة الخارجية، وهي تقوم على إيمان آخرين من خارج مؤسسات التعليم الديني بأن إصلاحه ضرورة اجتماعية، وأن التأخّر في هذا لا يضر خريجي هذا النوع من التعليم فحسب، وإنما يمتدّ ضرره إلى الجميع، في ظلّ تداخل التصور الديني مع مختلف مسارات ومجالات الحياة .
-
ما رأيك فيمن يعملون على تغيير النظام الأساسي للتعليم في الأزهر ومحاولة هدمه كمؤسسة تاريخية، مرة بحجة الإصلاح، ومرة بتغيير المناهج؟
هؤلاء جهلاء بالطبع، فالمطلوب إصلاحه وليس هدمه؛ لأن الأخير معناه أن يلبّي طلب الناس على الدين من هم موغلون في التشدّد، ولديهم أغراض غير دينية، وسيجد الناس آلاف المرجعيات أو الأطر، وسنصبح أمام فوضى فوق الفوضى التي نعيشها في الرأي الديني والفتوى.
-
هل أنت راض عن دور الأزهر الحالي؟
الأزهر يثقل نفسه بمهام من الضروري أن يتخفّف منها، ويتفرغ للتعليم الديني، فيتعمّق فيه ويجدّده، ولا ينظر إلى العلوم الأخرى إلا بما يخدم هذا الاتجاه، ويدع التخصصات الأخرى لغيره.
-
ما جديدك من الكتب؟
لي ثلاثة كتب على وشك الصدور -رغم أنها كُتبت في أوقات متتابعة- الأول هو كتاب عن طه حسين، ورواية بطلها موظف كادح كان يحلم بتغيّر حاله بعد ثورة يناير، لكن تبدّد حلمه، ليجد نفسه على باب الجنون. ومسرحية تشاكس الثرثرة المتداولة حاليًا على ألسنة من يتحدّثون عن نبوءات آخر الزمان، حول قرب عودة المهدي المنتظر.