وكالات : كواليس
باريس- “ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقّدة. وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة، إن الانحياز الفنّي الحقيقي هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة”، تنطبق هذه المقولة للأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بشدة على المشروع الإبداعي للكاتب المصري عزت القمحاوي.
كما تجد المقولة تأصيلها في إصداراته الثلاثة الأخيرة “غرفة المسافرين” و”يكفي أننا معا”، و”ما رآه سامي يعقوب”، حيث ينجح القمحاوي في الغوص في تفاصيل الحياة اليومية ونقل الواقع البسيط والمبهم والمتناقض والمشوه، إلى قيم جمالية إبداعية محفزة على التفلسف والتفكير والتأمل والفرح والحياة، من خلال لعبة البساطة المخاتلة والجمع بين المتناقضات.
كما يهتم القمحاوي المولود عام 1961، في كتاباته اهتماما خاصا بالحواس، ويعتبرها مدخلا للسعادة والمعرفة. وهذا ما شجعه على المداومة على التجريب والانفتاح على قارات فكر بِكر من الإبداع، فأصدر الكثير من الكتب ذات النصوص المفتوحة، على غرار “غرفة المسافرين”، و”مواقيت البهجة”، و”كتاب الغواية” و”الأيك في المباهج والأحزان”.
وفي الرواية، أصدر الكثير من الأعمال الناجحة نذكر منها “غرفة ترى النيل” و”الحارس” و”البحر خلف الستائر”، ووصلت روايته “يكفي أننا معا” و”غربة المنازل” إلى القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب.
كما حصل عام 2012 على جائزة نجيب محفوظ عن روايته “بيت الديب”. وفاز أخيرا بجائزة سمير قصير لحرية الصحافة عن مقاله “عمارة الريبة: هوس البنايات الكبرى والشوارع الواسعة”. وترجمت أعماله إلى اللغات الإنجليزية والصينية والإيطالية.
في هذا الحوار تحدث القمحاوي عن إصداراته الثلاثة الأخيرة، وعن حيثياث حصوله على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة لعام 2022، وعن علاقة هندسة المدن وعمارة الريبة بالأنظمة العربية المستبدة، كما تفرع الحديث إلى ثيمة أعماله وارتباطها بالحواس وانفتاحها على التجريب، وإلى علاقته الخاصة بالصحافة التي قال عنها إنها ما زالت لغزا. وعدة قضايا أخرى تكتشفونها تباعا.. فإلى الحوار:
-
ثيمة أعمالك الثلاثة الأخيرة “غرفة المسافرين” و”يكفي أننا معا”، و”ما رآه سامي يعقوب”، محاولة الغوص في تفاصيل الحياة اليومية، ما وسائلك الفنية وتميمتك الإبداعية في نقل هذا الواقع؟
أشكرك كثيرا، إن كانت أعمالي هكذا؛ فبالطبع هذا يبهجني. أكتب ما يسعدني أولا، أكتب بولع وبروح اللعب. عندما أضبط نفسي في حالة “عمل” أو أشعر بخشونة أو ثقل أتخلى تماما عن المشروع.
بعض الأعمال أتوحد معها حتى يتعمق السر بيننا وأصبح على وشك الوقوع في فتنة إبقائها سرا. كتبت بعد سامي يعقوب “غرفة المسافرين” و”غربة المنازل” وكذلك إضافات إلى “الأيك” تبلغ نصفه، ولم أزل أتذكر يوم سلَّمت مخطوط “ما رآه سامي يعقوب” للنشر أحسست بفراغ الأم التي ولدت والأب الذي سافر ابنه بعيدا. توحدت مع الشخصية ومنحتها من روحي إلى حد أردتها أن تبقى بجواري.
هناك جهد في الكتابة، لكنني لا أستطيع أن أصف ما أعانيه بالفخ، أمنح نفسي للنص فحسب، وأظن أن الصدق مع النفس في الكتابة هو أوسع طرق النجاة.
-
أصدرتَ العديد من الكتب ذات النصوص المفتوحة، على غرار “غربة المنازل”، و”الأيك في المباهج والأحزان” الصادر أخيرا، فهل هذه المداومة على التجريب والانفتاح على قارات فكر بِكر من الإبداع مرده إيمانك الراسخ بتداخل الأجناس الأدبية وتكاملها؟
صدقني إن قلت لك إنني لا أفهم الآلية الداخلية التي توصلني إلى رواية أو مجموعة قصصية أو نص مفتوح، ولا أستطيع أن أتحقق إن كنت أنطلق من رغبة في التجريب أم لا، لكنني لا أحب التكرار، لهذا لا أقف في مكان واحد مرتين، وهذا ليس عملا قصديا بقدر ما هو اتباع للقلب ونوع من الحدس الفني.
أحيانا أستشعر أن ما أفكر فيه ويسيطر على شغفي بالكتابة فيه من الأفكار أكثر مما به من بناء سردي، فأعرف أن شكل النص المفتوح الذي يتيح لي الانتقال بين المعارف والفنون وسوق الأمثلة والبراهين هو الأنسب، والعكس صحيح كذلك، فأحيانا ما يكون البناء السردي أبرز ما يلح عليّ فتكون رواية أو قصة.
كل تجربة تختمر في روحي أولا وفي وقت الاختمار تختار شكلها وبناءها الفني، كما تختار حجمها كذلك. بالحدس أكتشف طريقي فأعرف أن هذه الرواية تحتمل أن تكون بهذا الطول أو ذاك. وإن سألتني عن اعتقادي بوصفي قارئا، فأنا أفضل أن أقرأ ما يضمر معرفة بداخله، قصيدة كان أو قصة أو مقالا، وأعول على جمال النص في أي جنس كان
كل تجربة تختمر في روحي أولا وفي وقت الاختمار تختار شكلها وبناءها الفني، كما تختار حجمها كذلك. بالحدس أكتشف طريقي فأعرف أن هذه الرواية تحتمل أن تكون بهذا الطول أو ذاك. وإن سألتني عن اعتقادي بوصفي قارئا، فأنا أفضل أن أقرأ ما يضمر معرفة بداخله، قصيدة كان أو قصة أو مقالا، وأعول على جمال النص في أي جنس كان.
-
حصلتَ أخيرا على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة لعام 2022 عن مقالك “عمارة الريبة: هوس البنايات الكبرى والشوارع الواسعة”، كيف تلقيت وتقبلت فوزك بهذه الجائزة، خاصة مع ارتباطها بكاتب ومثقف “منشق” وعلم بارز من الصحافة؟
حقيقة كنت سعيدا للغاية لأسباب عديدة، جائزة كما تقول تحمل اسم مناضل وعبقري من عبقريات الصحافة حرمتنا يد الغدر من عطائه مبكرا، ولجنة تحكيم دولية مرموقة. كنت سعيدا كذلك لأنها جائزة من المهنة التي عشت لها، في وقت بدت وكأنها قد ماتت على صعيد مصر على الأقل.
علاقتي بالصحافة لغز؛ فقد عشت أخشى أثرها على أدبي، وفي الوقت ذاته لا أحب أن أكون قليلا فيها. وأحب أن أشبه بقاء الأديب فيها مثل ركوب النمر، إما أن تتوازن على ظهره وإما أن تجد نفسك بين فكيه. أقدر دورها في بناء المجتمعات وفي خدمة الثقافة، ولكن أحب التوازن الذي عشته فيها، والمقال الفائز تعبير عن هذا التوازن، فهو في منطقة بين الصحافة والفكر والسرد
علاقتي بالصحافة لغز؛ فقد عشت أخشى أثرها على أدبي، وفي الوقت ذاته لا أحب أن أكون قليلا فيها. وأحب أن أشبه بقاء الأديب فيها مثل ركوب النمر، إما أن تتوازن على ظهره وإما أن تجد نفسك بين فكيه. أقدر دورها في بناء المجتمعات وفي خدمة الثقافة، ولكن أحب التوازن الذي عشته فيها، والمقال الفائز تعبير عن هذا التوازن، فهو في منطقة بين الصحافة والفكر والسرد.
العمارة وتخطيط المدن من أكثر المؤشرات السياسية وضوحا ومن أصدق الوسائل عند كتابة التاريخ.
في المجتمعات التي تتبادل فيها السلطة الريبة مع رعاياها نجد انكماش الفضاءات العامة، وتصاعد الأسوار واختفاء الشرفات، وتختفي اللمسات الفردية في تصميم المباني
-
في علاقة بهذه المقالة المستفيضة، كيف كرّست هذه السياسة العمرانية المرتابة من قبل السلطات المصرية والعربية المتعاقبة التخلف في المجتمعات العربية المعاصرة؟
العمارة وتخطيط المدن من أكثر المؤشرات السياسية وضوحا ومن أصدق الوسائل عند كتابة التاريخ. هي تاريخ صلب يكشف علاقات الحاكمين بالمحكومين، في العلاقات الحسنة تختفي الأسوار أو تقل قسوتها وتتسع الشوارع والميادين وأرصفة المشاة والفضاءات الاجتماعية بشكل عام.
وفي المجتمعات التي تتبادل فيها السلطة الريبة مع رعاياها نجد انكماش الفضاءات العامة، وتصاعد الأسوار واختفاء الشرفات، وتختفي اللمسات الفردية في تصميم المباني. بالطبع هناك نسبة للعوامل الأخرى كالمناخ، لكن إجمالا تقول العمارة وتخطيط المدن كل شيء، ويمكننا أن نتتبع هذه التغييرات ونكتشف حقب الانفتاح والانغلاق في الكثير من المدن العربية.
فيما يتعلق ببناءات مستبدين مثل هتلر وموسوليني هناك مذكرات لمعماريين نعرف منها أن التغييرات التي أدخلها كلاهما على المدن الألمانية والإيطالية كانت واعية تماما ومفكرا فيها، أما بخصوص الدكتاتور العربي فليست هناك وثائق أو كتابات نعرف منها إن كانت التعديلات التي يدخلها على مدينة تنطلق من وعي واضح أم حدس تقريبي وفكرة عامة عن العظمة أو عن الأمن.
لكننا على كل حال نلاحظ الخلاف بين ما يبنيه الدكتاتور المنتصر والدكتاتور المهزوم أو الخائف؛ فالأول ينتهي إلى تخطيط واثق يستوعب طوابير العرض والاحتفالات، والثاني يبتغي ممرات آمنة ينزلق منها سريعا ومعابر يمكن السيطرة عليها وقت الثورة.
ويبقى أن ولع الدكتاتور بالبناء ولع خطر، خصوصا إذا لم يكن لديه طموح آخر؛ فهو كفيل بإسقاطه دون أن يدخل حربًا.
زادت أعمال القمع، وزاد التبلي على الربيع العربي وتصويره على أنه سبب الخراب، بينما سبب الخراب الحقيقي تحقق بسبب سرقة هذا الربيع وليس قيامه
-
زادت سياسة التضييقات وتكميم الأفواه في العالم العربي على الكتاب والصحفيين والمثقفين، فما الأسباب العميقة لذلك؟ وأي مخاطر اجتماعية وسياسية، على التراجع الكبير لحرية التعبير في العالم العربي؟
طبعا زادت أعمال القمع، وزاد التبلي على الربيع العربي وتصويره على أنه سبب الخراب، بينما سبب الخراب الحقيقي تحقق بسبب سرقة هذا الربيع وليس قيامه، لنتصور لو كان التاريخ قابلا للإعادة أن النظام السوري تسامح مع صبية درعا ولم يوجه الإهانات الفظة لعائلاتهم؟!
زيادة القمع سببه عصبية هذه الأنظمة، لأن قادتها واعون بسرقتهم. وإذا ما تحدثنا بحياد دون تبني خطاب الثورة أو السلطة فنحن بصدد معضلة فنية تتمثل في أن أسئلة الربيع العربي معلقة لم تتم الإجابة عنها.
كان من الممكن تحقيق بعض المطالب واللقاء في المنتصف، لكن ذلك لم يحدث، والسلطات العائدة إلى كراسيها في دول الربيع العربي تتصور إمكانية دفن الأسئلة بالقمع.
ربما كان من الممكن لهذه الأسئلة أن تموت ويصبح حراك 2011 ذكرى بعيدة، لكن هذا يستلزم شرطا خياليا هو عودة الواقع إلى ما قبل انفجار ثورة الاتصالات. في عالم شفاف إلى هذا الحد لا تموت الأسئلة بسهولة، وكل تلكؤ في الإجابة خسارة عامة، بل انتحار.
الأصل في الجائزة أنها كلمة شكر يقولها المجتمع للمبدع، نوع من “التربيتة” على الكتف، لكنها من جهة أخرى تذكي روح السباق مع الآخرين، وتجعل من الكُتاب خيول رهان، بينما الكاتب فرد، ومن تفرده تأتي قيمته
-
هل الحصول على جائزة ما هو إلا فخ كبير للمبدع الحقيقي يمكن أن يلهيه ويسقطه في الشهرة الزائفة وحب الظهور والابتعاد عن العمق في قادم أعماله؟ هذا البعد المفخّخ للجوائز كيف تقيّمه؟
الأصل في الجائزة أنها كلمة شكر يقولها المجتمع للمبدع، نوع من “التربيتة” على الكتف، لكنها من جهة أخرى تذكي روح السباق مع الآخرين، وتجعل من الكُتاب خيول رهان، بينما الكاتب فرد، ومن تفرده تأتي قيمته.
هذا فخ كبير للكاتب قليل الإيمان بما يفعل. وهذا النوع من الكتاب بالمناسبة لا خير فيه، إن لم تفسده الجوائز سيفسده شيء آخر. الشخص الذي يبحث عن منفعة من الكتابة ينصرف عنها إذا ما حصّل المنفعة من طريق آخر، والجوائز فخ للقراءة كذلك.
وأنا أصر على أن القراءة نصف العمل الأدبي، بل إن العمل الذي يُكتب لا يبدأ وجوده إلا بالقراءة. والآن كثير من القراء لا يقرؤون إلا الأعمال الفائزة بجوائز. وإن خذلتهم هذه الأعمال فإنهم يسحبون الحكم على كل ما يُكتب. مع ذلك لا أستطيع أن أقول إن الجوائز شر، بل هي امتحان والامتحانات مطلوبة دائما.
في تكويني الشخصي أحترم الحواس فهي مدخل السعادة، وهي أصدق المداخل للمعرفة وأثبتها
-
ما رسائلك الفنية الأدبية الإبداعية والإنسانية؟ وما السر في هذا الاهتمام الخاص بحواس الإنسان في كل أعمالك؟
لا أرى نفسي صاحب رسالة، أحب الحياة وأتصرف بما يحقق سعادتي، ومن جملة حبي للحياة حبي للكتابة، فهي متعتي الخاصة قبل أن أفكر برسالة أو شيء من هذا القبيل، ربما أفكر بالقارئ ولكن كشريك متعة لا غير، مثله مثل شريك أي لعبة رياضية أو ذهنية.
هكذا فإن كانت كتابتي تعكس اهتماما خاصا بالحواس فهو ناتج التكوين لا القصد. في تكويني الشخصي أحترم الحواس فهي مدخل السعادة، وهي أصدق المداخل للمعرفة وأثبتها.
-
ما الأسباب العميقة لارتباط الحواس في الثقافة العربية والمخيال العربي بالغواية والنقص والمكبوت والشرور؟
في كل مجتمعات الفطرة، في العصور القديمة وحتى بين الجماعات الأقل تعقيدا إلى اليوم نجد احترام الناس لحواسهم ورغباتهم، نجد هذا الاحترام للحواس كذلك في المجتمعات المدنية بأوقات صعودها الحضاري، وثقتها بنفسها.
الخوف من الحواس صفة للضعف الحضاري والانغلاق. وأيديولوجيات الانغلاق سواء كانت دينية أو دنيوية تعادي الحواس.
إماتة الحواس هو أسلوب السلطة التي تريد مغالطة البشر والسيطرة عليهم، يستوي في ذلك المتزمتون الدينيون والفاشية والنازية وكل سلطة تريد أن تسلب الإنسان حياته في سبيل هدف خاص بها. ولهذا لا أرى أن الخوف من الحواس صفة ملازمة للثقافة العربية طوال تاريخها، ولا أراها صفة عربية حصرية
إماتة الحواس هو أسلوب السلطة التي تريد مغالطة البشر والسيطرة عليهم، يستوي في ذلك المتزمتون الدينيون والفاشية والنازية وكل سلطة تريد أن تسلب الإنسان حياته في سبيل هدف خاص بها. ولهذا لا أرى أن الخوف من الحواس صفة ملازمة للثقافة العربية طوال تاريخها، ولا أراها صفة عربية حصرية.
ما يُسمى “العصور الوسطى” أوروبيا كان عصور صعودنا الحضاري، كانت أوروبا تخشى الحواس، تخشى التفكير، وتخشى الضحك، بينما كنا نستمتع بحواسنا وتفكيرنا
ما يُسمى “العصور الوسطى” أوروبيا كان عصور صعودنا الحضاري، كانت أوروبا تخشى الحواس، تخشى التفكير، وتخشى الضحك، بينما كنا نستمتع بحواسنا وتفكيرنا، واستطعنا أن نحفظ لأوروبا الفلسفة عبر الترجمة بعد أن حرّمتها المسيحية وأعدمتها.
هناك اعتقاد لدى المتزمتين بأن الشيطان يسكن في أي متعة حتى لو كانت طبقا من الطعام معدا جيدا، لأن المتعة تنمي الفردية وتنمي فكرة الحرية وتعيق عمل الطغاة.
السفر بالفعل هروب من الموت واحتفال بالحياة لذلك لا نحب أن نراه في أماكن السياحة، والظريف أن أحباءنا الذين تركناهم خلفنا يسايروننا في هذا الإحساس
-
في رواية “يكفي أننا معا” إحالات رمزية كثيرة للموت، وهذا يحيلنا على المعاني الفلسفية العميقة لهذا العمل، فإلى أي مدى تعتبر هذه الرواية محاولة فنية منك لتحنيط الجمال ولذة الحواس طمعا في خداع الزمن الهادر والموت الغادر وتعويضا عن حتمية الفناء؟
لقد عبَّرت عن إحساسي كسائح ببساطة. السفر بالفعل هروب من الموت واحتفال بالحياة، لذلك لا نحب أن نراه في أماكن السياحة، والظريف أن أحباءنا الذين تركناهم خلفنا يسايروننا في هذا الإحساس.
نادرا ما يحاول أحدنا أن يبلغ عزيزا مسافرا بخبر سيئ، بل ينتظر حتى يعود. وربما نعامل المسافر معاملة الميت، فهو لا يملك أن يقدم عونا من مكانه البعيد، وهذا هو الوجه الملتبس للسفر، فهو مجاز الحياة والموت في الوقت ذاته.
لكننا في النهاية محكومون بالفناء، وهناك حد أقصى تستطيعه أرواحنا في التعامل مع الجمال ومع نسيان حقيقة الفناء، لذلك فقد تسرب الملل إلى جمال منصور في “كابري”، وقال إنه ثابت ويمكن تلخيصه في كلمتين “جميلة إلى الحد الأقصى”، وبدأ يفكر بفارق العمر بينه وبين حبيبته. ويبدو أن الرواية لم تستهلك كل أسئلتي حول السفر والأبعاد المختلفة للجمال، فدفعني ذلك إلى “غرفة المسافرين”.
وجوابا عن سؤالك: هل نستطيع أن نهزم الموت بالفنون والإبداع؟ أظن أن الجواب: نعم، إن نظرنا للبشرية على أنها امتداد واحد. بينما لا يمكن للإبداع أن يغير حقيقة الفناء الفردي.
مات المتنبي، ومات (الموسيقي النمساوي) موتسارت ومات نجيب محفوظ، لكنهم وغيرهم من المبدعين تركوا لنا ما يجمعنا ويجعلنا ننظر إلى حياة الجنس البشري كنهر يواصل التدفق، نرى فيه الخصب العام لا الموت الفردي.
-
بين النعيم المفقود والحلم المنشود والواقع المشهود، كيف تدفع الكتابة بوصفها حيرة دائمة ووعيا بقيمة، بالنقص الإنساني إلى إدمان الأسئلة تقصيرا لطريق الرحلة بين المشهود والمنشود؟
أعتقد أن الكتابة ابنة الإحساس بالخوف من مصير الفناء، هي وسيلة لإبعاد وحشة الأسئلة التي بلا إجابات، تكرار الكتابة عملا بعد آخر نوع من هدهدة الروح أو مغالطتها بالتظاهر بأننا نفعل شيئا. الكاتب يشبه الأم التي تطبخ أحجارا حتى ينام أطفالها الجوعى.