وكالات : كواليس
لم توجد مدينة في العالم تزهو بمقابرها مثلما تزهو القاهرة بمساكن موتاها، فأفسحت لهم المساحات الشاسعة، وأطلقت على مدنهم أسماء مبهجة، مثل “البساتين” و”تربة الزعفران” و”باب النصر” و “البقيع” و “غراس أهل الجنة”.
ومنذ أن تطأ قدماك القرافة، تأخذك لعالم آخر، يرقد فيه الأموات في هدوء أبدي لايدرون بما يدور حولهم من صخب وغضب واحتراب، وأنت تدب بقدميك فوق مقابر جبل المقطم أو “ترَّب” باب النصر أو الإمام أو السيدة عائشة وغيرها، وتشاهد أمامك قبور الأولياء والعلماء والعامة والملوك والأمراء، وشواهد من مئات السنين، لن يكبح جماحك إلا أن تخلع نعليك وتمشى الهوينا فى هدوء وإجلال، فكل التراب كان من أجساد غاليات، وعيون حسان، وصدور خافقات، ويحضرك ما قاله أبو العلاء المعري وهو يخاطب صاحبه:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد؟
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
وعندما تصل إلى “باب النصر” تتذكر أنه في هذا المكان دفن شيخ المؤرخين والعالم والفقيه تقي الدين المقريزى، والعلامة اللغوي ابن هشام صاحب الألفية في النحو، ومؤسس علم الاجتماع الحديث عبدالرحمن بن خلدون، الذين ضاعت قبورهم وأزيلت منذ سنوات قليلة بحجة التنظيم والتطوير، ولم يفلت منها سوى ضريح أمير المؤمنين فى الحديث العلامة ابن حجر العسقلاني ، وبالقرب منهم دفن العز بن عبدالسلام، والليث بن سعد.
والغرابة أن “القرافة” التي تتعرض للاغتيال يوما بعد آخر، تضرب بقوة في أعماق التاريخ، إذ إنها تفوق فى عمرها القاهرة التى اختطها جوهر الصقلي في 17 شعبان سنة 358 هجرية، ويرجع تاريخها إلى بداية الفتح الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص، الذي دفن بها ومعه ابنه عبدالله، مع جملة من الصحابة وأولادهم، وعلى رأسهم مسلمة بن مخلد، وعقبة بن عامر، ومحمد بن أبى بكر الصديق، ومعاوية بن خديج -رضي الله عنهم.
وبين يوم وآخر تكتشف الآثار التي ترجع لبدايات بناء القرافة، وكان آخرها، العثور على شاهد يزيد عمره عن 1225 عاما بمنطقة الإمام الشافعي لقبر أثري غير مُسجل لسيدة عاشت بالفسطاط وعاصرت الإمام الشافعي ودفنت بجواره التماسًا للبركة، و”سيدة الفسطاط” تُدعى عُبيدة بنت كامل القرشي، وقد كُتب على شاهد قبرها أكثر من 15 سطرًا تشهد على إيمانها بالله وملائكته وكتبه ورسله.
الأرض المقدسة
“القرافة” هي مدينة الموتى في قلب القاهرة الآن، وٌقِفَت “مقبرة للمسلمين” بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، ووصفت المنطقة المجاورة للإمام (الإمام الشافعي) بأنها “غراس أهل الجنة ” و(البقيع الثاني) لقداسة أرضها الطاهرة المباركة، لكثرة ما دفن فيها من الأولياء، وآل البيت ممن حضروا إلي مصر، والشيوخ والعلماء والملوك وأمراء الأسرة العلوية، ولهذا يقصدها بالزيارة رؤساء وملوك العالم.
ولعل هذا الجمع الغفير من موتى مشاهير مصر، لا يجتمع مثله في صعيد واحد في أي مكان في العالم، مما يمثل ظاهرة فريدة لجبانة انفردت بتسميتها بـ”القرافة” والدفن فيها مستمر لما يزيد عن 1420 عاما هجريا، ولهذا كانت “القرافة” نوعا من التراث الفريد والوحيد على مستوى العالم، ولفرادته تم تسجيله في نطاق القاهرة التاريخية على قائمة التراث العالمي باليونسكو عام 1979م وعلى قائمة التراث الإسلامي بالإيسيسكو عام 2019م.
وتعرضت “القرافة” للكثير من التعديات والانتهاكات من قبل الجهات الحكومية، مما دفع الناس لأن تظهر انزعاجها من هذا الوضع غير المألوف للمصريين للتعدي على حرمة الموتى، ممادفع المسؤولين في وزارة السياحة والآثار لمناقشة موضوع وضع القرافة على خريطة السياحة، ومع أنه لم تتخذ قرارات فعلية في هذا الملف حتى الآن.
ومع توالي التعديات التي لحقت القرافة خلال الفترة الأخيرة علت الأصوات مطالبة بضرورة الكف عن مزيد من الإزالات، والتفكير في استغلال القرافة التاريخية وتطويرها سياحيا لتضاف إلى معالم مصر السياحية بما تضمه من كنوز أثرية وشخصيات تاريخية وفنون أبدعتها يد الفنان المسلم على مر العصور، وكان الدكتور مصطفى الصادق مؤلف كتاب “كنوز مقابر مصر” وأحد المطالبين بحماية هذه الآثار، ووقف مدافعا عنها في كل المنابر، ويقول للجزيرة نت: لقد علمنا أنه تم تكوين لجنة جديدة للبت في منطقة القرافة برئاسة الدكتور جمال عبدالرحيم أستاذ الآثار، والدكتور مختار الكسباني أستاذ الآثار بجامعة القاهرة.
ويضيف الصادق قائلا: “ولذلك أنا غير متفائل لأن الأشخاص المسؤولين عن اللجنة من أنصار دعوة هدم المقابر، بحجة أنها غير مسجلة آثارا، وهذا ليس سببا للهدم، فتراخي المسؤولين عن تسجيل الآثار لا يعني هدمها، بل هي آثار بحكم القانون، وليس بحجة التسجيل، وبالفعل تم وضع علامة ( x ) الحمراء على بعض الأحواش، ومنها حوش مقبرة يحيى باشا إبراهيم رئيس وزراء مصر الأسبق من (1933 حتى 1934) وهذا معناه أن مسلسل هدم الآثار في القرافة مستمر ولم ينته بعد”.
حقب من التاريخ
وحول أهمية المقابر ومكانتها في وجدان المصريين على مدى التاريخ الطويل، يقول الدكتور خالد عزب خبير الآثار للجزيرة نت: أنفق المصري القديم الكثير من الوقت والجهد والمال للإعداد للموت وتجهيز مقبرته، وآثار مصر التي يقبل عليها السياح من كل أنحاء العالم ما هي إلا مقابر، الأهرام في الجيزة وسقارة ودهشور كلها مقابر، ووادي الملوك ووادي الملكات في الأقصر أيضا مقابر شيدها المصري القديم، وفي العصور الإسلامية مقابر المماليك في القرافة، وأشهرها مدرسة السلطان قايتباي ما هي إلا مقبرة للسلطان.
الآن مصر تزيل حقبة كاملة من تاريخها بإزالة مئات المقابر التي هي حلقة في تاريخ تطور عمارة المقابر منذ عصور ما قبل التاريخ إلى الآن، فالمقابر في مصر لم تكن مكانا لدفن الموتى بقدر ما هي تعبير عن الرغبة في حياة أبدية سعيدة في العالم الآخر، لذا صار للموت قدسية وحرمة في مخيلة المصريين، وصار للموت فلسفة في حياة المصريين، وحين تقوم بإزالة مقابرهم فأنت بذلك تجرح هذه المخيلة وتعرض نفسك للسخط واللعن.
ويستطرد عزب قائلا: القضية هنا أيضا ترتبط بأن المشاهير والأعلام من المصريين دفنوا في القرافة القاهرية منذ الفتح العربي إلى الآن، “ورش” وهو صاحب القراءة القرآنية الشهيرة في العالم مدفون في القرافة (رواية ورش عن نافع هي إحدى الروايات المتواترة التي يُقرأ بها القرآن الكريم، تنسب إلى أبي سعيد عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان الملقب بورش “110 هـ / 197هـ”.
ومن المدهش أن العديد من مقابر مشاهير المصريين ألفت حولها المؤلفات، الكندي والقضاعي وغيرهم ألفوا كتبا في الزيارة وإرشاد الزائرين لمقابر الأولياء والمشاهير، ونذهب معا إلى السيدة نفيسة التي دفن إلي جوارها أمير الشعراء أحمد شوقي (1868/1932) ومدفنه تحفة فنية، وبالقرب منه قبر حافظ ابراهيم (1872/1932م) الذي شيد بطريقة معمارية فريدة، وهو مثل تصميم قبر حافظ الشيرازي الشاعر الإيراني الشهير (نحو 725-792 هـ) المدفون في شيراز وحولت إيران قبره إلى مزار سياحي، وعلى بعد خطوات منهما قبر الشيخ محمد رفعت (1882/1950م) أشهر من قرأ القرآن الكريم في القرن الـ20، وهناك أيضا ضريح الشاعر محمود سامي البارودي باعث النهضة الشعرية الحديثة .
وما لا يعرفه الكثيرون -كما يقول خالد عزب- أن مناطق القرافة في مصر من مصر القديمة إلي العباسية إلي جوار سفح المقطم لو في بلد آخر لصارت منطقة حفائر أثرية ستقدم لنا الكثير من المعلومات المفقودة من تاريخنا وتكشف عن تراث مفقود، فمثلا مدينة العسكر التي كانت عاصمة مصر في العصر العباسي تقع أسفل مقابر السيدة نفيسة، بل إن مسجد السيدة نفيسة بني فوق المسجد الجامع لمدينة العسكر، وبالتالي ستجد حول هذه المنطقة تلالا أثرية أقربها التلال التي بنيت عليها منطقة زينهم.
تأكل القرافة
وعن نشأة “القرافة” وأهميتها التاريخية قال الدكتور محمد حمزة عميد كلية الآثار جامعة القاهرة الأسبق “للجزيرة نت”، “القرافة كانت وقفا على دفن موتى المسلمين بأمر الخليفة عمر بن الخطاب، عقب الفتح العربي الإسلامي لمصر بقيادة عمرو بن العاص فاتحها وأول ولاتها والذي دفن على أرضها بموضع قبة عقبة بن عامر، ولذلك كان العديد من الفقهاء لايجيزون سوى بناء الترَّب والمقابر بالقرافة لأنها وقف للدفن فقط”.
ويضيف الدكتور محمد حمزة : “نمت القرافة وتمددت مع ميلاد مدينة الفسطاط وتوسعت في سفح المقطم شمالا وشرقا حتى ميدان العباسية الحالي، ولم يفصل بينها ويقطع وحدتها سوى القلعة في العصر الأيوبي، فأصبح لدينا قرافة شمالية بمسمياتها المختلفة حتى العباسية، وقرافة جنوبية بمسمياتها المختلفة أيضا حتى البساتين جنوب القاهرة حاليا، وكذلك كان للطرق الحديثة أثرها في فصل القرافة عن بعضها وقطع الاتصال بينها وهدم بعضها الآخر، ومنها طريق صلاح سالم منذ الخمسينيات وطريق الأوتوستراد منذ الستينيات، وهو ما يحدث حتى الآن بسبب المشروعات القومية وخلق محاور مرورية جديدة من أجل السيولة المرورية، وما أدى لتآكل القرافة وفقداننا لأجزاء ومقابر تاريخية كانت تعتبر مزارات مهمة، وهناك الآلاف من الأحواش والمقابر ذات الطراز المعماري المتميز والطابع الفني النادر في تراكيبها وشواهدها وأبوابها وسقفها التي يجب أن يحافظ عليها وتبقى في موضعها ويتم ترميمها وصيانتها وتحديد حرم لها وتسجيلها في عداد الآثار”.
وأخيرا اتجهت وزارة السياحة للاهتمام بالقرافة والتخطيط لوضع القرافة على خريطة السياحة الثقافية، فهذا أمر جيد، ولكن أنبه إلى أن هذا الاهتمام لا يجب أن يقتصر على الاهتمام بمزارات آل البيت فقط، فهناك في القرافة مزارات مهمة ومن الممكن أن تجذب إليها الملايين من السياح في كل عام من مؤرخين وأولياء وعلماء، وإن كنا فقدنا الكثير من مقابرهم مثل مقبرة المقريزي المؤرخ العظيم، ومقبرة عبدالرحمن بن خلدون رائد علم الاجتماع في العالم كله، فضلا عن مقبرة سلطان العلماء العز بن عبدالسلام التي انهارت بالإهمال، دون أن يلتفت أحد لترميمها بحجة أنها ليست مسجلة كأثر، وهناك الآلاف من المقابر المهمة غير مسجلة، وهذا ليس سوى إهمال وتجاهل من المسؤولين، ثم تأتي الهجمة التتارية بإزالة المئات من هذه المقابر بحجة التطوير والمشروعات القومية.
التاريخ لا ينسى
ويستطرد الدكتور محمد حمزة: “وأقول للمسؤولين بمحافظة القاهرة والجهات المسؤولة عن التنفيذ والحكومة إذا كان ماتقومون به من مشروعات قومية مهمة سوف يذكرها التاريخ، فإن التاريخ نفسه لن ينسى من كان وراء هدم التراث وتشويهه وعدم المحافظة عليه وصيانته وترميمه وتطويره وتنمية بيئته ومحيطه، ولنا في التاريخ عبرة وعظة، فهل نسي التاريخ حرق تراث مكتبة الإسكندرية عام 48 ق م رغم إنجازات القيصر المتسبب في ذلك؟ وهل نسي التاريخ ما فعله صلاح الدين (رغم إنجازاته وشهرته) في مكتبة الفاطميين بعد أن قضى على دولتهم 567 هجرية/1171م؟ وهل نسي التاريخ ما فعله المغول أو التتار على يد هولاكو في مكتبة بغداد العظيمة 656 هجرية/1258 م؟ وهل نسي التاريخ حريق مكتبة ابن رشد على يد خليفة الموحدين رغم إنجازاته وشهرته؟ وهل نسي ما فعله الأمير جهاركس الخليلي في عهد السلطان الظاهر برقوق في تربة الخلفاء الفاطميين المعروفة بتربة الزعفران وإقامة خان محلها، المعروف بخان الخليلي حتى الآن؟”
ويضيف “حسبنا قراءة ما قيل عنه وحدث له في المقريزي وابن تغري بردي وابن إياس وعلى باشا مبارك وغيرهم؛ ولم ينس التاريخ القديم والوسيط والحديث تحويل المعابد المصرية القديمة إلى أديرة وكنائس، وتحويل الكنائس إلى مساجد ثم تحويل المساجد إلى كنائس، وهل نسي التاريخ القريب حريق المجمع العلمي المصري عقب أحداث ثورة 25 يناير 2011م؟”.
ويتساءل حمزة قائلا: “هل يعقل أو يتصور أن تقوم الجهات المعنية بهدم الجانب الغربي من معبد الأقصر لتوسيع الكورنيش وإنشاء كوبري من أجل الصالح العام والمنفعة العامة ونفس الشيء في وادي الملوك وهل يتصور هدم أي من المقابر من أجل المشروعات التنموية والسياحية وبالتالي الصالح العام والمنفعة العامة في المنطقة، ومع ذلك فلو كان الهدم هو الحل الوحيد فيجب عدم القيام بعملية فك وإعادة البناء في موقع آخر وليس الهدم، ومن ثم على الجهات المعنية أن تحافظ على قرافات القاهرة وجبانتها التاريخية الفريدة على مستوى العالم”.
ومن ناحيته قال الدكتور جمال عبدالرحيم، أستاذ الآثار الإسلامية بجامعة القاهرة وعضو اللجنة الدائمة للآثار، إن الدولة ممثلة في الهيئة العليا للآثار لا تدعو إلى هدم المقابر، الدولة لا تهدم المقابر أو أي مبنى أثري، لكنها تسعى لتطوير هذه الأماكن، وتقديم أفضل الخدمات لسكان هذه المناطق، من خلال إنشاء المشروعات القومية، موضحا أن قرار إنشاء مقبرة الخالدين أمر مدروس.
مؤكدًا أن المقابر في الإمام الشافعي الآن تتعرض لمجموعة من العوامل التي تهدد وجودها، خاصة وجود المياه الجوفية، كما أن هناك أكثر من 100 مقبرة مهددة بالانهيار، ولهذا تضع الدولة خطة لإنشاء مقبرة الخالدين تضم أبرز الرموز في جميع التخصصات، كما أنها ستكون بمثابة مزار سياحي لأن هذه المقبرة بمثابة أرشيف للشخص المتوفى.