وكالات : كواليس
غزة- هو عالم استثنائي في زنازين أشبه بالقبور، الحياة فيها “متأرجحة” بين عالمي الأحياء والأموات، وهي لحياة البرزخ أقرب، كما يصفها الأسير الفلسطيني حسن سلامة، الذي قضى فيها أكثر من 13 عاما من فترة حكمه البالغة 1175 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
هذه الأعوام التي قضاها داخل العزل قدّرها الأسير سلامة بـ5 آلاف يوم، واختارها عنوانا لكتابه “خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ” الذي تضمن في نحو 200 صفحة حكايات مشوقة لحياة لا تشبه الحياة داخل زنازين العزل التي تنقل بينها كلها منذ اعتقاله عام 1996، لمسؤوليته عن قيادة عمليات فدائية يطلق عليها “الثأر المقدس”، ردا على اغتيال يحيى عياش، القائد في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
لم يبصر هذا الكتاب النور بسهولة، وكانت ولادته عسيرة، واستغرق سنوات من الكتابة داخل زنازين الاحتلال وسجونه، وتم تهريبه على أجزاء ودفعات عن طريق ما يصطلح عليه بلغة الأسرى “كبسولات”، بحيث يتم طي الورق جيدا وتغليفه بقطعة بلاستيكية، ليشبه شكلها النهائي “كبسولة الدواء”، ليسهل بلعها في حال اكتشافها من “إدارة السجون” مع زوار الأسرى.
زنازين الموت البطيء
أقسام العزل، أو أقسام الموت البطيء، كما يصفها الأسير حسن سلامة، يقول عنها “هي حياة وسط ما بين الحياة الطبيعية وحياة البرزخ، وهي لحياة البرزخ أقرب، وفي كل لحظة تتسع المسافة بينها وبين الحياة العادية، وتضيق المسافة بينها وبين حياة البرزخ، أيهما سيسبق”.
تحكم زنازين العزل قوانين صارمة، وقائمة طويلة من “الممنوعات” تفرضها سلطات الاحتلال، كان لصاحب هذا الكتاب “قسط وافر” من عذاباتها، كالمنع من زيارة الأهل، وإدخال الكتب، ونوعية الطعام وكميته.
يتساءل المؤلف “كثيرا ما أفكر وأقول: هل يستطيع أن يتفوق الإنسان بشرّه وإجرامه على الشيطان صاحب الاختصاص؟ فإذا بهؤلاء القوم يتفنون بكل شيء لا أخلاقي، لا إنساني، بل يبدعون في مجال الشر والخبث”.
يعيش المعزولون في سجون صغيرة داخل السجن، هي زنازين بطول مترين وعرض متر واحد داخل أقسام العزل الانفرادي. لكنها غالبا ليست انفرادية، ففيها تزاحم الأسير المعزول قوارض وأنواع مختلفة من الحشرات، وهي من الأسباب الرئيسية التي حددها الأسير سلامة لعدم قدرة المعزولين على النوم والراحة، ومنها أيضا الاقتحامات الليلية، والاعتداءات والتفتيش العاري، والإزعاج المستمر من الحراس والسجناء الجنائيين.
مع مرور الأيام على الأسير سلامة في العزل، تطورت علاقته مع من وصفهم في كتابه بـ”السكان الأصليين” للزنزانة، من قوارض وحشرات، بدأت بارتكابه “مجازر” لم تفلح في القضاء عليها، وصولا إلى المهادنة والموافقة على مشاركتها له حياته داخل الزنزانة، شرط عدم اعتداء أي طرف على الثاني.
نصف حمامة
ما كان لصاحب عمليات “الثأر المقدس” أن يستسلم، فخاض إضرابات عن الطعام، ونجح في انتزاع “بعض” حقوقه، وشعر بالانتصار على بساطتها، لكن ما لبثت إدارة السجون أن تراجعت وضيقت عليه كعادتها في “نكث العهود”، حسب وصف سلامة.
ورغم هذا التضييق، نجح في نسج “علاقة مصالح” مع سجين جنائي عربي، تتيح له إدارة السجن الحركة مع هامش حرية بين الزنازين، يقدم له سلامة نصيبه من “السجائر” اليومية التي لا يدخنها مطلقا، في مقابل تسهيلات خفية بعيدا عن أعين الإدارة والسجانين.
ويروي سلامة قصة طريفة عندما ألقى هذا السجين -واسمه “عصام”- بنصف حمامة مذبوحة له داخل الزنزانة، وأخبره أنها من جاره في الزنزانة المقابلة، اصطادها بيده من على شباك زنزانته التي كانت إطلالتها مميزة على الجهة الخارجية لقسم العزل.
ويقول: “عندما تأكدت أنه ذبحها بطريقة شرعية، شعرت أنها هدية من السماء، وطبختها ولم يكن لدي من البهارات سوى الملح، وأكلتها بعظمها، وكان ذلك يوما مشهودا”.
فيسبوك الزنزانة
سلامة، الذي أسفرت عملياته الفدائية عن مقتل وجرح عشرات الإسرائيليين، لم يشأ أن تهتز صورته أو أن تلين عزيمته في عيون السجانين، لذلك فإنه يواظب على ممارسة الرياضة يوميا، متعاليا على القيود الحديدية في ساعديه وساقيه.
ويقول عندما زارتني والدتي أول مرة أنزلوني مقيد الأيدي من الخلف، ومقيد الأقدام، وما إن شاهدتني حتى صرخت “أهلاً وسهلاً بالبطل، ما يهمك يمّا، هؤلاء لو أنهم مش خايفين منك ما عملوا معك هيك، اصمد يا حسن، وارفع راسك”، لترفع كلماتها من معنوياته.
هو الخوف، أو غالباً الرغبة في الانتقام من الأسير سلامة الذي جعله باستمرار عرضة لتعريته من ملابسه، والاعتداء عليه بالضرب المبرح، ونقله من عزل إلى عزل في كل السجون، ووضعه في زنزانة إلى جانب زنازين سجناء جنائيين، يصف بعضهم سلامة بـ”المجانين”، لا يكفون عن الصراخ والشتائم النابية بالعربية والعبرية.
ورغم مرارة العزل، فإن عذاب سلامة كان أهون على نفسه، في المرات التي تجاور فيها زنزانته أسرى أمنيين، يستطيع أن يتواصل معهم حتى لو بالصراخ من خلف الأبواب والجدران، حتى أطلقوا في عزل “سجن أيالون” على شباك المرحاض “فيسبوك القسم”، ومن خلاله كان يتواصل مع جيرانه في الزنازين المجاورة.
“كان تجمّعنا في هذا القسم يخفف عنا جداً، نتحدث، ونتناقش، خصوصاً ليلاً عبر فتحات فيسبوك الخاصة بنا، نسمع الأخبار، ونأتي لنناقشها، ونحللها، ومنا من يكتب الشعر”، بحسب سلامة، ويتابع: “في أوقات برنامج الأسرى، وهو بريد التواصل مع الأهل من طرف واحد عبر المذياع (الإذاعات المحلية)، يكون هناك هدوء، الكل يجلس ليستمع، لعل الأهل يتحدثون”.
وفي هذا القسم، أدى سلامة صلاة الجمعة جماعة -أول مرة- منذ سنوات، رغم الجدران العازلة بين الزنازين، بعد “اتفاق سرّي” بين المعزولين، وقد خطب فيهم أسير من حماس من داخل زنزانته.
هذا هو العنوان الذي اختاره سلامة للفصل الثالث من كتابه، وخصصه لحكاية حب غريبة بدأت من طرف غفران زامل، وكانت في ذلك الحين أسيرة تقضي حكما بالسجن 10 شهور، لنشاطها الإعلامي مع حركة حماس بالضفة الغربية.
كانت الأسيرة أحلام التميمي -التي تحررت في صفقة وفاء الأحرار- “حلقة الوصل” مع سلامة، وأخبرته في رسالة عبر محام أن غفران “وهبت نفسها من أجلك”، وهي تعلم كل ظروفك وتصرّ على الارتباط بك.
كان وقع الرسالة مفاجئا لسلامة، ويقول: رفضت العرض بسبب ظروفي المعقدة، حرصا على الفتاة، فقد كنت متزوجا قبل اعتقالي لمدة أسبوع، وانفصلت عن زوجتي حرصا عليها وكي لا تظلم معي.. وكتب سلامة لغفران يشيد بها وبتضحياتها، وأنه لو كان حرا لارتبط بها دون تردد.
لم يتأخر رد غفران نفسها هذه المرة، وجاءته رسالة مطولة منها بعد نحو أسبوعين، تحدثت فيها بشكل واع عن دور المرأة، وأن قرارها مدروس، وليس عاطفيا أو متسرعا، وأنها قررت مشاركته حياتها والعيش معه سويا.
وأمام هذه المشاعر استسلم سلامة وتمت خطبته لغفران، ويقول: صدقا لا أستطيع التعبير عن مشاعري: عزل، وهم، وحياة كلها صعوبات وحرمان، وفي الوقت نفسه خطوبة، وخليط من المشاعر، وكأن الله جعلها تدخل حياتي للتخفيف عني، وفعلا فقد أنستني كل همومي، وشعرت بنافذة أمل قد فتحت لي من جديد، حتى أصبح الأسرى يقولون: “حسن قبل غفران ليس كحسن بعد غفران”.
بعد خطوبتنا، أصبحت أجلس بجانب الشباك ليلا، لأرى القمر من خلال فتحات ضيقة، ولم يكن قبل ذلك يعني لي شيئاً، أما الآن فأصبحت أبحث عنه كي أراه وأسرح في جماله، بل أوقظ أبا غسان (الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات، شريك سلامة في الزنزانة) ليشاركني اللحظة، وأجلس بعدها أكتب الرسائل المليئة بالمشاعر والأحاسيس، مستعينا بمفردات وتعبيرات كسبتها من قراءة روايات لأحلام مستغانمي، سمحت إدارة السجن بإدخالها.
تحررت غفران، وعقد سلامة قرانه عليها بواسطة “توكيل” لأسير محرر، ووصلته أول مرة صور لها مع عقد الزواج عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكانت فرحته بها غامرة، إلا أن إدارة السجن تنغّص عليه فرحته برفض طلبات زيارتها له كزوجة، لرفضها الاعتراف بهذا الزواج.
يقول سلامة: سيكون لقائي بغفران رغماً عنهم بانتصار أعظم، وبصفقة وفاء أحرار جديدة.
في إحدى الجلسات الأولى لمحاكمته، أجاب سلامة عن سؤال لصحافيين إسرائيليين: هل تتوقع حكم الإعدام؟ قائلاً بلا تردد: “سأخرج أقرب مما تتصورون”، ووقتها ضحكوا كثيرا، ورغم رفض إسرائيل أن تشمله صفقة وفاء الأحرار عام 2011، يملأ التفاؤل سلامة بالحرية قريباً في صفقة تبادل جديدة.
ويروي ما قاله لضباط إسرائيليين طلبوا لقاءه داخل السجن للحديث عن الأسرى الإسرائيليين لدى حماس في غزة: هل أنت متفائل بالفرج؟: أكيد، وأنا على يقين من ذلك، ولن يتكرر ما حدث بالصفقة الأولى، ولكن أنصحكم بعدم الإفراج عني، لأني سأخرج وأجعل الدنيا عليكم جحيما.