وكالات : كواليس
تعرض المفكر الفلسطيني جوزيف مسعد، أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا العريقة بمدينة نيويورك الأميركية، لحملة مؤخرا تهدف إلى فصله من الجامعة، حيث نظمت طالبة بجامعة كولومبيا عريضة من أجل الضغط على الجامعة لطرد مسعد.
وقد تبين فيما بعد أن الطالبة عملت سابقا صانعة محتوى لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي، وحصلت العريضة على ما يقارب من 80 ألف توقيع شملت أسماء مهمة، مما يجعل الأسئلة المرتبطة بمن يحركها أسئلة مشروعة تحتاج لإجابة.
وتتهم العريضة جوزيف بأنه يدعم “الإرهاب” بحسب وصفها ويتسامح معه، وأنه يرفض استنكار أفعال حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، ومن ثم قالت هذه الطالبة إنها والكثير من زملائها الطلاب يشعرون بعدم “الأمان” حين يدرسهم شخص مثل جوزيف يدعم قتل المدنيين.
هذه الحملات تظهر مدى أهمية مواقف البروفيسور جوزيف مسعد باعتبارها مبنية على أرضية معرفية قوية أظهر فيها ارتباط الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بحركات الاستعمار والكولونيالية في العالم الغرب.
فما الذي يخبرنا به البروفيسور جوزيف مسعد بخصوص الحملة التي تعرض لها ومن كان خلفها؟ وكيف أصحبت الجامعات الغربية تضيق الخناق على الأكاديميين الداعمين للقضية الفلسطينية؟
في الجزء الأول من حوار مسعد مع الجزيرة نت، أظهر كيف يرتبط الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي بحركة الاستعمار الغربي، وقارن -على الجانب الآخر أيضا- بين المقاومة في فلسطين وتاريخ حركات المقاومة في العالم، معتبرا أن إسرائيل تبنت أبشع صور الحضارة الغربية المتمثلة في عنصريتها واستعلائها وتحيزها للعنف ضد المدنيين.
وفي هذا الجزء الثاني والأخير من الحوار، يشرح الأكاديمي والكاتب بنيوية العنف في إسرائيل وعدم ارتباطه بحزب معين، ويشرح كيف أصبحت الجامعات الغربية تضيق الخناق على الأكاديميين الداعمين للقضية الفلسطينية.
-
هل وصول حزب يميني للحكم في إسرائيل، هو سبب ما يحصل اليوم في فلسطين؟
هناك إجماع في إسرائيل اليوم من قبل جميع الأطراف على إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، وهناك إجماع في إسرائيل على أن تكون هذه الحرب حربا قاسية.
الاختلافات هي حول التكتيكات المتبعة، وليس حول أهداف الحرب، هي حول كيف يمكن لإسرائيل الترويج لهذه الحرب إعلاميا وعالميا، وكيف أفسدت مناقشة عدد الفلسطينيين الذين قتلوا صورة إسرائيل في الغرب، وعليه فإن الاختلافات تكون في أشياء مشابهة تصب دوما في مصلحة إسرائيل واستعداء الشعب الفلسطيني ومصالحه، هذه الاختلافات هي شكلية، وليست حول جوهر الأهداف الكبرى للدولة المتمثلة في إبقاء دولة إسرائيل وفق ما تم تأسيسه على أنها دولة تقوم على فوقية العرق اليهودي ودونية العرق الفلسطيني.
إن فوقية العرق اليهودي ودونية العرق الفلسطيني بالتحديد هي نقطة يرفض الغرب المساس بها، يمكن أن يتم التفاوض عن طريق الغرب مع إسرائيل على نقاط عدة بخصوص الاحتلال الإسرائيلي وممارساته (قبل طوفان الأقصى)، ولكن لا يمكن التفاوض مع الدول الغربية على طبيعة دولة إسرائيل وحقها في أن تكون دولة عنصرية قائمة على التفوق العرقي اليهودي، فهذا أمر مرفوض وغير قابل للنقاش، بسبب استثمارهم في استمرارية هذا النهج الاستيطاني.
مجال التفاوض يكون فقط حول طبيعة “المحميات” الفلسطينية التي يمكن أن نسميها “دولة” مثلا، رغم أن هذا المشروع أيضا لم يعد قائما. بشكل عام فإن المعارضة ضد حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل منذ ديسمبر/كانون الأول 2022 قامت بسبب النهج القانوني الذي يتبعه نتنياهو، والذي اعتبرته المعارضة الإسرائيلية على أنه سيؤثر على حقوق اليهود، لذلك خرجت ضده مظاهرات طيلة السنة الماضية.
لم تظهر تلك المظاهرات أي تعاطف مع الشعب الفلسطيني، بل انصب اهتمامها على مستقبل حقوق اليهود في ظل حكومة نتنياهو؛ ومن ثم فإن الاختلافات تتمحور حول “إدارة المستوطنات” وماهية الحقوق التي يجب أن يحافظ عليها لليهود المستوطنين في إسرائيل، ولكن ليس هنالك أي نقاش حقيقي حول وضع الفلسطينيين، وعليه ليس هناك معارضة إسرائيلية حقيقية، كل من يتكلم عن وجود معارضة إسرائيلية حقيقية ضد السياسات الإسرائيلية المطبقة على الشعب الفلسطيني، فإنه لا يعرف إسرائيل من الداخل، ويتكلم عن جهل حول ما يحصل على الصعيد السياسي داخل إسرائيل.
-
انتقدت “مبادرات السلام” مثل “اتفاق أوسلو”، وتذهب لما هو أبعد بنقدك لما أسميته بـ”قاموس الاحتلال” الذي يردده العرب، كيف ذلك؟
أعتقد أن هنالك مفردات أيديولوجية صهيونية تستخدم باستمرار على أنها مفردات محايدة يستخدمها العرب كثيرا، فما يسمى بـ”النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”، ما المقصود بـ”النزاع” هنا؟ لم نسمع يوما أن هناك “نزاعا جزائريا فرنسيا” مثلا أو “نزاعا” بين البيض والسود في جنوب أفريقيا، بل هنالك حركة مقاومة الاستيطان وتحرير من الاستعمار، وهي ليست بنزاعات، النزاع يكون بين دولتين جارتين تتنازعان حول الحدود، وعليه ما يحصل بين الفلسطينيين وإسرائيل ليس بنزاع، بل حركة تحرير من الاستعمار.
وعليه، فإننا إزاء مصطلحات صهيونية استدخلها الغرب، ويرددها العرب مع الأسف دون وعي منهم على أنها محايدة، وعليه فإن مفردة “السلام” هي مفردة أميركية أسس لها مهندس السياسية الخارجية في ذلك الوقت هنري كيسنجر على أنها “عملية سلام”، تقضي باستمرارية “العملية” دون تحقيق أي “سلام”، وذلك على أساس أنه لا يمكن أن تكون هناك أي مفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا بعد اعترافها بحق إسرائيل بالوجود، أي بحق وجودها كدولة يهودية قائمة على تفوق العرق اليهودي.
اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل يعني بالضرورة خسارة الشعب الفلسطيني لمعظم حقوقه، وهو ما حصل بالضبط عام 1988، مما أدى إلى حدوث “خيانة” اتفاقية أوسلو عام 1993، وكل الخيانات التي لحقت بها إلى اليوم من قبل السلطة الفلسطينية المتعاونة مع النظام العنصري في إسرائيل، والتي تنسق معه إلى اليوم لقمع مقاومة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وعليه فإني أعتقد بشكل عام أن معظم هذه الأفكار لها جذور صهيونية، فمثلا يمكن أن نستشف في “حل الدولتين” أن كلمة “حل” صهيونية، وذلك بسبب أن الحل الوحيد للاستعمار يتمثل في نهايته، وليس عبر إيجاد “حلول” بديلة له، وكذلك محاولة تشبيه ما يحصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أنه سوء فهم، أو مبني على كراهية تاريخية بين الشعبين، يمكن أن تفكك ببناء خطاب توافقي بينهما، ما يهدف هذا الخطاب للقيام به يتمثل في محو علاقات القوى بين الطرف الإسرائيلي كمستعمر وشعب فلسطيني مستعمر سلبت منه أرضه ووطنه، ويرزح تحت الاحتلال والنظام العنصري الإسرائيلي إلى اليوم.
وفشل “حل الدولتين”، الذي اقترحته في البداية لجنة بيل البريطانية الاستعمارية في عام 1937، وأضفت عليه الأمم المتحدة صبغة عالمية رسمية بعد عقد من الزمن عبر دعم القوى الإمبريالية الغربية والاتحاد السوفياتي لقرار التقسيم الصادر عام 1947، كان له أثر كبير على مستقبل المستعمرة الاستيطانية الصهيونية في فلسطين.
وقبل هذا كانت الحركة الصهيونية فاشلة في إقناع غالبية اليهود الأوروبيين والأميركيين بالقدوم إلى فلسطين بين عامي 1897 و1947 (أو حتى منذ ذلك الحين) وخاصة في ظل فشلها في الاستحواذ على أكثر من 6.5% من الأراضي الفلسطينية خلال تلك الفترة، هو ما استلزم ابتكار ترتيب لإقامة مستعمرة استيطانية يهودية في أجزاء من فلسطين على الأقل، نتيجة صعوبة إقامتها على كامل أراضي فلسطين.
ورغم فشل هذا الحل الذي صرفت عليه المليارات، ويتمسك به بعض الحكام العرب وبعض الليبراليين العرب ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد عام 1988 يتمسكون به على أنه “حل عملي”، فإنه في حقيقة الأمر طريق إلى الهلاك كما رأينا، وقد أدى إلى تحويل منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت منظمة مقاومة تمثل الشعب الفلسطيني وطموحاته للتحرير والاستقلال إلى منظمة متعاونة وخائنة تتعاون مع عدو الشعب الفلسطيني، وهذا بحد ذاته إنجاز مهم لإسرائيل التي كانت تبحث باستمرار لإيجاد قيادة فلسطينية بديلة تتحدث باسم الشعب الفلسطيني بدلا من منظمة التحرير الفلسطينية.
نتيجة اعتراف حركة عدم الانحياز وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني في عامي 1973 و1974، اختارت إسرائيل أن تتعامل مع رؤساء البلديات الضفة الغربية وقطاع غزة الذين تم انتخابهم تحت إشرافها في انتخابات 1972 على أنهم الممثلون الشرعيون للفلسطينيين بدلا من منظمة التحرير الفلسطينية، وعندما قررت إسرائيل إجراء هذه الانتخابات مرة أخرى في عام 1974 تزامنا مع حصول منظمة التحرير على شرعيتها الدولية.
وكان رؤساء البلديات الذين فازوا بالانتخابات تابعين لمنظمة التحرير الفلسطينية، ليفشل المشروع الإسرائيلي حينها ولتتجه مباشرة لخطة أخرى متمثلة في “روابط القرى” في الريف الفلسطيني، حيث نصبت على الفلسطينيين بعض المتعاونين مع إسرائيل باعتبارهم الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وبالطبع فشلت في ذلك وفشل المشروع، وأدان الشعب الفلسطيني هذه المحاولة ومن تعاون معها.
استغلت إسرائيل زمن سقوط المعسكر الشرقي والاتحاد السوفياتي الذي كان يقدم بعض الدعم للشعب الفلسطيني في المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي، وكذا إساءة فهم موقف ياسر عرفات من اجتياح العراق للكويت وما جرته من عواقب متمثلة في انقطاع كل المساعدات المالية لدول الخليج لمنظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك العراق التي كانت ترزح تحت الحصار بعد عام 1991.
وكل هذا أدى بمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الإفلاس ماديا ودبلوماسيا في تلك الفترة؛ مما دفعها إلى تبني موقف ضعيف لها على المستوى الدولي، لتستغل إسرائيل هذه الفرصة، وتكف عن محاولة إيجاد بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، وانتهجت منهجا جديدا يقتضي تحويل منظمة التحرير الفلسطينية إلى بديل عن نفسها، وهذا بالضبط ما يمكن اعتباره عملية أوسلو لـ”حل الدولتين” الذي بدأ في الحقيقة في مؤتمر مدريد عام 1991، ولكن لم تظهر نتائجه المرجوة إلا بعد مفاوضات سرية جمعت بين إسرائيل وياسر عرفات وفريقه المفاوض عام 1993، لتتحول منظمة التحرير الفلسطينية إلى منظمة متعاونة وخائنة لشعبها، ولم تعد تمثل الشعب الفلسطيني، حينها فقط حظيت منظمة التحرير الفلسطينية باعتراف كل من إسرائيل والغرب بها على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
كما أن “حل الدولتين” يضفي الشرعية على إسرائيل، بينما يمنح جائزة ترضية لمنظمة التحرير الفلسطينية على شكل دويلة مؤجلة إلى أجل غير مسمى. بالنسبة إلى الإسرائيليين، الذين كتبوا نصوص اتفاق أوسلو منفردين ودون شريك، لم تكن صفقة أوسلو أكثر من حيلة علاقات عامة لتسويق “حل الدولتين”، بينما هم يحضرون للحل النهائي، ألا وهو “حل الدولة الواحدة”، كما أن إسرائيل لا تمتلك إستراتيجية بعيدة الأمد لـ”إنهاء الصراع” وإنهاء “القتال” أو إنهاء ” الفوقية العرقية” أو الاستعمار، بقدر ما أنها تعمل وفق تكتيكات آنية قصيرة الأمد لاستدامة الوضع.
-
في الآونة الأخيرة نشهد ارتفاع وتيرة التطبيع العربي مع إسرائيل، هل التطبيع قد يتوقف جراء ما يحدث في غزة؟
هنالك خطر على المطبعين من ردة الفعل الشعبية التي كانت قد خفتت في الآونة الأخيرة وارتفعت وتيرتها مؤخرا بعد عملية “طوفان الأقصى”.
كما أعتقد أن معظم الحكام الذين ينتهجون منهج التطبيع ليس في صالحهم فوز حماس، بل هم يراهنون على هزيمتها وهو ما تتمناه السلطة الفلسطينية في رام الله، لأن فوز حماس يضرهم وسيضر مصالحهم، ولكن خاب ظنهم في إسرائيل وأدائها العسكري المتسم بعدم الجاهزية شأنهم في ذلك شأن القوى الغربية، حيث كانوا يعولون على مقدرة إسرائيل في حماية عروشهم من أي تهديدات داخلية أو خارجية، واتضح أن إسرائيل لا تستطيع حماية نفسها دون حماية من الغرب، إذ كشفت عملية “طوفان الأقصى” أن إسرائيل تحولت إلى دولة عالم ثالث في يوم واحد بفعل اختراق حماس الذي وصل إلى قلب إسرائيل.
هنا تكمن المفارقة بأن الإمدادات العسكرية والمالية لم تنقطع عن إسرائيل منذ أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، في المقابل لم تصل للمقاومة أي إمدادات، بل لم يصل للشعب الفلسطيني أو لحماس في غزة أي مساعدات تضمن استمرار مقاومتهم ورغم هذا نجد أن المقاومة تبلي بلاء ممتازا، هذه المفارقة مهمة، وأعتقد أن الحكام الذين يسعون للسلام مع إسرائيل أدركوا أن إسرائيل لا يعول عليها، بل أدركوا أنهم في مأزق على غرار الولايات المتحدة الأميركية التي وجدت نفسها متورطة في حروب إسرائيل من أجل الدفاع عنها، مما يجعل نهج الولايات المتحدة غير واضح المعالم، حيث نجد وزير الخارجية الأميركي يزور المنطقة لا لإيقاف الحرب بقدر ما يسعى لعدم “تمددها” للدول المحيطة بإسرائيل، وهو ما يظهر اختلاف الإستراتيجية الإسرائيلية عما يريده الجانب الأميركي.
-
أنت ضحية لضغط اللوبي الإسرائيلي على الجامعات، هل ما يحدث اليوم في الجامعات الغربية يسقط أسطورة “حرية التعبير” و”الحرية الأكاديمية” في الغرب؟
الحرية الأكاديمية هو الحق المضمون في الجامعات الأميركية والجامعات الغربية، وليس بالضرورة حرية التعبير، حرية التعبير مضمونة فقط في الدستور الأميركي، وتسري فقط على الجامعات الحكومية ولا تسري على الجامعات الخاصة، فمثلا أنا أدرس في جامعة كولومبيا العريقة والخاصة، وقد أكد لنا كل من رئيسها السابق ورئيستها الحالية بأننا لا نتمتع بحق التعبير الحر داخل الجامعة، وأن هذا ليس حقا مضمونا في الجامعات الخاصة، ولكن الحرية الأكاديمية، هي من حقنا وهذا مضمون رغم وجود ضغوطات عديدة.
في حالتي مثلا تم توقيع عريضة من قبل 80 ألف شخص من المروجين لـ”إبادة ضد الشعب الفلسطيني” يحرضون الجامعة على فصلي، لم نجد عريضة مماثلة يوقع عليها 80 ألف أميركي لوقف “الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني”!
لذا فإن هذه العريضة، التي ظهرت بفعل طالبة في جامعة كولومبيا كانت تعمل في جيش الدفاع الإسرائيلي، والتي وقع عليها مليارديرات وسفراء مثل سفير ترامب السابق في إسرائيل، لا أعتقد أن تلميذة في جامعة كولومبيا لديها القدرة على القيام بمثل هذه العريضة التي حشدت كل هؤلاء دون دعم خارجي كبير صادر من قوى مؤسساتية تدعم إسرائيل.
وكما لا يخفى على أحد بأن إسرائيل حرصت على تمويل حملات من هذا النوع كمحاولة من قبلها لهزيمة من يتكلم بطريقة نقدية عن إسرائيل.
الجامعات الغربية اليوم في مأزق كبير، بسبب اعتمادها المتزايد منذ بدايات النيوليبرالية على التبرعات الخاصة، التي أصبحت مشروطة باتباع سياسات معينة، مما أفرز لنا قبولا ضمنيا، وليس بالضرورة قبولا رسميا بها من قبل الجامعات، مما أدى اليوم إلى مفاخرة المتبرعين بأنهم يهددون هذه الجامعات بقطع تبرعاتهم إذا استمرت هذه الجامعات بالسماح لأي صوت في الدفاع عن الفلسطينيين داخلها.
لا يخفى على أحد أن لمثل هذه الممارسات سوابق بدأت منذ الخمسينيات من القرن الماضي حينما كانت تقابل أي محاولة للدفاع عن الشيوعية أو الاتحاد السوفياتي داخل الحرم الجامعي بمثل هذا النوع من القمع، وعليه فإن القمع الأكاديمي في الولايات المتحدة مؤسسة مهمة، فقط بعض ضعفاء النفوس في العالم العربي من يصدقون الدعاية الليبرالية بأن هذه المؤسسات الأكاديمية ليبرالية حرة.
بالطبع الجامعات الغربية لا تزال توفر حيزا مهما للتعبير عن الحرية الأكاديمية (وهو ما يدفعني للبقاء فيها وخاصة في ظل عدم وجود جامعات لديها المقدرة لدعم البحث العلمي في العالم العربي)، في جامعة مثل جامعة كولومبيا التي أعمل فيها هناك هامش يمكنني ويمكن أمثالي من الدفاع عن القضية الفلسطينية والقضايا الإنسانية عبر إنتاج معرفة حول تاريخ الاستعمار والاستيطان وعن تاريخ المقاومات وهو بالضبط ما أفعله داخل الجامعة، على الرغم من التضييق الرسمي وغير الرسمي الملمح به وغير الملمح به.
أعتقد أن رفض الجامعة الدفاع عني هو بحد ذاته موقف يشير لمثل هذا النوع من التواطؤ مع الهجوم الذي مورس علي، أو على الأقل يظهر نوعا من الجبن، ولكن ما هو إيجابي هو أن الجامعة كذلك لم تنضم لجوقة المهاجمين على حقي في التعبير عن نفسي إلى حد الآن، فلو قارنت موقف الجامعة اليوم بما حدث منذ 20 عاما في خضم حملة مماثلة علي، نجد أن رئيس الجامعة في ذلك الوقت “لي بولنجر” كان قد انضم إلى جوقة المضيقين على حرية التعبير والمضيقين على كل من يدافع عن فلسطين.
ولكن المستغرب هو أن أشخاصا مثل “لي بولنجر” يتم الترحيب بهم في العالم العربي، حيث جيء به للأردن وتم الاحتفاء به رسميا، ومن قبل رجال أعمال، وذلك بعدما ندد بإدوارد سعيد وحملة المقاطعة ضد إسرائيل، وبعدما حاول وفشل في طردي من الجامعة، كما استقبله بعض الليبراليين المصريين على أنه ممثل للحرية الأكاديمية في العالم في بداية “الربيع العربي”، وكان يقوم بزيارات إلى العالم العربي بواسطة بعض الأساتذة العرب والفلسطينيين الذين يعملون في جامعة كولومبيا، والذين كانوا يسوقون له بين النخب العربية غير آبهين بما يقوم به ضد كل من ينتقد إسرائيل.
وعليه يجب الحفاظ على الهامش المتاح لنا في هذه الجامعات، ويجب على الأكاديميين في الجامعات الأميركية أن يقاوموا هذا النهج المتنامي الذي يقمع الصوت الفلسطيني، وهناك بالفعل مقاومة شديدة، ولكن لا أعرف إن كانت كافية لردع إدارة الجامعات لنهج غير واضح المعالم من ناحية القمع الذي يجري التحضير له اليوم، وكذا اتخاذ القرارات فيما هو مسموح التحدث به في الجامعة وما هو غير مسموح.
-
ما موقفك من المقاطعة الأكاديمية؟ هل هي مفيدة أم أنها تجسيد مستتر للمركزية الغربية؟
أعتقد أن حركة المقاطعة بشكل عام منذ أكثر من عقدين من الزمن أحرزت تقدما ملموسا، في نشر موقفها المعارض لإسرائيل على عدة مستويات ثقافية وأكاديمية إن لم يكن كذلك تجارية، وهي بالطبع مهمة رغم أنها بحد ذاتها غير كافية، وإن أنجزت تقدما مهما في الوعي الشعبي.
المشكلة هي أن الموقف الشعبي الغربي “اليساري” في نهاية المطاف لا يساند الشعب الفلسطيني إلا كـ”ضحية”، إذ قد ينتقد إسرائيل باستمرار بسبب انتهاك هذه الأخيرة لحقوق الإنسان الفلسطيني وسرقة أراضيه، ولكن هذا النوع من التضامن لا يرتقي إلى دعم حق الفلسطيني في “المقاومة”، إلا إذا كانت المقاومة لا تتعدى إلقاء الورود على الدبابات الإسرائيلية، فحينها لن يتم انتقادها من أحد من اليسار الغربي الذي يتضامن الآن مع الشعب الفلسطيني كضحايا.
التضامن الغربي مع فلسطين لا يختلف أبدا عن التضامن الغربي القديم مع المستعمرين، حيث ينتقدون التنكيل بهذه الشعوب كمفعول بهم (كضحية) ولكن إذا اتخذت هذه الشعوب مواقف مقاومة مسلحة يتم وصفها على أنها إرهابية، وتدعم استمرار العنف.
وعليه يمكن القول إن حركات المقاطعة مهمة، لأنها تسهم في فضح الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية الجارية ضد الفلسطينيين، ولكن يجب عدم التعويل عليها وحدها حيث هناك حاجة ماسة للمقاومة المسلحة كذلك لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو أمر يضمنه القانون الدولي للمستعمر ليقاوم المستعمر العنيف بمقاومة عسكرية وهو ما يرفضه معظم الغربيين، بمن فيهم من يقف مع المقاطعات الاستهلاكية.