لا أخفي حبي لأميركا غير الرسمية. فالإنسان الأميركي العادي طيب وودود. ويتجلَّى ذلك بوضوح في المدن الصغيرة كمدن الغرب الأوسط. هذا في حين أن المدن الكبرى كنيويورك وشيكاغو ولوس انجلوس، تعطيك أسوأ صورة عن أميركا.
فمدينة صغيرة مثل كولمبيا- ميسوري كانت آمنة، لا تكاد تسمع فيها عن جريمة. وأذكر أننا لم نُغلق باب بيتنا بالمفتاح إلّا في الشهر الأول حين وصلت زوجتي من السودان. وهذه مناسبة لشكرها لأنها أعانتني حيث كانت تعمل وأنا أدرس بالجامعة.
الإنسان الأميركي العادي في المدن الصغيرة لا يكاد يعرف شيئاً عن العالم الخارجي، بما في ذلك طلاب الجامعات.
حدَّثني أحد أبنائنا أنه كان يتعارف مع طالب زميله الأمريكي بالجامعة، فسأله إن كان يعرف السودان، فأجابه Yeah I know it , it is near New Jersey!!!” نعم أعرف موقعه فهو بالقرب من ولاية نيو جيرسي”!!!
بدأت حياتي في الدراسات العليا بنيو يورك وسكنت بالمصادفة ودون علمٍ مني بأحد أحياء اليهود في بروكلين. وفي آخر شهوري بنيو يورك أصبحت الأسود الوحيد في ذلك الحي، بعد أن رحل زملائي الثلاثة الآخرين إلى فلادلفيا.
كان معدل الجريمة عالياً في 1984-1985 في أميركا عامة وفي نيو يورك خاصة. ووفقاً لبيانات مكتب التحقيقات الفدرالي FBI Crime-Clock، تقع جريمة في أميركا كل ثلاث ثواني. وخلال فترتي في نيويورك تعرضت لحالاتي نهب مسلح. وكنت ذات ليلة في مقهى يملكه صديقي عبد الماجد، وكان يعمل في تلك المناوبة الليلية صديقنا عبدالصمد؛ لنُفاجأ بأحد إخواننا السود يُخرج مسدسه ويصوِّبه نحونا، فقط لأن عبد الصمد استعجله ليخبره بطلباته. وزرتها فنُهبت ونهبت مقتنيات ثلاثة سودانيين من أصدقائي تحت تهديد السلاح بواسطة اثنين من إخواننا السود بعد أن حصرونا في المصعد. ومثل هذه الجرائم قليل جداً حدوثها في المدن الصغيرة.
أنا خريج اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة أمدرمان الإسلامية، وبدأت التحضير في موارد وتقنية الطاقة، ثم انتقلت لقسم الاقتصاد في جامعة نيو يورك. وانتهى بي التطواف لمدينة كولمبيا بولاية ميسوري. وحضَّرت ماجستير في علم الاجتماع في جامعة لينكولن بميسوري؛ التي يسميها أهلها بنبضات قلب أميركا.
واتخذ الأمريكان ألقاباً لولاياتهم، فمثلاً يسمون نيو يورك التفاحة الكبيرة؛ ويسمون نيوجيرسي الحديقة الخضراء؛ أما ميسوري فيسمونها برهن لي أو أثبت لي Show me state
ميسوري ولاية زراعية؛ وصفها أحد ممثليها في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي بأنها الولاية التي تُنتج القطن والذرة الشامية والديمقراطيين Democrats.
كنت وحوالى ثمان أسر سودانية نعيش في مجمع سكني مخصص لكل من يقل دخله عن 10 ألف دولار في العام، الذي كان يعتبر حد الفقر poverty line في تلك الفترة. كنا نسمي ذلك المجمع بالدروشاب!!! وكان كل من فيه من السودانيين من أفضل من عاشرت في حياتي. أولئك أقوامٌ لن أحصي ثناءً عليهم، فقد كانوا أهل فضل.
وبحكم أن دخلنا أقل من حد الفقر فقد كان الإيجار الشهري اسمياً. كان إيجار شقتي 10 دولار في الشهر ثم خُفِّض إلى 7 دولار، ولو أنك تأخرت في سداد الإيجار حتى يوم 5 في الشهر تُفرض عليك غرامة قدرها 5 دولار.
ومن طرائف تلك الفترة أن أحد السودانيين كان إيجاره الشهري دولار واحد. ونسي سداده، فأرسل له إخطار بسداد الغرامة البالغة 5 دولار؛ فجاءني يبث ضيقة واحتجاجه وقال لي:
“بالله شوف الناس الما بخافوا الله ديل …… يغرموني إيجار خمسة شهور”!!!!
وللنساء الحوامل يتولى برنامج WIC) Women, Infants and Children) تزويد الأسر بالحليب والبقوليات والعصير والبيض والكورنفليكس شهرياً.
بعضنا يستفيد من بنك الطعام food bank حيث يعطونك الأجبان والمعلبات والدجاج وما إليها بالمجان. وكل هذه الأشياء تجعلك ممتناً لأميركا. ولولا العنصرية، وسياستها الخارجية الظالمة، وسيطرة اللوبيات على إعلامها داخلياً وخارجياً وتعمده جعل الأمريكيين يعيشون في ظلام عن حقائق مظالمهم، لكانت أميركا بلداً نموذجياً في كل شيء.
ورغم كل شيء فالغريب لا يُحسُّ بالغربة في أميركا، كونها بلداً شيَّدها الغرباء النازحون واللاجئون. هذا بعكس بلاد عربية إسلامية كثيرة.
أمّا التحضير للدراسات العليا فيخضع لمنهج دراسي مُحدَّثة كتبه، فالجامعات لا تسمح في الغالب بتدريس كتب مضت على طباعتها خمس سنوات، إلّا إذا حدّثها ونقّحها مؤلفها. ولذا تجد الكتب التي مضى عليها ما يزيد عن هذه المدة تباع بدولار أو أقل من ذلك. وهكذا فالدراسة هناك تعطيك انطباعاً أنك درست في الجامعة السودانية تاريخ العلم وليس واقعه أو عهده الحديث في كثير من المواد.
بعد أسابيع من انخراطنا في الدراسة لاحظت أننا نتحدث مع بعضنا بصوت مرتفع، وكان صوتي الأكثر ارتفاعاً، هذا في حين أن الأمريكان يتحدثون بصوتٍ خفيض، ويتبادلون نظرات الاستهجان والغمزات لطريقة كلامنا.
أول وصولنا لأميركا أدخلونا برنامجاً توجيهياً وفيه تدريس للإنجليزية لمدة شهر في جامعة جورج ميسون بولاية ڤيرجينيا. وأنا بالسودان كنت أقرأ عن عصابة Ku Klux Klan التي تختصر K K K، وهي عصابة إرهابية كوَّنها البيض الذين يؤمنون بتفوق العرق الأبيض White Supremacist اليمينيون الذين يقتلون ويستهدفون السود واليهود والآسيويين والكاثوليك والملاحدة وداعمي الاجهاض. وكنت قرأت أن ڤيرجينيا من بين الولايات التي يوجدون بها، وهذه حقيقة. وذات يوم ونحن في جورج ميسون أعطيت كتبي لزميلي لأني ذاهب للحمام. وما أن وجدت اللافتة Toilet حتى دخلت، وفي الداخل توجهت لباب، وإذا بامرأة تخرج ونظرت إليَّ بدهشة وامتعاض. وأنا خارج من الحمام إذا بامرأة داخلة تنظر إليّ بخوف وامتعاض معاً. وما أن وصلت للزميل قصصت عليه ردة فعل المرأتين، وأردفت قائلاً: يبدو أن هذه الجامعة مليئة بعصابة K K K. ولم انتبه لهول ما فعلت إلّا بعد يوم، حين رأيت لافتتين إحداهما مكتوب عليه Ladies وعلى الأخرى Gents. يا للهول ويا للفضيحة. لقد دخلت إلى قسم النساء في المرة السابقة!!! وحمدت الله أن أياً من المرأتين لم تصرخ أو تستدعي الحرس، لأنه كان من الممكن أن أُتّهم بالتحرش.
كتمت تلك الفضيحة في نفسي ولم أتحدث بها إلّا بعد سنين.
ولو أنني حدَّثت بها أبي رحمه الله ربما كان طلب مني أن أقطع دراستي وأعود، فليس من المعقول أو المقبول عندنا في الصوفي الأزرق أن تصل الجُرأة وسوء الأدب بالنساء أن يدخلن الحمامات في مرأى من الرجال !!!
وحسناً فعلت بعدم إخباره. لأنني حين أخبرته أن الأطباء في أميركا يطلبون من الأزواج حضور ولادة زوجاتهم، انتفض جالساً، وسألني في حزم:
“أوعى إنت تكون سويت كدا”؟؟ ولم يكن أمامي غير الإنكار؛ غفر الله لي. فلو أنني اعترفت فيقيناً كنت سأسقط في نظره إلى يوم الدين!!!