بقدر ما اضحكنى حديث الرئيس برهان لاركان قيادته (ناس الشجرة بسلموا عليكم)، بقدر ما ادهشنى ! فهذه السخرية اللاذعة صدرت من رجل تكالبت على بلاده وشعبه دول وقوات غازية ومتمردة في معارك اختلط فيها الحابل بالنابل، رغم كل ذلك، اظهر الرجل من خلال تلك السخرية قدرا عاليا من رباطة الجأش والطمأنينة والتماسك بما يكفي للسخرية من اعدائه بتلك الطريقة اللاذعة. ولا يمكن ان تصدر مثل تلك السخرية من شخص فاقد الثقة في نفسه او متردد او مرتبك، فالسخرية تصدر دوما من عقل مرتب وذهن صاف لا يخضع للضغوط او الانفعالات التى من شأنها ان تؤثر على القرارات الصعبة.
وكما نفصل ادناه يواجه الرئيس برهان وأركان قيادته، ليس فقط حرب مدن، بل حربا قيمية
تقف خلفها مفاهيم اجتماعية متناقضة بين مكونات اجتماعية مختلفة، كشفت هذه الحرب ان بينها من التناقضات القيمية والمفاهيمية ما يجعل عيشها مع بعضها البعض في وطن واحد امر عصي يحتاج لمعجزة. ولا شك عندى ان السيد الرئيس ومن معه من القيادات يعلمون هذه التناقضات ويرونها رأي العين، اذ ان الجيش حاليا يحارب لاستعادة منازل ودور مواطنين احتلها بقوة السلاح من (يفترض) انهم مواطنين متمردون . ومما عرف من تاريخ البشرية فإن التمرد يكون على سلطة الدولة وليس على المواطنين الآخرين، ولكن ما حدث كان استباحة للعاصمة، والاستباحة تاريخيا فعل ترتكبه الجيوش الغازية وليس مواطنون متمردون !
اذن نحن جميعا امام حالة غريبة unique مواطنون يستبيحون مواطنين و عاصمة (بلادهم).. ! هل سمع احدكم بشىء مثل هذا من قبل ! كيف تكون المدينة عاصمة بلادك، وفي نفس الوقت لا تتردد فى استباحتها.. !!!
بالنظر للأوضاع الراهنة من زاوية تاريخية منذ استقلال البلاد لم يواجه أى قائد ومن معه من القيادات أى أوضاع كالتى نشاهدها الآن. فكل الحروب السابقة كانت بعيدة من العاصمة ولم تتأثر بها حياة المواطنين بهذه الصورة الصادمة. يضاف الى ذلك ان كل المجموعات التى حاربت الدولة في أجزاء مختلفة، ورغم بشاعة الحرب، إلا ان تلك المجموعات كانت تمارس قدرا من الإنضباط الداخلى على مقاتليها، وهو ما قاد الى أن تكون حربها محصورة على قتال الجيش . أما هولاء الأوباش فلا أحد يدرى من اى كوكب او من أى جحر خرجوا..! أوباش بلا وازع ديني او اخلاقي او اجتماعى، بل هم أقل من البهائمية بمراحل .
وسبق لى ان قارنتهم في مقال سابق بالتتار الذين اكتسحوا العالم في القرن الثالث عشر، وذكرت ان بعض المؤرخين قدروا ان التتار نتيجة للدمار الذي احدثوه في العالم، أخروا ركب الحضارة الانسانية حوالى قرنين من الزمان. والآن، وبعد ان استمعت الى المزيد من الروايات من القادمين من العاصمة اعتقد اننى ظلمت التتار كثيرا، فعلى الأقل لم يتخذ التتار من مساكن الناس دورا لهم، انما كانوا قتلة ونهابين ولكنهم عابرين، يقتلوا وينهبوا ويؤمروا احدهم على المناطق التى اخضعوها ثم يمضى جيشهم الى مناطق اخري وهكذا… ! اما أوباش الالفية الثالثة، فقد سكنوا حتى في مستشفي الولادة، وهى جريمة لم يسبقهم عليها في كامل تاريخ البشرية جيش او متمردون… !
قطعا لو كان التتر بيننا اليوم لما فعلوا ذلك، فرغم بربريتهم كانوا فرسانا اشداء يخرجون لملاقاة اعدائهم في الساحات والسهول، ولا يختبئون خلف (شجرة) وقطعا ليس في مستشفى الولادة !
من نافلة القول من يريد الحكم بالقتال لا يمكن ان يختبيء في بيوت الناس ولا المستشفيات دعك من مستشفي الولادة… ! هذه سبة وسلوك جديد في الحروب وعند طلاب السلطة.. !
بقدر ما شحذت ذاكرتى واستحضرت ما قرأت من التاريخ لم اعثر على متمردين خرجوا من مستشفي الولادة للسيطرة على الحكم.. ! هذه، والكثير من ممارساتهم سقطة وعار غير مسبوقين في التاريخ، وربما وجب علينا مراجعة القيم السلوكية للحواضن الإجتماعية التى ينحدرون منها، حتى نفهم ما هى معاييرها للعار والفضيحة والشرف، خاصة وقد رأينا ان بعض من عاد منهم استقبل بالزغايد والغناء والذبائح.
هذا امر يتوجب التوقف عنده طويلا، اذ ان الدولة التى تتفاوت عند مكوناتها المجتمعية قيم العار والشرف بهذا القدر، لا تصلح للعيش سويا . أثبتت هذه الحرب ان ما يراه غالب مجتمعات السودان عارا محضا، تراه بعض المجتمعات شرفا يستحق الاحتفال… !
وعلينا الا نستمر في خداع أنفسنا اكثر مما فعلنا، فقد كشفت هذه الحرب قدرا من الحقد الإجتماعي وقدرا من الكراهية الإجتماعية، ضربا أسس الوحدة والتعايش في مقتل. ويجب مواجهة هذه القضية بكل شجاعة، فمن غير المقبول ان تكون جارى في الحي ولكنك تنتظر اللحظة المناسبة لتنقض على مسكنى بقوة السلاح لتخرجنى منه وتسطوا عليه وعلى ما فيه، ثم تستقدم اسرتك للعيش فيه.. ! ثم بعد ذلك يأت من يقول لنا ان كل ذلك يتم باسم الحكم المدنى والديمقراطية، واننا مواطنون متساوون امام القانون.. !
الى متى سنستمر في دفن رؤوسنا في الرمال ونشيح بها بعيدا عن الحقيقة… !
خلاصة الأمر ان هنالك مجتمعات في الدولة لا تشارك غالبية أهل السودان قيمهم الإجتماعية الراسخة وفهمها لمسائل العار والشرف، فمثلا في اغلب مناطق السودان لو تجراء شاب واتى لقريته بسيارة مسروقة لطلب منه لحظيا اعادتها من حيث اتى بها، ولطرد من القرية شر طردة، ولتبرأت منه أسرته وأهل قريته ولاضطر للاختفاء من مجتمعه بصورة نهائية.
للأسف هنالك مجتمعات في بلادنا لا تشاركنا هذه القيم، بل تحتفل بالسلب والنهب، بالطبع تلك حياتها، ولكن السؤال ماذا نحن فاعلون ؟
أم ترى ان لحمة الوحدة الوطنية قد ضربت في مقتل.. !
هذا أوان طرح الاسئلة الصعبة وعلينا مواجهتها head-on .
لان العسكرية لاتعرف ضحكا في الميدان
وهاهي اجناد الحق تثور وتفور لأجل القضاء على المنافقين
في بلادنا الحبيبه.