ليست الأزمة السودانية وتفاعلاتها ببعيدة عن الصراع الدولي الرئيس، بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية حول مراكز النفوذ الإستراتيجية حول العالم. ومن المؤكد أن السودان يقع في قلب أتون الصراع الإستراتيجي الدولي، وهو صراع يدور حول الطاقة والمياه والأراضي الزراعية والموقع الإستراتيجي.
فالسودان يحتل مكانة محورية في التفكير الإستراتيجي الأمريكي والروسي على حد السواء، بالنظر إلى مخزونه الضخم من الثروات النفطية والمعدنية لا سيما الذهب في الوقت الحالي واليورانيوم في المدى المتوسط، فضلا عن امتلاكه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ومصادر مُتنوِعة من الموارد المائية وإطلالته الإستراتيجية على البحر الأحمر.
وفيما تقف روسيا عبر مجموعة فاغنر العسكرية الروسية مع مليشيا الدعم السريع التي تخوض اليوم صراعا مع الجيش السوداني بعد محاولتها الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب فاشل في 15 أبريل الماضي؛ فإن الولايات المتحدة تتحفظ على الوقوف بوضوح مع الجيش السوداني بسبب مزاعم سيطرة الإسلاميين عليه، فوقع القرار الأمريكي في حالة التأرجح بين مؤسستين، سياسية وتمثل وزارة الخارجية والكونغرس من جهة، وبين البنتاغون والمخابرات المركزية من جهة أخرى. وتحاول واشنطن عبر وساطة مشتركة التحكم في المآلات السياسية بقيادة الجيش فيما بعد عملية دحر مليشيا الدعم السريع نهائيا. وتشير تقارير صحفية أمريكية نقلا عن وزارة الخزانة الأمريكية إلى أن مجموعة فاغنر تزود مليشيا الدعم السريع بصواريخ أرض جو لمواجهة الجيش السوداني.
وقبل نحو عام نشرت نيويورك تايمز الأمريكية تقريرا ذكرت فيه أن شبكة فاغنر حصلت على الكثير من الأموال والذهب من السودان، ورسخت أقدامها هناك وأصبحت مساهمة في سحق الحركة الديمقراطية في البلاد.
وقالت إن فاغنر مورّد «للبنادق المأجورة»، بهدف التوسع الروسي بالقوة في رقعة واسعة من أفريقيا تتمدد عبر السودان وليبيا ودول الساحل وموزمبيق وتنزانيا وأفريقيا الوسطى وغيرها. وتخشى واشنطن من حصول روسيا على امتيازات تعدين في السودان مربحة بمساعدة قائد مليشيا الدعم السريع الشهير بحميدتي، تنتج سيلا من الذهب، يعزز مخزون الكرملين البالغ 130 مليار دولار، الأمر الذي يمكن من استخدام ذلك في تخفيف تأثير العقوبات الاقتصادية في حرب أوكرانيا، من خلال دعم الروبل.
وتابعت واشنطن بقلق شديد ما تعتبره تعطشا شديدا للسلطة والثروة من جانب محمد حمدان دقلو (حميدتي)، خاصة بعد زيارته لموسكو في الأيام الأولى لحرب أوكرانيا الحالية.
وتسيطر عائلة حميدتي على تجارة الذهب السوداني الذي يُهرّب حوالي 70 % منه، وفقا لتقديرات بنك السودان المركزي.
وتطمع روسيا بالإضافة للذهب في إنشاء قاعدة عسكرية لها على الشاطئ السوداني المطل على البحر الأحمر، قادرة على استيعاب سفن تعمل بالطاقة النووية.
ويعتبر الاهتمام الأمريكي بالسودان أقدم من الاهتمام الروسي؛ إذ يعود تاريخ اهتمام الولايات المتحدة بالسودان إلى العام 1910، حين قام الرئيس الأمريكي الأسبق تيدور روزفلت بزيارة رسمية للخرطوم. كما زار السودان في أواخر خمسينيات القرن الماضي ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي في عهد الرئيس دوايت ايزنهاور.
وفي عهد الرئيس جعفر نميري (1969 – 1985) بدت العلاقات السودانية الأمريكية حسنة في ظاهرها حيث قامت شركة شيفرون الأمريكية بالتنقيب عن البترول، ولكن قبل أن تبدأ الشركة مرحلة استخراجه توقفت وجمدت عملها بضغوط من البيت الأبيض وجماعات الضغط الأمريكية بسبب تطبيق نميري قوانين الشريعة الإسلامية في العام 1983م وقد تم رهن استئناف العمل في استخراج البترول بإلغاء تطبيق قوانين الشريعة.
ولم ير استخراج البترول السوداني النور إلا في عهد نظام الرئيس السابق عمر البشير، الذي قيل إن الخرطوم قامت من خلال طرف آخر بشراء حق التنقيب والاستخراج من شيفرون وانطلت الحيلة على شركة شيفرون وواشنطن.
وفي أواخر عهد الرئيس نميري زار السودان جورج بوش الأب نائب الرئيس الأمريكي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، وكان من نتائج الزيارة تنفيذ عملية ترحيل اليهود الفلاشا من إثيوبيا عبر السودان إلى إسرائيل باشراف المخابرات الأمريكية.
. كما قام النميري في ذات الوقت بالإطاحة بحلفائه الإسلاميين بزعامة حسن الترابي وأصدر أحكاما بالإعدام على عدد من قياداتهم، ولم تنفذ بسبب تسلم وزير الدفاع الفريق عبد الرحمن سوار الذهب السلطة في أبريل 1985 إثر ثورة شعبية أطاحة بالنميري نفسه.
ولعل نظام الرئيس البشير شكَّل أكبر تحدٍّ أمام المخططات الأمريكية في السودان ولذا تخشى واشنطن من عودة ما للإسلاميين وتصدر المشهد السوداني ربما عبر الجيش، ولذلك تعوّل في هذا الوقت على عدم حسم النصر لصالح الجيش واستمرار الفوضى وحالة السيولة الأمنية عبر أداة المفاوضات والعقوبات، فقد عمدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال عقود طويلة مضت إلى خلق أزمات في عدة مناطق من العالم تنفيذا لإستراتيجية الهيمنة الأمريكية.
ومعلوم أن واشنطن فرضت أول عقوبات على نظام البشير في نوفمبر 1997، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية، والمواطنين الأمريكيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان. وقبل ذلك أدرجت واشنطن الخرطوم في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993 زاعمة إيواءه جماعات تعتبرها إرهابية بعد الهجوم على سفارتها في العاصمة الكينية نيروبي.
ومع ذلك كله بادرت واشنطن في العام 2001 إلى احتواء السودان في موقف اعتبر تحولاً عن سياسة المواجهة، حيث نقل القائم بأعمال السفارة الأمريكية في السودان رسالة إلى الرئيس البشير يهنئه فيها بفوزه في الانتخابات الرئاسية.
كما قامت في 2009 بافتتاح أكبر سفارة لها في أفريقيا بمساحة 40 كيلومترا مربعا. ونقل عن الإدارة الأمريكية خططها لأن تكون السفارة الأمريكية في السودان مركز وثقل العمل الدبلوماسي الأمريكي في أفريقيا، وأنها تعتبر الثانية في الشرق الأوسط بعد العراق من حيث التجهيزات.