يجب على القوى السياسية التي كانت منحازة الى حميدتي بصفته حاميا للنظام الديمقراطي المرتجى أن تفك ارتباطها به. هذه حرب ليس لها أجندة وطنية سياسية.. إنها صراع جنرالين على السلطة التي ( غنماها) من ضرب ثورة ديسمبر في ( مواقع كثيرة لم يوفرا فيها عنف السلطة) مما تشهد به قوائم الشهداء و الجرحى و المفقودين.
ما الحل؟
الوقوف مع الجيش ( على كثير علله) لأنه مؤسسة وطنية يمكن اصلاحها بعد الحرب ليكون ( جيش السودان لا جيش البرهان) كما صدحت بذلك هتافات شباب السودان وهم يواجهون بنادقه بشجاعة لا مثيل لها.
هزيمة الجيش ستعني هدم الركن الركين الذي تقوم عليه الدولة السودانية.
في المقابل لا يمثل الدعم السريع أي مشروع سياسي. إنه القوة المحضة بلا محمول سياسي أو مشروع فكري. و الاستعانة بهذه القوة المدججة ( بالمال و السلاح و الارتباطات الخارجية) لتأسيس نظام ديمقراطي سيكون براغماتية سياسية ساذجة تعمى أو تتعامى عن حقيقة أن حميدتي لا يحتضن هذه القوى السياسية المدنية من باب ( الاحسان السياسي) متقربا الى الله بنصرة الديمقراطية و إخراجها من عسرها الى يسر رعايته. ذلك وهم. فحميدتي ليس في جوفه إلا طموح واحد أحد و هو الحكم و السلطة وهو المشروع الذي احتال له يوما بحشد القوة التقليدية لضرب القوى الحديثة التي كانت في الشارع ثم نفض يده من زعماء القبائل و الكيانات الأهلية ليحتضن القوى الحديثة فيكون لها ظهيرا عسكريا يمنيها الأماني و تمنيه.
و لم يكن البرهان قائد الجيش بريئا من ( احتضان حميدتي و قواته) طيلة السنوات التي أعقبت الثورة لحاجة في نفسه. فالتمدد المكاني و التوسع في اقامة المعسكرات في كل السودان كان يتم تحت بصره و سمعه و كان لسانه كثير الثناء على حميدتي و قواته في ظلل تململ و ضيق كثير من كبار الضباط و صغارهم.
لقد وظف البرهان استراتيجية البشير بحذافيرها و فحواها ( حميدتي حمايتي)، ما فات على البرهان ان حميدتي رمى عن نفسه ( صفة الحماية التي كان فرحا بها أيام البشير) رمي الحية جلدها القديم. فقد خبر (أروقة السلطة) و رأى تهافت الناس فيها و عرف سطوة المال في إدارة الرؤوس بما فيها رأس حميدتي نفسه.
و بدا واضحا أن الجنرالين البرهان و حميدتي دخلا في سباق من سيفوز بالسلطة مستبدا بها بغير شريك. و هنا يمكن ملاحظة كيف كان الرجلان يتهافتان على (عاصمة بعينها) يبذلان فروض الولاء و يتنافسان في أيهما أكثر وفاءا و أضمن للمصالح. ثم توسعا كلاهما في تأسيس علاقات خارجية يتوسلان بها كل على طريقته لخدمة مشروعه السلطوي.
هذه حرب بين جنرالين لا يريان أمامهما إلا تخيلات السلطة ( الموردة طلابها بغير حق موارد الهلاك). ومع ذلك فإن خيارات الشعب اليوم هي خيارات بين ( الثابت) و بين ( المتغير).
الثابت هو الجيش و يجب النظر اليه على أنه المؤسسة الضامنة لبقاء الدولة السودانية. في هذا الثابت هناك ( متغير ) اسمه البرهان.. سيمضي كما مضى غيره فلا تحجبنك صورته عن رؤية الجيش الذي هو من شروط بقاء الأوطان.
أما ( قوات حميدتي) التي تخوض حربا لا تجد لها مسوغا وطنيا و لا أخلاقيا فهم جنود جاءت بهم الفاقة و العطالة (إنهم حصاد الدولة التي عجزت عن الاستثمار في شبابها). كانوا يطلبون من حميدتي أمواله و كان حميدتي سخيا في بذلها من أجل تكوين قوته العسكرية الضاربة التي خرجت من ( رحم القوات المسلحة) في تعبير للبرهان. قوات حميدتي ليس لها من عقيدة عسكرية و هي ليست ميليشيا عرقية بالمعنى الدقيق و إن غلب على جنودها انتماؤهم الى قبائل الغرب. ربما حرك فيهم حميدتي هذا الوعي بأنفسهم لكن مما لا شك فيه أن حافزهم ( للعسكرية تحت إمرة حميدتي) كان اقتصاديا صرفا و بهذا المعنى هم ( كتلة معسكرة) يمكن الانتفاع بها عبر (إعادة صياغة ذهنية) توطنهم داخل المؤسسة العسكرية.
الحرب الدائرة تمنحك خيارا واحدا أن تكون مع جيشك الذي هو ( جيش السودان لا جيش البرهان).
فغدا سيذهب الزبد جفاء و يبقى ما ينفع الناس. الناس الذين سيصنعون ديمقراطيتهم بجهد وطني خالص غير متوسلين إليه بأي بندقية و لو كانت بندقية الجيش.