من واقع التجارب والدراسات المخابراتية المستندة الى علم النفس السياسي وسيكلوجية الجماهير ، والمشتغلة بالسيطرة على النخب والمجتمعات في الدول فإن ما يجري في السودان يمكن أن نخلص منه بالمؤشرات التالية :
الاتفاق الاطاري أكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأمور في السودان ( ليست تحت سيطرة اي من المكونات الوطنية ) سوا كانت سياسية أو عسكرية ، وان من يمسك بمقاليد المشهد السوداني هي جهات خارجية إقليمية ودولية ، وما دونهم ليسوا سوى كومبارس يؤدون دورهم ( خوفا او طمعا ) كما هو مخطط له ، ولم يكن ذلك وليد اللحظة وانما هو فعل تراكمي استفاد من بعض الفرص ونقاط الضعف والخلل وقابلية بعض عناصر النظام للاستقطاب ، ومنظوماته للاختراق .
ستظل الآلة الاقتصادية ( الدولار والدرهم والريال ) فاعلة بقوة لتليين مواقف كثير من الأطراف الرافضة ، وستظل الآلة الإعلامية كذلك فاعلة لتشكيل قناعات وتوجهات مخدومة في الرأي العام السوداني.
سبب إسقاط نظام الإنقاذ كان هو ( الخيانة ) وليس ( الثورة ) ، والتي هي نفسها كانت من الأدوات المصنوعة ، هذه الخيانة لم تكن مرة واحدة ولا من شخص واحد وانما كانت متعددة ومتجددة ، ولذلك استطاعت إضعاف بنية النظام من الداخل وتفكيك بعض مرتكزاته الاقتصادية والسياسية والأمنية وابطال مفعولها بحيث تصبح غير ذات جدوى ، واستطاعت تلك الخيانة التي تغلغلت في مفاصل الإنقاذ أن توفر بيئة مناسبة لكل ما جاء بعدها من متغيرات ؛ وصولا إلى ما نحن فيه الآن من أوضاع هشة تشهد سيولة وقابلية لتحقيق أهداف استراتيجية لأطراف خارجية لم تكن قادرة طوال ثلاثين عاما في تغيير تركيبة النظام.
استطاعت هذه العناصر المتحكم فيها صناعة العديد من الفتن والأزمات والتحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ؛ وتمكن نظام الإنقاذ من تجاوز بعضها ولم يتمكن من تجاوز الأخرى وكانت بذلك سببا في انهياره تدريجياً .
سيظل مسلسل الخيانة والاختراقات نهجا مستمرا عبر أدواته الفاعلة داخل مكونات الدولة والمجتمع حتى تتحقق كافة الأهداف المرسومة للسيطرة على الدولة السودانية بالكامل حتى لو أدى ذلك إلى تقسيمها إلى دويلات .
الأطراف السياسية والعسكرية التي وقعت على الاتفاق الاطاري وتلك التي لم توقع كلها لا تملك إرادة قوية لمواجهة العامل الخارجي طالما يجد من ينفذ تعليماته بالكامل داخليا .. وقوع صدامات عنيفة إلى جانب وقوع الحرب واشتعالها في مناطق جديدة هو السناريو وارد ، طالما طبق هذا الاتفاق الاقصائي قسرا وهو لا يعبر عن هوية الشعب السوداني ولا يحقق تطلعاته ويرهن إرادته للأجنبي .
ثمة سؤال مهم يطرح الان ؛ حول مغذى توقيت التسريب والنشر الإعلامي الإسرائيلي المتعمد ( قبيل توقيع الاتفاق بيومين فقط ) حول امتلاك قوات الدعم السريع لمنظومة مراقبة وتجسس خطيرة وحديثة من شأنها أن تغير موازين القوى لصالح هذه القوات أمام أي قوات نظامية أخرى .
لا سيما أن الاتفاق الاطاري قد أعطى قوات الدعم السريع خصوصية تجعلها موازية للقوات المسلحة ، ومستثناة من بعض القيود الحساسة ، وإذا ما قرئ كل ذلك مع كلمة القائد حميدتي ودعوته لإجراء إصلاحات عميقة للقوات المسلحة ، وما سبق ذلك قبل سنوات قليلة من حل للقوات الضاربة لجهاز الأمن والمخابرات والمعروفة ( بهيئة العمليات ) وهي القوة المجهزة تجهيزا يجعلها قادرة على حسم كثير من التفلتات الأمنية داخل وخارج المدن باحترافية عالية . من الراجح ايضا أن كثير من منسوبي القوات المسلحة ربما لا يعجبهم هذا التوجه ، وهو ما قد يدفع بعضهم إلى محاولة القيام بانقلاب عسكري للتخلص من هذا المشهد ، لكن هل سيكون هذا الانقلاب ابيضا بدون اي فاتورة دماء ام ستكون التكلفة باهظة الثمن ؟ اهم ما قد يفضي إليه هذا الاتفاق انه يحقق نتائج تلقي ببعدها النفسي الكبير على الأفراد والجماعات والتنظيمات وذلك على على النحو التالي : القضاء التام على روح الثورة والثوار وخاصة لجان المقاومة وتثبيط همتهم المرتبطة بقيادة الشارع ، ما يؤدي إلى حدوث خلافات تقود إلى تفكك منظومة تجمع المهنيين والحرية والتغيير وتفرقها ايدي سبأ وبالتالي التلاشي التدريجي لما يعرف بقوى الثورة . نفس الشيء قد ينطبق على ما يقوم به التيار الإسلامي العريض من خلال إحساسه بالاحباط وعدم جدوى تحريك الشارع تجاه قضايا الهوية الوطنية والإسلامية ، وبالتالي ضعف بقية أدوات الضغط والتأثير السياسي في تغيير المشهد لأنه قد يصبح أمر واقع . مشف التوقيع على هذا الاتفاق عن هشاشة العلاقة وفك الارتباط بين المكون العسكري والتيار الإسلامي العريض ، وان الإسلاميين يجب أن لا يراهنوا على العسكر في أي خيارات مستقبلية لهم .
صعوبة حدوث توافق سياسي شامل بين مختلف المكونات يجعل فرص تحقيق تقدم ملموس في تكوين حكومة انتقال من الأمور المستبعدة في الوقت القريب ، وان حدثت فستكون حكومة ضعيفة غير مؤهلة لتحقيق الانتقال الديموقراطي بالصيغة المطلوبة .
حدوث كل ما سبق يخلق حالة من الاحباط الشامل لدى الشعب السوداني تجعله غير متحمس لاي تطلعات ، بل ينحصر كل همه في القبول بالحد الأدنى من الخيارات ، ولا يعنيه بمن يمثله على سدة الحكم ، وبالتالي يصبح القبول بمن يمنونه بصلاتهم الخارجية الكفيلة بتوفير بعض ملامح الاستقرار والأمن والحياة المعيشية العادية هو أقصى ما يريدون .
اذا صدقت نوايا الرئيس البرهان ونائبه حميدتي في رغبتهم احداث انتقال ديمقراطي حقيقي ( وهذا مشكوك فيه بالنظر إلى تصريحات ومواقف سابقة لهما ) ، فإن الحل يكمن في توافق اغلب القوى السياسية والمسلحة وتوقيعهم جميعا على هذا الاتفاق وقلب الطاولة على الأجندة الأجنبية ومنع تمرير اي قرار أو مشروع يخالف هوية الشعب السوداني