المحامي أحمد إبراهيم للطاهر ـ يكتب : أداء الدولة : مأزق التغيير والحرية.

————————————-
بون كبير بين دولة كتبت لها الحياة فمارستها حيوية ورشدا وعلما وتخطيطا وقوة وحزما ورشدا ، فاحتلت موقعها في الصدارة ، وحققت أهدافها بإسعاد شعبها ، وبين دولة كتبت علي نفسها الشقاء والتيه والحيرة والخضوع والخنوع فعاشت في المتاهات وغفلت عن واجبات الحكم ومطلوبات النهضة فعاشت في مستنقع الفقر والذل والهوان وتبوأت مقعدها في مؤخرة الأمم .

إن القيادة السياسية للأمة هي من تحدد لأمتها أحد الطريقين . ونعني بالقيادة السياسية المجموعة التي تتولي مقاليد الحكم في أي بلد ويكون في مقدورها اتخاذ القرار . ويمكن أن يري المرء في السودان أي الطريقين سلكته القيادة السياسية ، والنتائج المترتبة علي اختيارها للطريق.

النموذج الذي نبدأ به هو تعامل السلطة السياسية الحاكمة مع موضوع الحرية الشخصية للأفراد ، فالفرد في المجتمع تهمه قبل كل شيء سلامته في نفسه ومن يعول من غائلة السلطان ، فإذا ضمن أمنه الشخصي كان هذا مبعث اطمئنانه وثقته فيمن يحكمه ، كائنا من كان .

وقد قال الخليفة الراشد لأحد ولاته في مصر : متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟ ومن هنا تبدأ رحلته في البحث عن سلامة الوطن وأمن المجتمع وسيادة الطمانينة العامة ونيل الحقوق المستحقة وأداء الواجب المطلوب . ومن هناك أيضا تبدأ نظرة الآخرين لهذه الدولة في كيفية تعاملها مع شعبها ، ومن ثم تعامل الآخرين معها من جيرانها وأصدقائها والساعين لمساعدتها والقادمين للاستثمار فيها والباحثين عن قيمها الثقافية ونهجها الحضري وإسهامها في التطور والارتقاء .
فمن ضمانات كفالة الحريات للأفراد والجماعات ما تعارف عليه البشر في نظم الحكم ، إذ جعلوها قائمة علي قاعدة فصل السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية ) وسيادة حكم القانون ، وإقرار نظم المحاسبة ، والالتزام بشفافية القرارات ، وخضوعها للتظلم الدستوري والقضائي ، وتعدد مؤسسات الرقابة والمساءلة علي أعمال الحكومة .
ويتملك الإنسان الأسي حين يدرك أنه لا يوجد ضمان للمواطن في السودان لسلامته من غوائل السلطة علي الرغم من كثرة النصوص الدستورية والقانونية الحاكمة للحقوق والحريات . وسأضرب أمثلة لذلك من تعامل السلطة مع بعض القادة السياسيين في فترة حكم الانقاذ ، وبعض ضحايا الاعتقال ، ممن وجدوا أنفسهم في الحبس لمدة طويلة ، تجاوزا للقانون الذي ينص علي الكيفية التي يعامل بها من فقد حريته وأصبح في ذمة السلطة إلي حين استرداد تلك الحرية . وقد نتج عن هذا السلوك أن فقد عدد من المحبوسين حياتهم بإهمال المسئولين في النيابة العامة وفي الدولة ، وهم في انتظار إسعافهم للعلاج منهم الشريف بدر ود. عبد الله البشير والمهندس محجوب محمد احمد ، والزبير احمد حسن ، وأبو هريرة ، دون أن يشكل ذلك إحساسا بالذنب من السلطة أو تداركا للمسئولية نحو الذين لا يزالون في الحبس وتحت وطأة المرض ، بانعدام وسيلة تمنحهم الفرصة لمقابلة الطبيب . وهنا لا بد من الإشارة إلي المحبوسين علي ذمة المحاكمة من المتهمين يكونون تحت ولاية القاضي الذي يتولي المحاكمة ،. فهو المسئول عن حفظهم في المكان اللائق بهم ، وعن أحوالهم الصحية وعن كيفية التواصل بينهم وبين المحامين والاقرباء ، وهذا عادة ما يقوم به القضاة الذين يباشرون قضايا هؤلاء المنتظرين . ولقد كان مثولهم أمام القضاء فرجا ومتنفسا لهم من تجاوزات النائب العام الأسبق في حقهم حيث ظل يجددحبسهم تجاوزا لسلطاته واستجابة لضغائن ودوافع انتقامية وتحريض من سياسيي الحرية والتغيير ، وظلوا لسنوات عدة يطالبون بإحالتهم للقضاء بينما ظلت النيابة تجدد أوامر حبسهم بلا قيود وبلا قانون .
وعلي الرغم من أن المسئول عنهم الآن هو القضاء ، ورغما عن صيحات هيئة الدفاع عنهم بابتعاد أي سلطة أخري عن التدخل في شأن المحبوسين غير القاضي المباشر لمحاكمتهم تأكيدا لاستقلال القضاء ، فلا تزال الانتهاكات لحرياتهم وحرمانهم من الرعاية الصحية من قبل ” سلطة عليا” تتري ، ولا يزال المسئولون الآخرون في سكرة طغيان السلطة يستهينون بسلطة القضاء وسيادته واختصاصه الدستوري ، وما تزال الدولة عاجزة عن كبت مسئوليها وصرفهم عن التأثير علي حيدة القضاء واستقلاله . ولقد صار هناك صراع خفي بين المحكمة المختصة وبين السلطة المتوحشة التي تصر علي إلحاق الأذي بالمحبوسين وتركهم فريسة للأمراض ومنعهم من الذهاب للعلاج واقتيادهم نحو حتفهم في السجن تجاوزا لسلطان القضاء ، حتي أيقنت هيئات الدفاع عنهم أن القضاء قد أصبح في قبضة الحكومة وأنه من العسير علي القاضي أن يصدر أحكامه في الدعاوي الماثلة بما يمليه عليه ضميره لا ضمير السلطة .
كانوا في القانون يعلموننا معني سيادة حكم القانون ، بأنه سيد علي الحاكم والمحكوم ، وأن القاضي فى أدني درجاته سيد مطاع وليس موظفا مأمورا ، وأن أحكامه نافذة علي الكافة بلا استثناء ، وأن الدولة ومسئوليها في كل مستوياتهم خداما لأمر المحكمة ، وأن إقامة العدل اختصاص أول للمحاكم ، وأن الدولة الفاقدة لسلطة القضاء دولة مفقودة ، وأن الاستهانة بالقضاء من جانب الدولة هو استهانة بالشعب الذي ينشد إقامة العدل . وهذه المعاني القيمة تتعارف عليها معظم الدول ، بل إن الدول المستبدة الغاشمة تستحي من أن تجاهر باستبدادها ، وتحاول الحفاظ علي سمعتها بكثير من المساحيق . فما الذي أصابنا حتي تجردنا من القيم والأخلاق والمروءة في التعامل مع من لا نحب من مواطنينا؟.

الإنسان يعيش بين الناس حريصا علي الحفاظ علي مواهبه وقدراته ، ملتمسا الاعتراف به من مجتمعه ، ومجتهدا في إثبات مكانته الاجتماعية ، مراعيا للقيم والمبادئ والأعراف المتعارف عليها ، والتي تمنحه الوزن اللائق به بين الناس ، وهذا النوع من البشر تسعد به الحياة العامة والخاصة بما يمنحها من إسهامه في البناء والتطور والرقي.

ولا أحسب أن الذين ظلوا تحت نير الاعتقال ممن كانوا في قيادة الدولة إلا من أفاضل الناس دينا وخلقا وورعا وأداء للأمانة ، ولا يقدح في ذلك بقاؤهم في السجن ، فهم يعلمون أن السجن قدر من الأقدار يقابلونه بالتسليم والثبات والصبر والعبادة والتلاوة ، بل نحسبهم من اهل الفضل والريادة والرشد ، وأنهم كانوا سادة علي حكام اليوم وما كانوا يعاملون خصومهم بروح الانتقام والتشفي بل بروح التسامح والحوار والتجاوز والعفو مما لا يجهله كثير من خصمائهم . فلئن ذهبت أيام حكمهم فليس هذا مسوغا لإذلالهم وإلحاق الأذي بهم وتعريض حياتهم للخطر والسعي بهم في طريق الموت البطئ بسوء استخدام آليات السلطة ، فالسلطة ظل زائل ، ولو دامت لمن سبق لما وصلت إلي من لحق . ” وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحكيم .”
إن الدولة في الواقع تمثل مجموعات متجانسة من البشر تحمل ذات خصائصهم الفطرية من السعي لتبوء المكانة السامية والحصول علي عناصر القوة والمنعة من خلال تمسكها بالمبادئ والقيم ، واحترامها للنظم ومراعاتها للمواثيق وتطبيقها للقانون ورعايتها الأبوية لشعوبها ، وسعيها لإسعادهم وحمايتهم ، ومفاخرتها للآخرين باتساق أدائها العام والحفاظ علي مظهر الدولة ومؤسسات الحكم وخضوعها لنظم المساءلة ومؤسسات الرقابة وآليات المحاسبة ، وسلامتها من مخترق الفوضي والإهمال وفساد المسئولين واستهتارهم بالقانون واستعلائهم علي حكمه والخضوع لسلطانه. فأين نحن من ذلك ؟ ولماذا تظل دولتنا التي نفاخر بها ونعتز بالانتماء إليها غريبة اليوم عن تلك المعاني؟ ولماذا رضيت بوضع الدولة المنبوذة المهينة الظالمة القاهرة لشعبها في ظاهرها ، المقهورة في باطنها لغيرها؟.
إذا كان نظام الحكم المستقر هو الهدف الذي به تحقق الشعوب أهدافها في حياة كريمة فلماذا تخشي الدولة من إكمال أجهزة الحكم ومؤسساته الدستورية ؟ لماذا حجبت الحكومة قيام المحكمة الدستورية حارسة حقوق المواطنين ؟ لماذ غابت رقابة البرلمان علي وزارة المالية ففعلت الوزارة أفاعيلها بالشعب فامتصت مواردة وألجأته إلي الفقر والعوز ؟ لماذا انتهت رقابة ديوان المراجعة العامة فاستبيح المال العام المتحصل من جهد المواطنين وعرقهم ؟ لماذا غابت سلطة مجلس الوزراء في التخطيط والإعداد والمتابعة ، فنسي الناس مناقشة الخط العامة للدولة وتفصيل موازنتها ؟ وهذه الأسئلة لا نثيرها نحن المواطنين فحسب ، وإنما هي أسئلة تدور في أذهان الناس في الداخل والخارج ومنهم أصدقاء بلادي والطامعين في حسن علاقة معها والمنتظرين استقرار أحوالها للإسهام في تطورها والآملين في استثمار مواردها وإسعاد شعبها . إذا كانت الفترة السوداء من أعوام ٢٠١٩ – إلي أكتوبر ٢٠٢١ حيث خربت فيها عناصر الحرية والتغيير البلاد وأرجعتها خمسين سنة إلي الوراء فلماذا تصر الدولة علي عودة هؤلاء التتار إلي سدة الحكم تحت حماية القوة العسكرية ؟.

وأخيرا إذا انتفض القضاء ومارس سلطته الدستورية في الفصل في المنازعات ، وقضي برد الحقوق وأزالة المظالم فلماذا لا تتركه الدولة حرا لإنفاذ الأحكام التي يصدرها ، ولماذا تصر ” الجهات العليا ” علي التدخل ووضع العقبات أمامه ، وهو السلطة الدستورية الوحيدة الباقية ، بعد غياب السلطة التنفيذية بغياب مجلس الوزراء ، وغياب السلطة التشريعية الرقابية بغياب البرلمان ، وغياب الرقابة العدلية بغياب المحكمة الدستورية ؟ أي فترة انتقالية هذه التي جلبت لبلادنا الشقاء والأحزان وجلبت لشعبنا الفقر والجوع والخوف ، وأوقعت دولتنا في براثن الوحش الدولي، وشطبت اسم السودان في كل محفل . أي انتقال هذا الذي لم يعرف السودان فيه غير الاقتتال القبلي والنهب اليومي والاغتيال الآثم والوجل القادم . أخي الفريق أول البرهان ، إن أرجي ما تختم به تاريخك أن تتخذ قرارك بإنهاء الانتقال اليوم قبل الغد.
إن من واجبنا الديني بذل النصح لمن وضع الله السلطة في يديه أن يقوم بواجباتها خير قيام فإن معه في سلطته كراما كاتبين يعلمون ما يفعل ويحصون كبائر الأعمال وصغائرها ، وفوق الكل رب لا تغيب عنه غائبة وما يكون من نجوي ثلاثة أو أكثر أو أقل إلا هو معهم أينما كانوا ، وما السلطة إلا منحة منه مستردة ، وما التاريخ إلا سجل للأعمال الصالحة والطالحة ، ودائما يبدأ العد التنازلي للسلطة من يوم منحها وإلي اليوم المقدر لانتزاعها ، وإلي الله عاقبة الأمور .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *