على ابتهاجي صباح اليوم الخميس بأمطار جدة، كنت أدعو الله : حوالينا ولا علينا، فجدة تغرق في شبر ماء..وصدمتني صور السيول التي أغرقت المنازل وساقت السيارات، وتذكرت ما حصل لنا في كارثة السيول الأولى، وغرق الحي الذي أقطن، وهذه المقالة التي كتبتها في صحيفة الوطن وقتذاك تقول بذات ما حصل اليوم، وأجزم يقينا أن أمير الرؤية الهمام سيضع حلًّا لجدة، وستكون المحاسبة الحقيقية.
المقالة كانت بعنوان:من قلب مأساة الأربعاء الأسود أحدثكم
. حي “النخيل” الوادع الذي أقطن؛ يقع إلى غرب سدّ “أم الخير” شرق مدينة جدة، ومعظم سكانه من ذوي الدخول المتوسطة، فثمة أكاديميون من جامعة الملك عبدالعزيز، وبعض منسوبي الخطوط السعودية، فضلا عن مشرفين ومعلمين في وزارة التربية..معظم هؤلاء مكث سنوات طويلة يجمع في تحويشة العمر؛ كي يشتري قطعة أرض بسيطة، ليستدين بعد ذلك من البنك ليبني فيلا أحلامه، فيستقر في بيت متوسط يمضي بقية أعوامه بهدوء، ويحمد الله على نعمة الأمن والأمان…في كل مواسم الأمطار المرعبة؛ كان السدّ يحمينا بعد الله تعالى، ولذلك كنا في مأمن واطمئنان داخلي يوم الأربعاء الفارط، نتحلق مع أفراد العائلة ونذكر الله بتأمل هذا المطر المتساقط، وندعو لإخوتنا في حي “أم الخير” وقد باتت لازمة أنها ستُنكب مع كل غشقة ماء من السماء، غير أننا بوغتنا بعد ساعات طويلة من المطر المتتالي بسيل جارف، دخل الحي الآمن الصغير من كل الأنحاء والزوايا، وإذا بمنسوب المياه يرتفع بمتواليات هندسية، ولم أفق إلا على صوت ابنتي ذات التسع سنوات تبكي وتصيح: “المياه دخلت علينا يا بابا”.. انفلت أحمل ابنتي الرضيعة ذات العشرة أيام فقط، وأصيح بأفراد عائلتي أن اصعدوا للدور العلوي، وأنا أستمع لشرشرة المياه المرعبة وهي تملأ الدور السفلي، ووسط بكاء أهلي وتضرعهم لله في مشهد تراجيدي حزين، طالعت الصورة المهولة أمامي عبر النافذة، حيث السيل يتدفق أمواجاً أمواجاً عبر الشوارع الآمنة، تسوق أمامها السيارات التي تتهادى فوقه كأنها قطع من لعب الأطفال التي نراها تطفو في البانيو، وتصطدم بكل شيء أمامها وتسحبها معها في تيار قوي لا يصمد حيالها إلا الخرسانات المسلحة.. وبات السيل عبر هذه السيارات التي يطفو رأسها تارة ومؤخرتها تارة؛ تصطدم بأسوار البيوت، وسط صياح الجيران والأهالي، وكم كان المنظر مخيفاً ونحن نرى سور جارنا يتداعى عبر تلك الضربات، وهرعنا جميعنا لأسطح المنازل، وقد أيقنا بالموت، ولم أفق إلا على صوت ابنتي غادة وهي تبكي: “سنموت الآن بابا، بيتنا سيتحطم مثل بيت الجيران”، وأنا أهدهد تلك الصغيرة وأحتضنها، وأتأمل بكل الألم والحسرة سيارتيّ التي اقتنيتهما عبر التقسيط، تنجرفان أمامي وتذهبان في رحلة طافرة بالغبن والقهر مع السيل، فيما تلبَّستني عنوة لحظات تأمل ـ وأنا أتفرّس في وجوه جيراني فكلنا هذا الرجل ـ كيف كافحنا وناضلنا لنوفر قيمة هذه الأرض، وكيف بنيناها بكدّ وتعب، فيما الألم الدفين والحسرة الممضّة تعتصر القلوب منا، غير أننا نتجالد في تلك اللحظة أمام زوجاتنا وأبنائنا، فلا أشدّ على الرجل من أن يراه أبناؤه وزوجته في حال انكسار وضعف، .إلا أن مرارة الوضع ومأساويته يجعلك تشعر بغصّة حارقة تذيبك كما الأسيد؛ فتحويشة العمر التي أفنينا الأعمار بجمعها تتبدّد أمام أعيننا، وسياراتنا التي كددنا لتسديد أقساطها تذهب في لمحة بصر؛ بسبب تقصير مسؤول خامل لا يستأهل مكانه، أو موظفٍ مرتشٍ لم يخف الله في مصائرنا، أو فاسد لم يهمه إلا جمع المال الحرام على آلام ودموع المواطنين الكادحين. .كم حزنت وأنا أرى جيراني يومئون ـ في تلك الساعات العصيبة ـ إلى طوافتي الدفاع المدني أن تنتشلهما من الأسطح، وقد بلغت المياه للدور الأول، غير أن صرخاتهم واستغاثاتهم ضاعت مع هدير تلك المراوح الكبيرة، وحوقلت وأنا أقول: “أطوافتان فقط لمدينة بحجم جدة بها كل هؤلاء الملايين من البشر وقد تعرضت لحوادث سيل عديدة، أيها الدفاع المدني ما دهاك؟“.. تذكرت في تلك اللحظات براءة والدنا الكبير (الملك عبدالله) – أسأل الله بمنه وكرمه أن يعيده الينا سالماً ذلك الأب ليقف بنفسه على حالنا- مما حصل في كارثة قويزة قبل 14 شهراً، واصراره على كشف الفسدة كائناً من كانوا، وتيقنت أنه طالما لم تك محاسبة وتشهير لأولئك الذين اغتالوا أحلامنا، وأكلوا أموالنا بالحرام، فستظل المسألة تلوب في كل عام، لأن أولئك أمنوا العقاب والتشهير، واطمأنوا الى أن يد العدالة لن تطالهم، ومن أتى بعدهم أيضاً استمرأ الفساد وأكل الحرام، والدليل أن المليارات التي أمر بها مليكنا لم نرها في أرض الواقع، بل زاد الأمر ضغثاً على إبالة. .ويقيناً أن بداية التصحيح تبدأ من محاسبة الفاسدين والمقصرين والتشهير بهم، وكلي ثقة بسمو الأمير خالد الفيصل وهو الرجل الحازم الذي لن يرضيه أبداً ما حصل، مطالباً بالبدء في مساءلة مدير عام الدفاع المدني ومدير عام المرور وأمين جدة لما حصل يوم الأربعاء علناً، بل ومطالبتهم بتقديم استقالاتهم، فهل يعقل أن يتكرر خلال 14 شهرا ذات السيناريو؟. الفوضى المرورية تضرب بأطنابها، ومن يسيّر المرور هم بضعة شباب تطوعوا تحت المطر لتسيير السيارات في ظل غياب كامل لرجال المرور في تلك المنطقة المنكوبة-كوبري الملك عبدالله مثالاً وأنا ممن احتجر فيه لثلاث ساعات كاملات- فيما الدفاع المدني لا يزال على طوافتين يتيمتين في منطقة باتت منطقة كوارث مع كل مطر.. والخلاصة؛ إذا لم يتم محاسبة المسؤولين في الكارثة الأولى، فسيستمر المسلسل، ولن يرضى أبداً الشهم الانسان خالد الفيصل أن يسجل هذا في تاريخ فترة حكمه. .انحسر الماء أخيراً عن الحي، وتنفسنا الصعداء، وحمدنا الله، ونزلت أخوض في الوحل والطين وقد غمرا كل البيوت، ونزلت أطمئن على جيراني عبر برك المياه والأوحال، وذهبنا نبحث عن سياراتنا التي جرفها السيل بعيداً كما باتت أحلامنا وآمالنا.. حمدنا الله تعالى، واسترجعنا على ما أصابنا، كان هذا حالنا نحن الأربعينيون وكبار السن، مرددين عباراتنا الشعبية المتوارثة: “المال يعوّض، والأرواح لا تعوض، فالحمدلله على سلامتنا”، فيما الشباب يصرخون حولنا: “أين ذهبت مليارات الملك التي خصصها لنا، لا بد من استقالة المسؤولين جميعاً”.. .نقّلت بصري بين كبار السنّ الذين يحمدون الله، وبين الشباب المطالب بالمحاكمة، ثم صعّدت نظري نحو الأفق، استقبل الشمس التي تطفل للمغيب وأنا أبتسم بثقة كاملة.
إعلامي وكاتب سعودي
(المقالة نشرت قبل عشر سنوات بصحيفة الوطن السعودية)