كان ابناء الشعب السوداني – بمختلف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية – الى ما قبل الثورة على الأقل – يعيشون في حد معقول من السلام المجتمعي الداخلي ، داخل الأسرة الواحدة ، وداخل الحي والمسجد والنادي والسوق والعمل ، وفي أماكن العمل وغيرها ، لا تكاد تلمس أي نوع من الاستفزاز والتنمر والهياج وإثارة البغضاء ..
كانوا يواصلون أرحامهم بحب وتسامح ، ويتحلقون في مجالسهم بأريحية ، ويأكلون الطعام فيما بينهم برضا في المناسبات والأفراح والأتراح ؛ من دون أن تلمس بينهم اي فروق سياسية شاذة ( رغم وجود التباين السياسي والمجتمعي على أرض الواقع ) ..
كانوا يتزاورون ، ويتجاذبون أطراف الحديث والنقاش في مختلف القضايا دون أن يصل ذلك إلى ما وصلنا إليه حاليا – بعد الثورة – من حالة انقسام حاد ، وكراهية عمياء ، وتعنيف لفظي ، وتشفي غريب ، وعدم احترام بين الصغار والكبار ..
للأسف ؛ يحدث كل ذلك بشكل شبه يومي في كل مفاصل الحياة بين زملاء العمل وبين الجيران ، بل ويوثقون ( هذا التراجع القيمي والأخلاقي ) بكاميرات هواتفهم ، ويتناقلونه عبر حكاويهم بلا أدنى حياء ..
لقد أخرجت “ثورة ديسمبر” أسوأ مافي نفوس الشعب من صفات لم تكن موجودة في أسلافهم ، كل ذلك بسبب عدم تورعها في إطلاق شعارات الإقصاء والتعميم البغيض والتخريب ، والاستهداف الممنهج ، والشحن الزائد لأجيال جديدة من أبناء الوطن من “الشباب والأطفال” يتم تغذيتهم بالعصبية السياسية وخطاب الكراهية ، وكان الأولى أن نغرس فيهم معاني الحب والتسامح ، وقبول الاختلاف مع الآخر ، وحرية التعبير بوعي ، واحترام الكبير والصغير ، وحب الوطن الذي يسع الجميع ..
كان يجب أن نغرس فيهم كل ما يجمع ولا يفرق ، ويبني ولا يهدم ، ويقرب ولا يبعد ..
يحدث كل ذلك وبلادنا تعاني تشظيا رهيبا في ضياع بوصلة الإرادة السياسية والتوافق الوطني الرامي للحفاظ على الوحدة الوطنية والهوية وصناعة النهضة وبناء الدولة العصرية التي تتوفر لديها معظم فرص ومقومات النهوض الحضاري ..
وبسبب أن الصراع السياسي ظل هو السمة الغالبة لدى مختلف النخب والأحزاب والمكونات ، فقد أدى ذلك إلى غياب الرؤية والبرامج الوطنية وكل ما يمكن أن يأخذ بالبلاد إلى مراقي التطور والتقدم والازدهار والاستقرار ..
لعل ثورة ديسمبر – رغم ما شابها من تشوهات وفواجع مؤلمة – يمكن أن تكون محطة وفرصة مهمة في مسيرة البناء الوطني ؛ تضاف إلى غيرها من الإرث والرصيد التاريخي بكل مافيه من خير وشر ، ونحتاج أن نستلهم منها الدروس والعبر ، لنصحح أخطاءها ونأخذ بنجاحاتها – ان وجدت – ونستفيد من طاقات شبابها وحماسهم نحو البناء والتعمير والنهضة وإعادة صياغة مشروعنا الوطني ، وكتابة العقد الاجتماعي الذي ينظم مسيرة حياتنا ويحكم شؤون دولتنا ..
اننا نحتاج جميعنا ( أفرادا وتنظيمات وكيانات ) بمختلف انتماءاتنا ومشاربنا ؛ أن نجري نقدا ذاتيا صادقاً وشفافا ، نحتاج أن نتصالح مع ذواتنا ، وان نراجع أنفسنا وأدبياتنا ومناهجها ، وأن نجري جراحات نفسية وتربوية وفكرية وثقافية عميقة ، للتعافي الوطني والمجتمعي من كل هذه الأمراض التي بالتأكيد لم تكن اسبابها وليدة اليوم فحسب بل كانت فعلا تراكميا تأريخيا ( تجلى مع الثورة ) ، وكان نتاج عوامل اخرى كثيرة أبرزها : الفعل السياسي غير الرشيد من جميع الأطراف – بلا استثناء – يمينهم ويسارهم ، أبيضهم وأسودهم ، كبيرهم وصغيرهم ، شريفهم ووضيعهم ، حاكمهم ومحكومهم ، مع عدم استبعاد ظروف وتأثيرات البيئة الخارجية..
نحتاج ايضا الى اكتشاف او اختيار أو حتى صناعة ( القائد الملهم ) الذي يأخد بأيدي أبناء شعبه جميعهم – دون تفرقة – إلى بر الأمان ، يضمد جراحهم ، ويواسي اوجاعهم وآلامهم ، ويبسط الحرية والسلام والعدالة ، ويبسط الأمن والاستقرار وهيبة الدولة ، يستثمر كافة الفرص ويسترد كافة الحقوق الضائعة ، متخذا كافة الوسائل الممكنة والفعالة ، العاجلة والآجلة لاستكمال بناء أمة سودانية متجانسة متصالحة متعافية ، قوية موحدة أمنة متحضرة متطورة ، مؤمنة بتنوعها متفقة على أهدافها الوطنية ..
إن الآمال الكبيرة ، وبناء الدولة العصرية والأمة العظيمة يحتاج إلى ( صناعة ) لأن هذه الأهداف والتحديات الكبيرة تحتاج إلى رجال في قامتها يصنعونها ويقودونها بحنكة واقتدار ..
إننا نفتقد هؤلاء الرجال بشدة في دولتنا وفي مجتمعنا .. بالتأكيد سيكونون موجودين لكنهم محتاجون إلى عقل جمعي وإرادة شعبية ووطنية وتكاتف مجتمعي لابرازهم إلى ساحة الفعل الإيجابي الحقيقي ..
ولن يكون ذلك إلى بتضافر كافة الجهود الوطنية الصادقة من جميع مكونات الشعب السوداني .