” أكون أو لا أكون ؟ “
هكذا تساءل ” هاملت ” في نص مسرحية الكاتب الإنجليزي وليم شكسبير .. وكان هذا التساؤل بحجم المسألة ، وكانت المسألة بدرجة القضية وكانت هذه القضية بين حدي الوجود والعدم كما قال الناقد المغربي عبدالكريم برشيد ..
إذ ، أن الجواب عن هذا السؤال الوجودي ” أكون أو لا أكون ” .. هو تأكيد لحيوية الحياة ، فالوجود الخام وحده لا يكفي ، فالحياة في معناها الحقيقي هي المقاومة والنضال والجهاد وبذلك تكون جملة ” أنا أحيا الحياة ” ترادف وتشابه الجملة الأخرى : ” أنا أقهر الموت في شخص مظاهر الموت ” وما من شعب من الشعوب وجد في الوجود ومنذ تاريخ تشكله – وإلى اليوم – ما زال موجودا وحيا ، فما ذلك إلا لأنه كيان أوجد لنفسه آليات صلدة صلبة للمقاومة والمجاهدة دفاعا عن الوجود وبهذه المقاومة حقق حياته في موته يقاتل ويموت ليحيا
فإختيار المقاومة أو النضال لم يولد اليوم ، أو عند هذا الشعب أو ذاك ، فهو في الأصل إختيار وجودي ، نكون أو لا نكون ؟ تلك هي المسألة الوجودية الكبرى ، وإذا كان الدفاع عن الوجود وعن الحياة اختيارا من الإختيارات – فما أسهل الإختيار وما أصعب الإختيار – فسيكون بالتأكيد أصدق كل الإختيارات في الوجود وأصدقها وأكثرها حقيقة ومشروعية ، إن كل الأجساد الحية في الوجود أعطيت وسائل الدفاع عن الذات ، وكل الكائنات في هذه الطبيعة تملك آليات مختلفة للدفاع عن وجودها وعن حياتها .
كل الحيوانات لها أسلحة مختلفة للدفاع الذاتي ، لها أنياب تعض بها ولها أشواك تدافع بها ولها قرون تنطح بها ولها سمومها التي تنفثها ولها حوافر تركل بها وكل ذلك من أجل أن تقاوم عوامل الموت الخارجية ولا تقف طبيعة هذه المقاومة على الأسلحة الخارجية فقط ، وذلك لأن كل الأجساد الحية لها نظام داخلي للمناعة والمقاومة ، نظام فسيولوجي وبيولوجي ونفسي وعقلي وروحي متكامل يشكل الجدار الواقي ضد كل الغارات العدوانية الخارجية والداخلية معا .
وهكذا الإنسان ، عقلا وفكرا وتدبرا ، وطاقة روحية داخلية تهديه لابتكار آليات الدفاع عن كيانه وذاته .
هكذا الجيوش ، في كل مكان ، آليات مؤسسة لا يمكن فهمها دون فهم معنى أصل وجودها في حياة البلاد ، أناسا ، وجغرافية وتاريخ .
وإجابة لذات السؤال الوجودي ” نكون أو لا نكون تلك هي المسألة ” تأسست وتشكلت القوات المسلحة السودانية .. آلية إنتظم قوام بناءاها للموت في سبيل الحياة وإحتفاءا بالعناء في سبيل وجود السودان بين العالمين والإرتقاء بهويته الثقافية ويشدو مبتهجا بالنائبات والردى :
” نتعزى بأمانينا ، وبالشعب والشعر
فنشدو ونطيل
لا علينا أيها النيل
لقد كانت مخاضة
نحن صرعى الحب يا نيل
وفي الحب التياع ومضاضة
قد عشقنا شعبنا يا نيل
هل في عشقنا الشعب غضاضة “
والحداء يطول جريا على لسان صلاح أحمد إبراهيم :
” هات الأبريق والكأس ودعني أتغنى
إن بي شوقا إلى لهبة مصباحي إذا ما الليل جن
وإذا الباغي تجنى ..
لسلاحي ، لسلاحي “
القوات المسلحة ، هم قوس ظهر اليقين والنفوس المطمئنة بالوطن ، كتبوا في صحيفة حياتهم :
” أيا وطني ، دمت لا دام من مزقوك ولا عاش من أنكروك ، فنحن بنوك ونحن الفدا ” .. ويموتون ولكن بحسن الفعال .. ومن تخطفته المنايا صار بسيرته وعطيته قدوة للصغار ، منارة جيل وجيل وجيل .
أن تكتب عن القوات المسلحة ، يعني أنك تنظر باتجاه آخر غير الإتجاه المألوف .. يعني أن تحمل الحياة إلى حالة قوة السودان كله .
أن نكتب عن القوات المسلحة ، يعني أننا نخط خطا للهروب ‘ والهروب هنا ليس بمعنى الإنسحاب –
الهروب بمعنى خلق آلايات جديدة لإختراق الأفق .. ووضع معالم أخرى ، تشير باتجاه كيان آخر ، كيان هو السودان ثقافة وهوية .
ومقالنا هذا ، حقا ، بحث عن الجواني الغائر ، اللب ، العمق ، الجوهر .
إذن ، الكتابة اليوم لن تكون غير أن نغمس القلم في حبر النيل لنكتب عن ” ثلاثة وخمسون عاما ” من عمر مسيرة أفكار ومسار وجود ” .. جريدة القوات المسلحة ” وخطاب حكاياتها ، عاشتها مع كيمياء وفيزياء الكتابة الصحفية عن هموم الشعب وقضاياه وعن جيشه المقدام وعن الفكر والجمال .
جريدة القوات المسلحة ، وبما أنها لسان حال جيشنا بكل تاريخه الباذخ ، فهي لن تكون أبدا إلا علامة مائزة لميدان خصيب المعاني ، فالقلم لا يجري على صفحاته إلا بأوسم الكلمات وأجملها رصانة وجذالة في الطرح ، لأن الوطن في تفكير كل كاتب يفرض ذاته وملامحه وقضاياه ، وتظل الجريدة حارسة أمينة لها ، السودان وحده ما يتجسد في كل مكتوباته . تعيد صياغة الحاضر وترسي قواعد المستقبل دون رفض عشوائي للمطلق والثابت وذلك حافظا على المجتمع وجوهره وكيانه فالمحافظة على القيم الأساسية ليست عملا ضد ثورات التغيير .. العمل الذي يضاد التغيير الثوري هو الفهم المتيبس لهذه القيم .
جريدة القوات المسلحة ، ثلاثون عاما من الممارسة والوجود المختلف .. صاحبة أصحاب الأقلام الحكاءة ، الجامحون بالأقاصيص المشرئبة بالأحداث والشخصيات ذات البوح الحنين التي تشبع الذائقة الجمالية السودانية المرهفة .
الكلمة عند القوات المسلحة لها قدرة مدهشة في النفاذ إلى أعماق وجدان الأنسان السوداني والتعبير عنه بلا فجاحة في القول ، فكرا ولغة وحوار وحساسيات لا تتداعى إلا من قلب كاتب سوداني أصيل .
كانت ولا تزال مراوحة بين الإنسان والإنتماء ، رافعة من قيمة الشخصية السودانية ، الناقدة البصيرة ، النافذة في منظوراتها للأشياء والأحداث في واقعه … وفي أغلب الأحيان أجد جريدة القوات المسلحة تصور تمثلات الأديب السوداني الأصيل الممتدد في تربة الثقافة السودانية الطيب صالح
وهو يقول في إحدي تصويراته للشخصيات ذات البعد الناقد ، وعلي لسان الطاهر ود الرواسي :
” تعرفوا يا جماعة الدنيا دي ماشيه بالعكس . انت يا محيميد كنت عاوز تبقي مزارع بقيت افندي . ومحجوب كان عاوز يبقي افندي بقي مزارع “
قال محجوب :
” عليك أمان الله أنا إن لحقت مشيت في حكاية التعليم دي ، اليجري وراي هسع ما يلحقني . كنت بقيت مدير ولا وزير ” .
ويرد الطاهر قائلا :
” حكاية وزير هينه الزمن دا أيا من كان ممكن يبقي وزير . جملة الإيمان الطريفي ولد بكري إذا ما بقي وزير ما ابقي انا ود أبوي ” .
وقال محيميد :
” من وين يجيبو له وزاره ؟ البلد ما فضل فيها جنس وزارة ” .
ويرد الطاهر :
” ما بيغلبو حيله . يعملوه وزير الجمعيات الخيرية أو وزير الاجزخانات أو وزير الوابورات . اي شئ من جنس اللغاويس البنسمع بيها ” .
وقال محجوب :
” الطريفي ولد بكري الجمعية التعاونية ما قدر عليها . كمان عايز تعمله وزير ؟ ” .
ويرد الطاهر :
” انت تفتكر الحكاية بالكفاءه ، الموضوع كله اونطه في اونطه . المهم تبقي فصيح لسان وقليل إحسان . بس كتر من يحيا ويعيش “.
قال محجوب :
وبعدين ؟
ويرد الطاهر :
” بعدين كمان شنو ؟ ما خلاص ارقد قفي . اي حاجه عاوزه اضرب جرس . ادخل يا فلان وامرق يا علان .
فلان عينته حكمدار . فلان سويتك باش مفتش . فلان حكايتك بايظه معاي ، دخلتك السجن . فلان ما توريني خلقتك . فلان حبابك عشره “.
وقال محيميد :
” يا زول احمد ربك . شنو مدير وشنو وزير ؟ انت أحسن منهم كلهم . همك فاضي لا بيك لا عليك ” .
وقال الطاهر :
” صدقت والله . الواحد ما دام ضامن عشا ليلته ، عليك أمان الله ما يهمه حكمدار ولا سردار . الكلام انت يا محيميد . ضيعت عمرك في التعليم ولفيت ورجعت لي ود حامد الجسم دي بخفي حنين . كأنك بقيت افندي بالغلط . من زمان انت نفسك في زراعة الرماد دي ” .
ويرد له محيميد :
” كلامك صحيح . محجوب كان حقه يمشي في السكه دي . محجوب عنده طموح . عاوز السلطة . وانا عايز الحقيقة . وشتان بين البحث عن السلطة والبحث عن الحقيقة ” .
بهذا تفصح جريدة القوات المسلحة كأداة إعلامية ناقدة وكاشفة أمامنا ملامح المستقبل والحقيقة التي نتطلع عليها . وتمنحنا اليقين الذي لا يهتز بان الغد اكثر إشراقا وجمالا .