وكالات : كواليس
إسطنبول – يحتفي الأتراك يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام بذكرى تأسيس الجمهورية، التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923، لكن قلّما يلتفتون إلى إعلان سبقها بعام تقريبًا، ففي مثل هذا اليوم الموافق الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1922 قررت حكومة أنقرة بقيادة مصطفى كمال إلغاء سلطة الحكومة العثمانية في إسطنبول.
كان لقرار حكومة أنقرة التي قادت حرب التحرير ضد الحلفاء عقب الحرب العالمية الأولى، تبعات هائلة، بدءًا من انهيار الدولة العثمانية سياسيا، ومرورًا بتحول العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة، وتحول قوات الأخيرة إلى نواة القوات المسلحة التركية، وصولًا إلى إلغاء معظم ما يمت إلى تاريخ تركيا العثماني بصلة، اجتماعيا وثقافيا ودينيا.
وبعد مئة عام كاملة، يبدو أن المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي الذي رسمته حقبة ما بعد حرب تحرير الأناضول على يد أتاتورك، آخذ في التغير باتجاه معاكس تمامًا. فخلال العقدين الأخيرين، يُنظر على نطاق واسع إلى أن حكومة العدالة والتنمية استطاعت إجراء تغيير واسع في المشهد العام، على كافة الصعد، تحت شعار “تركيا الجديدة”.
وكتب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بمناسبة “عيد تأسيس الجمهورية” الـ99 الذي يوافق 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في دفتر الزوار خلال زيارته قبر أتاتورك أن “ثورات الديمقراطية والتنمية التي حققتها حكومات العدالة والتنمية خلال الـ20 عاما الأخيرة، لم تكتفِ بإزالة العراقيل أمام الإرادة الشعبية فحسب، بل أزالت الجدران السميكة التي شُيّدت بين الجمهور والجمهورية أيضا”.
الظروف التاريخية لإلغاء الدولة العثمانية
أسس مصطفى كمال “الجمعية الوطنية الكبرى” في أنقرة يوم 23 أبريل/نيسان 1920 لتكون البرلمان الجديد، وخاضت في أعقاب ذلك حروبًا مع الدولة العثمانية المتمركزة في إسطنبول بقيادة السلطان محمد السادس، في خضم حرب الاستقلال من قوات الحلفاء التي احتلت أجزاء مختلفة من البلاد بما في ذلك إسطنبول.
تمكنت قوات الجمعية الوطنية الكبرى من الوصول إلى مضيق البوسفور، واعتبرت الخطوة الأولى في حربها لتحرير تركيا من الحلفاء، مع استمرار وجود الحكومة العثمانية.
تم توجيه دعوة من الحلفاء إلى كل من حكومتي إسطنبول (الأستانة) وأنقرة للحضور في مؤتمر لوزان. ونتيجة إصرار مصطفى كمال بحصر التمثيل السياسي في المؤتمر في حكومة أنقرة، أعلنت “الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا” في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1922 أن حكومة الأستانة لم تعد هي الممثل القانوني، وأن إسطنبول ليست عاصمة للأمة بعد أن احتلها الحلفاء، كما أعلنت أنه سيتم إلغاء السلطنة. أقر مؤتمر لوزان في الـ11 من الشهر نفسه بسيادة “الجمعية الوطنية”، وأدت هذه التطورات إلى انهيار السلطنة العثمانية تلقائيًا، حيث خرج السلطان محمد السادس على متن السفينة الحربية البريطانية مالايا يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1922.
ورغم إلغاء وانهيار السلطنة، فإن الحكومة التركية ظلت تعترف حتى بعد تأسيس الجمهورية بلقب الخلافة للأسرة العثمانية، لتكون بمثابة زعامة دينية للمسلمين في العالم، لكن في الثالث من مارس/آذار 1924 أعلن أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية رسميا بعد سحب لقب الخلافة من عبد المجيد الثاني، الذي أخذ هذا اللقب عن ابن عمه محمد السادس، ونفي أفراد الأسرة العثمانية خارج البلاد.
إعادة الهوية الإسلامية للدولة
الصحفي والباحث في التاريخ التركي عامر سليمان يرى أن حزب العدالة والتنمية التركي أخذ على عاتقه، منذ اليوم الأول لوصوله إلى السلطة عام 2002، تنفيذ عدة إصلاحات بعيدة المدى في عدة ملفات، أبرزها الاقتصاد، والقضاء على الوصاية العسكرية ونفوذ جنرالات الجيش وتدخلهم في الحياة السياسية، وإعادة الهوية الثقافية الإسلامية للدولة بعد أن انسلخت عنها وحولت قبلتها نحو الثقافة الغربية العلمانية منذ السنوات الأولى لتأسيس الجمهورية.
يضيف الباحث التركي، في حديث للجزيرة نت، أنه رغم احترام الحزب مبدأ علمانية الدولة، وحرصه على تقديم نفسه بوصفه حزبا محافظا في دولة علمانية، فإن “ما نفذه الحزب على أرض الواقع طوال فترة حكمه يُظهر أن إعادة الهوية الإسلامية المحافظة للمجتمع التركي كانت على رأس أولوياته”.
فقد خاض أردوغان وحزبه معارك سياسية طاحنة منذ توليه الحكم في قضية الحجاب، والسماح للنساء المحجبات بنيل حقوقهن في حرية الملبس وممارسة أدوارهن في المجتمع دون قيود. وأصبحت رؤية النساء المحجبات بكثرة في كافة دوائر الدولة بما فيها التابعة للجيش والشرطة والقضاء أمرا مألوفا بعد أن كان مجرد الحديث عنه أمرا خطيرا، وفقًا للباحث التركي.
عودة المظاهر الدينية للدولة
وفي حين أن الكثير من المظاهر الدينية التي كانت رائجة في عهد الدولة العثمانية تراجعت أو تلاشت تماما بعد إعلان الجمهورية، إلا أنها، وبحسب المتحدث نفسه، بدأت في الانتشار من جديد.
ويضرب على ذلك مثالا بـ”مراكز تحفيظ القرآن” التي كانت منتشرة في أنحاء الدولة العثمانية ويُطلق عليها “دار القُراء”، والتي كانت تحظى بمراسم خاصة ترافق بدء الطلبة وإتمامهم الحفظ. ومع بداية عهد الجمهورية تم إلغاء كل ذلك تقريبًا. أما مؤخرًا فقد انتشرت مراكز تحفيظ القرآن انتشارا كبيرا، كما أصبحت احتفالات تخريج الحفاظ شائعة في تركيا حتى إن بعض السياسيين والمسؤولين يحضرونها أحيانا.
وفي مايو/أيار 2021 شارك رئيس الجمهورية في مراسم تخريج 163 طالبا من حفظة القرآن، وتم تسليمهم الإجازة في القرآن الكريم، وكان من بين المتخرجين حفيدا رئيسي الجمهورية والبرلمان.
ولفت سليمان إلى أن المراسم أقيمت في مسجد آيا صوفيا الكبير بعد إعادة افتتاحه للصلاة مجددا، وهو ما عُد مداواة لجرح غائر في المجتمع التركي المحافظ لم يندمل منذ عام 1934 عندما حُوّل المسجد إلى متحف.
تعليم اللغة العربية
وعلى صعيد التعليم، أعاد حزب العدالة والتنمية إدراج اللغة العربية في المناهج التعليمية، في محاولة لتوطيد علاقة الأجيال الناشئة بالثقافة التركية الإسلامية، بعد أن أحدث “الانقلاب اللغوي” واستبدال الحروف اللاتينية بتلك العربية قطيعة بين الأتراك والإرث العثماني الذي كان يعتمد الحروف العربية.
ومن المظاهر التي بات من المعتاد رؤيتها أيضا في عهد العدالة والتنمية وجود رئيس الشؤون الدينية إلى جوار أردوغان في العديد من المناسبات الوطنية وافتتاح المشاريع الضخمة، في مظهر يعيد إلى الأذهان منصب شيخ الإسلام، الذي كان معاون السلطان العثماني في إدارة الشؤون الدينية وأحد أهم المسؤولين في هيكل الحكم.
ولفت الباحث التركي في هذا الصدد إلى مشاركة رئيس الشؤون الدينية علي أرباش في مراسم افتتاح مصنع السيارة التركية “توغ”، وقيامه بالدعاء ومن خلفه أردوغان والمسؤولون الذين حضروا الحدث ومن بينهم رئيس أركان الجيش.
انقطاع سياسي واستمرار ثقافي
لكن التغيير الذي طرأ على الهوية الدينية والثقافية وكذلك التحولات الاجتماعية التي شهدتها تركيا خلال عهد حزب العدالة والتنمية، لا تعني بالضرورة إعادة إحياء الدولة العثمانية، بل يعني إزالة العقبات أمام تراث لم ينقطع أصلًا، وفق ما يؤكد البروفيسور رمضان يلدرم، رئيس تحرير مجلة “رؤية تركية” الصادرة عن مركز “سيتا” للدراسات.
ويفرق يلدرم، وهو أيضا أستاذ في كلية الإلهيات بجامعة إسطنبول، في حديث مع كواليس نت، بين التراث السياسي للدولة العثمانية من جهة، والتراث الديني والثقافي من جهة أخرى، مؤكدا أن الأول تجاوزه الماضي، في حين لا يزال الأخير حيًا في مدن الأناضول وفي مدن أخرى كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية مثل سراييفو وبغداد ودمشق والقدس والإسكندرية. ويرى أن “التراث الثقافي والديني من الخصائص الأساسية للناس والمجتمع، وطالما يعيش الناس والمجتمع يستمر هذا الإرث، ومن المستحيل التخلص منه”.
وباستثناء السلطة السياسية للدولة العثمانية، يشير الأكاديمي التركي إلى أن جميع مؤسسات الدولة العثمانية استمرت في الفترة الجمهورية. وأوضح أن “تاريخ الأجهزة مثل الجيش وإدارة الإطفاء والشرطة والبريد أقدم من الجمهورية”. وضرب مثالا على ذلك “تاريخ إنشاء جامعة إسطنبول، التي أنا عضو فيها، مكتوب أنه يعود إلى عام 1453 م، وتم إنشاء كلية الإلهيات، حيث أعمل أكاديميا، في عام 1900”.
وبينما حدثت “مشاكل كبيرة في العلاقات بين الدين والدولة والمجتمع والدولة نتيجة السياسات الخاطئة”، يلفت البروفيسور رمضان يلدرم إلى أنه “نتيجة التغيير السياسي التدريجي منذ عام 1950، تحققت تطورات إيجابية في بعض المجالات”.
وكما فعل بالنسبة لجميع شرائح الشعب التركي، فإن حزب العدالة والتنمية، قام أيضًا بحل مشاكل الشريحة الدينية المحافظة. ويقول يلدرم “كانت عمليات الحظر المطبقة خلال الحكومات السابقة سياسية. ما جاء من السياسة ذهب سياسيا”.