وكالات : كواليس
ساوباولو- في ظل الكثير من الضبابية والتعقيد الذي كان يشهده الواقع البرازيلي خلال السنوات الأربع الماضية، كان الأمر الأكثر وضوحاً هو الانقسام الحاد الذي تعيشه البلاد.
فمنذ تسلم الرئيس الحالي جايير بولسونارو الحكم مطلع عام 2019 من سلفه الرئيس المؤقت ميشال تامر الذي قاد البلاد بعد إسقاط آخر رئيسة لليسار (ديلما روسيف) -عبر البرلمان- والمشهد في البرازيل يزداد انقساماً، ظهر ذلك منذ اللحظة الأولى لتسلمه الحكم.
حينها أطلق بولسونارو شعاراً وهو يرفع علم البرازيل في خطاب تسلم الحكم قائلاً “علم البرازيل هذا لن يصبح أحمر مجدداً” في إشارة إلى أن اليسار لن يعود إلى الحكم من جديد. ومنذ تلك اللحظة كان “الأخذ والرد” في السياسة -كما في الشارع- بين التوجهين اليميني واليساري لا يتوقف.
فمنذ الشهور الأولى لحكمه، بدأ اليسار يطالب برحيله، وينزل إلى الشوارع لإسقاطه، وهو في المقابل يسير مع مؤيديه باتجاه مسحِ إرث “حزب العمال” عبر إلغاء برامجه الاجتماعية، أو تعديل أسمائها، كإلغاء برنامج “بيتي حياتي” لإسكان الفئات الأكثر فقراً، واستبداله ببرنامج “البيت الأخضر والأصفر” في إشارة لألوان علم البرازيل، أو إزالة برنامج “الحزمة العائلية” واستبداله ببرنامج “دعم البرازيل”.
وهذه ليست إلا نماذج بسيطة عن محاولات بولسونارو بدء حقبةٍ جديدة من الحكم في البلاد التي حكمها اليسار 13 عاماً متواصلة، منذ وصول زعيمه لولا دا سيلفا إلى الحكم عام 2003، وهو الذي كان ينفذ أمراً قضائياً في السجن بتهم فسادٍ حين تسلم بولسونارو الحكم، ممنوعاً من المشاركة في الانتخابات الرئاسية رغم كون استطلاعات الرأي أعطته أفضلية حينها لو تمكن من ذلك بوجه بولسونارو.
جائحة وأزمات مع بداية الحكم
لم يمر على حكم بولسونارو أكثر من شهرين، حتى وصلت جائحة كورونا إلى البلاد. حينها قلل الرئيس من أهميتها، ووصفها بأنها أشبه بالرشح العادي، وطالب بعدم إغلاق الاقتصاد على عكس التوجه العالمي حينها، وعلى عكس قرارات حكام الولايات كذلك، الأمر الذي زاد من الانقسام، وشكل وجهاً جديداً من أوجه الأزمة، في وقت تسارع انتشار فيروس كورونا لتصبح البرازيل أكثر المتضررين منها على مستوى العالم لا يُنافسها سوى الولايات المتحدة التي كان يحكمها “المثل الأعلى” لبولسونارو حينها (دونالد ترامب) وهو الذي كان يحمل لقبه “ترامب الاستوائي” منذ وصوله إلى الحكم.
تخطى مجموع الوفيات في البرازيل بسبب جائحة كورونا 688 ألفاً، وارتفعت معدلات الجوع لتطال 33 مليونا على الأقل، وارتفعت الأسعار وزادت الأزمات التي كانت تواجه بولسونارو، وعند كل أزمة كانت قوى المعارضة تنزل إلى الشوارع وتطالب برحيله وإسقاطه، ويحاول نواب البرلمان القيام بإجراءات عزله، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في الحكم، بدعمٍ واسعٍ من قوى اليمين المحافظ، ورجال الأعمال والمزارعين، الذين كان لقراراتهم أثر ايجابي كبير على استمرار عملهم وتوسعه خلال فترة حكمه.
عودة دا سيلفا إلى المشهد
وسط كل الأزمات السياسية والاقتصادية والصحية التي كان يواجهها بولسونارو منذ السنة الأولى لحكمه، خرج دا سيلفا من السجن في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بقرارٍ قضائي مفاجئ من المحكمة الفدرالية العليا ألغت بموجبه كافة الأحكام الصادرة بحقه، ومنحته حقوقه السياسية والمدنية كاملةً مجدداً، لتبدأ مبكراً الحملات الانتخابية للطرفين استعداداً للانتخابات الجارية الآن.
رغم كافة الظروف التي واجهها بولسونارو، ومع ارتفاع أسعار كافة السلع ووصول أسعار الوقود إلى مستويات قياسية قبل 5 أشهر من الانتخابات فقط، وأمام الضغط والتوقعات بفوز دا سيلفا (المنافس الأكبر) وعودته وتياره إلى الحكم، على عكس ما كان قد توعد به بولسونارو يوم تسلمه للحكم.
قام الرئيس الحالي بسلسلة قراراتٍ استثنائية، ألغي بموجبها الضرائب على الوقود والسلع الأساسية وقدم مساعدات مالية لفئات عدة في المجتمع، ووعد برفع الحد الأدنى للأجور وتحسين الاقتصاد في ولايته الثانية. ليخوض الجولة الأولى من الانتخابات، في وجه منافسه، ويحصل على المركز الثاني (43% من الأصوات) وهي نسبةٌ أعلى بـ 10 نقاطٍ مما توقعته له استطلاعات الرأي، وبفارقٍ لا يتجاوز 5 نقاطٍ عن منافسه اليساري.
ومع كتلة نيابية يمينية غير مسبوقة في البرلمان، تُشكل الكتلة الأكبر وتتجاوز كتلة حزب العمال الذي أثبت كذلك استمرار حضوره في اللعبة السياسية. وأظهرت النتائج مجدداً حجم الانقسام والاستقطاب بين معسكري اليمين واليسار.
جولةٌ ثانيةٌ حاسمة
بعد 28 يوماً فقط على الجولة الأولى، تُجرى اليوم الجولة الثانية من الانتخابات، تضع فيها استطلاعات الرأي مرشّح اليسار (دا سيلفا) في المقدمة وتتوقع فوزه وإن بفارقٍ بسيط على الرئيس الحالي.
وقد أشارت استطلاعات المؤسسة البرازيلية الأعرق في هذا المجال “داتا فوليا” لاحتمال حصول دا سيلفا على 52% من الأصوات، مقابل 48% لبولسونارو.
توقعاتٌ واجهها بولسونارو بسلسلةٍ من الوعود (22 وعداً) وهو رقمه الانتخابي، تشمل مجموعةً كبيرةً من الإصلاحات الضريبية والاقتصادية والتقديمات المالية والوعود بتحسين الواقع الأمني، نشرها عبر وسائل التواصل عشية الجولة الثانية للانتخابات، تلتها رسالة دعم مصورة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي دعا البرازيليين لاختيار “بولسونارو” باعتباره أحد “أفضل قادتهم والحاصل على احترام ودعم الجميع” وفق تعبيره. الأمر الذي يجعل نتائج الجولة غير محسومة تماماً.
– Meu obrigado a Donald Trump pelo apoio! Sinto orgulho por ver que nosso trabalho por um Brasil mais seguro e mais livre é respeitado no mundo todo e que, hoje, contamos com o apoio de nações democráticas e não de ditaduras socialistas como no passado. Que a liberdade prevaleça! pic.twitter.com/EnI0VYEk7x
— Jair M. Bolsonaro 2️⃣2️⃣ (@jairbolsonaro) October 30, 2022
وحول ذلك، يقول الخبير في الشؤون السياسية البرازيلية، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ساوباولو الفدرالية، رودريغو زاغني، للجزيرة نت “التوقعات بحسم الانتخابات صعبة للغاية، إلا أن الاحتمال يبقى بإمكانية فوز دا سيلفا، إنما بفارق ضئيل على منافسه بولسونارو، وذلك نظراً لكل الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي مرت بها البلاد، وانقسام آراء البرازيليين بشكل حاد وغير مسبوق في النظر لطروحاتٍ كلا المرشحين في التعامل معها”.
سيناريوهات النتائج
يعتبر الخبير البرازيلي، زاغني، في حديثه للجزيرة نت أن وجود هذا الفارق البسيط والمحدود بين المرشحيْن يبقي الاحتمالات مفتوحة على السيناريوهين.
السيناريو الأول: فوز مرشح اليسار في الانتخابات بفارقٍ بسيط، مما سيمكنه من الوصول إلى الحكم، إنما دون وجود دعمٍ كافٍ له بالبرلمان، في ظل وجود كتلةٍ وازنة داعمة لليمين، مما سيجعل فترة حكمه غير ميسرة ويواجه صعوبات كبيرة في الحكم تحتم عليه بناء علاقات داخل البرلمان والحصول على تأييد من أحزاب الوسط لتنفيذ أجندته السياسية، وإلا فسوف يواجه بتعطيل مشاريعه من قبل المعارضة.
يضاف لذلك: تشكيك بولسونارو وحملته في العملية الانتخابية، وآلية التصويت، والتشكيك برئيس المحكمة العليا للانتخابات في أكثر من مرحلة، مما يجعل احتمال تكرار سيناريو خسارة ترامب في الولايات المتحدة ولجوء مؤيديه إلى الشارع، وعدم قبول النتائج احتمالاً وارداً، يضعنا جميعاً تحت تهديد حقيقي يجب الالتفات له، من ردة فعل بولسونارو ومؤيديه في حال عدم فوزهم بالانتخابات، والتشكيك المحتمل بالنتائج، مما يهدد العملية الديمقراطية، ويؤدي لعدم استقرار المرحلة المقبلة.
أما السيناريو الثاني، وهو مخالف لاستطلاعات الرأي التي كانت قد فشلت في تقديم نتائج دقيقة بالجولة الأولى، فهو بحسب زاغني “أن يفوز بولسونارو بالانتخابات، وفي هذه الحالة سيكون محاطاً بدعم برلماني غير مسبوق، يمثل بالنسبة له حاضنة برلمانية وشعبية، في ظل صعود اليمين في البرلمان، الأمر الذي قد يجعل فترة حكمه الثانية مختلفة تماماً، وأكثر قوة وقدرة على تنفيذ مشاريعه وخططه في إدارة البلاد، وسيقلل من احتمال قدرة المعارضة على إسقاطه أو التأثير في قراراته بشكل أضعف مما كانت عليه خلال الفترة الماضية لحكمه.
أمام هذين السيناريوهين، تبرز مدى أهمية وتأثير قرار البرازيليين في هذا اليوم الانتخابي، مما يجعل مصير أكبر ديمقراطيات القارة اللاتينية مرهوناً بنتائجها، كما هو مسار اتجاه البرازيل السياسي، أكان نحو الاستمرار تحت حكم اليمين، أو العودة الى حكم اليسار، تماماً كما فعلت دول كثيرة بالقارة اللاتينية في نتائج انتخاباتها الأخيرة، ككولومبيا وتشيلي وبيرو وبوليفيا، في موجة عودة لحكم اليسار لتلك البلاد، التي تتشابه ظروفها، رغم اختلاف أحجامها وواقعها.