وكالات : كواليس
“إن بناء المصانع سهل، وبناء المستشفيات ممكن، وبناء المدارس ميسور، ولكن الأمر العسير هو بناء الناس، بناء الأفراد، بناء المجتمع”، هكذا تكلم الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر عام 1958، وقبله بـ20 عاما تقريبا كتب المهندس المعماري الكبير سيد كريم في مجلة العمارة 1939 قائلا “لقد كانت العمارة وستبقى دائما سجلا يقرأ فيه تاريخ العصر الذي سايرته ومدنية الشعوب التي تطورت معهم”.
وبين ما قاله الرئيس عبد الناصر وكتبه المهندس كريم تنازعت العمارة محاولات جذب شتى ما بين نزوات السياسة وحسابات الاقتصاد كان المجتمع بينهما هو الضحية، وهذه هي قصة كتاب “الحداثة الثورية.. العمارة وسياسات التغيير في مصر 1936-1967” الذي يتناول فترة مهمة من التاريخ المعماري والثقافي والسياسي في مصر، والذي تفصله أحداث عام 1952، إنه تاريخ اشتبكت فيه الطموحات الحداثية مع السياسات الوطنية والرؤى التنموية.
والكتاب من تأليف محمد الشاهد، وترجمة أمير زكي، ودرس الشاهد العمارة في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا “إم آي تي” (MIT)، فحصل على درجة الماجستير، ثم في جامعة نيويورك حيث حصل على الدكتوراه.
بعد تغيير عام 1952 تغيرت الشخصية المادية والمكانية في المدن المصرية بشكل كبير، والسؤال المركزي المطروح في الكتاب الصادر عن المركز القومي للترجمة (2021) هو: كيف امتزجت الثقافة المعمارية الحداثية مع السياسات الوطنية في مصر؟ وما تأثير هذا الامتزاج على الكيفية التي التقت بها الحداثة المعمارية في مصر مع الانتقال السياسي للبلاد من الملكية إلى الجمهورية العسكرية؟
البحث عن شرعية
يرى المؤلف أن الإنشاءات بكل أنواعها والمتمثلة في المباني والعمارات السكنية والموانئ والطرق والكباري (جسور)، وأن تزايد عمليات التعمير وتغيير المساحات الحضرية ذات القيمة الرمزية بالإضافة إلى المبادرة بالقيام بخطط شاملة لإعادة تنظيم المناطق الحضرية، ومن ضمن ذلك القيام بإنشاء بنية تحتية وخدمات ووحدات سكنية جديدة هي إحدى الطرق التي تبحث عنها بعض الأنظمة لترسخ بها شرعيتها كنظام ثوري.
ونظام يوليو (نظام عبد الناصر) -الذي تبنى “سياسات ثورية”- رأى في الإسكان المسار المثالي الذي يمكن أن تنضج من خلاله قدرته على تحقيق وعوده الثورية، وأن إسكان البلاد خطوة ضرورية نحو استقلالها الحقيقي، وكانت الذروة في إنشاء مدن وأحياء جديدة مثل حي العجوزة ومدينة الأوقاف التي تحولت إلى حي “المهندسين” وصولا للعاصمة الجديدة “مدينة نصر” التي تعبر عن مصر حديثة خلقتها السلطة الجديدة.
العاصمة الثائرة
وانتشرت بداية زمن الجمهورية الجديدة صور الأبنية الجديدة في الصحافة لتعرض تأثير الثورة على المدن، فعلى سبيل المثال تساءلت جريدة الأهرام: ماذا فعلت الثورة للعاصمة الثائرة؟ الإجابة التي قدمها المحررون تضمنت أرقاما مذهلة أظهرت للقراء مدى التغير الحضري من خلال الشقق والمساكن والمدارس ومكاتب البريد والمرافق والخدمات في أنحاء البلاد، والتي كانت بمثابة إنجازات ملموسة للثورة حسب تقارير منشورة آنذاك في الصحف القومية.
ولعبت الصحافة دورا بارزا في بناء سردية الحداثة الثورية التي تقول إن هناك ثورة قادت سريعا إلى التحديث والتنمية المتزايدين اللذين شعر بهما كل المصريين، ومن أجل أن تقوم الصحافة بأداء هذا الدور نشرت كتيبات خاصة تحتفي بعيد الثورة بشكل دوري، وكل المجلات الرئيسية تقريبا كانت تنشر أعدادا خاصة ترصد إنجازات الثورة.
على سبيل المثال نجد أخبارا في مجلة “بناء الوطن” عن تطوير ميناء الإسكندرية بشكل عالمي، وتسليم 5 آلاف شقة تحت عنوان “ثورة التعمير والإسكان في محافظة الإسكندرية”، أما في “الأهرام” فنجد تقريرا تحت عنوان “ماذا فعلت الثورة للعاصمة الثائرة؟” عن بناء نصف مليون وحدة سكنية و850 مدرسة وإنشاء برج القاهرة وإستاد القاهرة وعدة فنادق جديدة خلال 10 سنوات من عمر “الثورة”.
العمارة والحالة السياسية
ويظهر الكتاب مدى تأثر أنماط العمارة بالحالة السياسية، ففي العهد الملكي الأكثر ليبرالية تتنوع أشكال العمارة بين التأثر بالعمارة العالمية والأوروبية تحديدا ومحاولة محاكاتها، مع محاولة إيجاد نموذج حداثي ذي خصوصية مصرية يستفيد من العالم ولا يقلده، أو العودة إلى طابع بناء مصري قديم واستلهامه، مثل العمارة الفرعونية أو القبطية أو الإسلامية.
أما بعد يوليو/تموز 1952 فكان المطلوب هو عمارة عملية تؤدي المستهدف دون تركيز على الجماليات، عمارة اشتراكية متأثرة بنموذج الاتحاد السوفياتي وشرق أوروبا.
وبالقياس، في العهد الحالي نستطيع أن نلاحظ تركيز الدولة في مشروعاتها على نموذجي دبي والصين المثل الأعلى بالنسبة للنظام والمتمثل في بناء الأبراج وناطحات السحاب التي قد تكون منطقية في ميناء ومركز تجاري محدود المساحة مثل دبي، ولكنها تبدو عبثية عند محاكاتها في امتداد صحراوي شاسع مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وهو كذلك ما نشاهده في توجه أصحاب التجمعات السكنية الجديدة “الكومباوند” لمنح تجمعاتهم طرازات إسبانية وإيطالية وأميركية باعتبارها المثال المطلوب بالنسبة للطبقة المترفة.
تحول الفكر المعماري
ويقتفي المؤلف الجهود والمحاولات التي حوّل بها الجيل الجديد من المعماريين المصريين العمارة إلى مهنة، واستكشاف ما يعنيه تصميم العمارة المصرية الحديثة، إذ تطورت العلاقة بين المعماريين والدولة بعد التحولات السياسية في مصر، وكان لهذا تأثيره على كل من المهنة والسياسات الوطنية حين شكل البناء والتنمية ملجأ مركزيا للدولة الثورية.
ويهتم المؤلف -لكونه مهندسا معماريا- بفكر المعماريين المصريين من خلال الانتقال من العمارة إلى الحضرية، وكيف تحول المهندسون وتكيفوا في ثقافتهم ومفاهيمهم وفقا لرغبات السلطة، ويعرض كمثال على ذلك نموذج المهندس سيد كريم أول من حصل على الدكتوراه في العمارة في مصر وأول من أنشأ مكتبا استشاريا في العمارة والتخطيط بمصر، إضافة إلى إصداره أول مجلة معمارية في المنطقة.
ويدرس كيف أوصل المعماريون إلى الرأي العام الأوسع ضرورة تطبيق التدخلات الخططية الحضارية الحديثة في القاهرة، وكيف أثرت لحظة التحول السياسي على المقترحات التي دارت حول تغيير المدينة من خلال النقاشات الحضرية مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي سعت إلى تغيير المدينة.
ويرصد الكتاب صورة للتفاوت وغياب العدالة الاجتماعية في التنمية وتوزيع المصادر بين المدن المصرية، مركّزا على سؤال الإدارة البلدية عن طريق وضعها داخل الثقافة المصرية والحكومة المركزية، إذ لم يف النظام الجديد بوعده بتأسيس نظام للإدارة المحلية والحضرية ليفكك مركزية الحكم ويسمح للمدن والبلدات بالتنمية، فلم يتم الوصول إلى الاستقلال المحلي، واستمرت تنمية المدن معتمدة على الدولة المركزية أثناء العهد الثوري، ومع صعود الدولة كراع رئيسي للبلد في مجالي العمارة والتنمية جُنّد المهنيون -ومن ضمنهم المعماريون والمهندسون- في برنامج الدولة التنموي.
“نصر” مدينة الثورة
أما أهم فصول الكتاب فهو الذي يرصد تطور ثقافة السكن المصرية عن طريق التركيز على الطرازات والمعالم النمطية للإسكان من الثلاثينيات من القرن العشرين حتى الستينيات، إذ شغل الإسكان مكانا بارزا في الممارسات المهنية، سواء في الخطاب السياسي والمعماري أو في النقاش العام، وذلك مع نضج الحداثة المعمارية وتغير السياسات الوطنية بمناقشة الموضوعات التي نوقشت من قبل (العمارة، والحضرية، والإدارة البلدية) أثناء تلك الحقبة.
وأعلن عن “مدينة الثورة” أو “مدينة نصر” (شرق القاهرة) باعتبار أنها “العاصمة الجديدة، فيها ملعب رياضي وقاعة مؤتمرات ومناطق أولمبية وحكومية وسياحية وسكنية ومنطقة الجامعة الجديدة، إنها أول مدينة في مصر خططت وفقا لآخر نماذج التخطيط المعاصر بأحدث الخدمات من شبكة مواصلات ومن بنية تحتية”، هكذا كانت تصفها جهات التخطيط ووسائل الإعلام في ستينيات القرن العشرين.
ومع نهاية الستينيات كانت مدينة نصر عملا قيد التحقيق، في حالة بناء دائم ومعدلات أشغال منخفضة، مما أظهر فشل خلق النسق الحضري الثوري الذي وعد به النظام الناصري، والفشل أيضا في الاستجابة لأزمة الإسكان الملحة التي بقيت مشكلة مجتمعية لعدة عقود.
وبالنسبة للمهندس الحداثي سيد كريم ورفاقه كانت مدينة نصر فرصة لممارسة مهاراته في العمل والتخطيط على نطاق واسع، إذ جسدت مرحلة مصر المبدئية سياسات نظام عبد الناصر والممارسة المهنية للمعماريين المصريين في نهايات الخمسينيات، وذلك على الرغم من سوء استخدام المفاهيم المتعلقة باشتراكية عبد الناصر حتى اليوم، فبنظرة مقربة للعمارة والتخطيط المبدئيين للمدينة والحياة الاستهلاكية التي روجت لها وأثاث المنزل الذي سوقت له من أجل العاصمة الجديدة لمصر تنكشف وجهة نظر مختلفة، فالنظام زعم لنفسه الثورية واستخدم مؤسسات الدولة ليوسع العادات الاجتماعية للطبقة الوسطى والثقافة الاستهلاكية، بحسب المؤلف.
يظهر ميدان التحرير كمرآة عاكسة للوضع السياسي في مصر، فيعرض الكتاب محاولات الإعلان السياسي في الميدان منذ كان يحمل اسم “ميدان الإسماعيلية” في العهد الملكي، وكان قرار نظام يوليو عام 1956 هو تغيير ملامح ميدان التحرير ببناء 3 مبان جديدة: بلدية القاهرة (المجمع حاليا)، جامعة الدول العربية، وفندق النيل هيلتون، وتحويل ثكنات قصر النيل إلى حديقة عامة ونافورة.
ويمكننا أن نلاحظ استمرار رمزية الميدان في الفترة اللاحقة لعام 1967 في ارتباطه بالمظاهرات المعارضة على مر السنوات، ثم ما مثله ميدان التحرير في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 وما تلاها من محاولات تغيير ملامحه لسهولة السيطرة عليه.