أحمد غباشي
فشل اجتماع جدة التشاوري بين وفد الحكومة السودانية والجانب الأمريكي فيما يخص التحضير لمفاوضات جنيف التي كان من المزمع عقدها يوم ١٤ أغسطس الجاري، بين الحكومة السودانية ومليشيا الدعم السريع.. فشل الاجتماع في التوصل إلى تفاهمات حول “شواغل الحكومة السودانية” قبل بدء منبر جديد في جنيف، وفشلت معه إحدى تكتيكات الإدارة الأمريكية في التعامل مع ملف الحرب في السودان.
وتجدد السؤال؛ هل حقاً ترغب الإدارة الأمريكية في إيقاف حرب السودان؟.
التصريحات التي أدلى بها المبعوث الأمريكي الجديد توم بيربيلو، في وقت سابق، لبرنامج تنوير بمنصة أكس، التي قال فيها إن الدعم السريع لن يكون حلاً حتى لو انتصر في الحرب لأن السودانيين لا يرغبون أن يكون له دور في مستقبلهم السياسي، وكذلك التسريبات التي رشحت حول فحوى المكالمة الهاتفية بين الرئيس البرهان ووزير الخارجية الأمريكي بلينكن، التي حملت ردوداً مطمئنة لحديث البرهان حول ضرورة إيجاد حلول لشواغل الحكومة السودانية قبل المضي إلى جنيف، وكان من أثرها ترتيب لقاء جدة.. كل ذلك اعتبره مراقبون مؤشراً على جديَّة واشنطن في التوصل لحلول تقود لإيقاف الحرب في السودان، ودفعت البعض للاعتقاد بأن الرؤية الأمريكية للحرب في السودان ربما تكون قد تغيّرت، حيث كانت تنظر إلى الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع باعتبارهما طرفين متكافئين في درجة المشروعية، وتغض الطرف عن حقيقة أن الدعم السريع قوة متمردة على مؤسسة القوات المسلحة السودانية، وعن حجم الانتهاكات التي لا تخطئها العين، التي ارتكبتها هذه المليشيا بحق السودانيين بحيث ترقى لأن تصنَّف جرائم ضد الإنسانية وتصل إلى مستوى الإبادة الجماعية.
ولكن فشل اجتماع جدة، وما حمله بيان وزارة الخارجية السودانية من تفاصيل حول الأسباب فشل الاجتماع كشف بوضوح أن واشنطن لم تزل متصلبة في رؤيتها، وما زالت تنظر للسودان كدولة بلا سيادة وأنها هي صاحبة الحق في تقرير كل شيء بشأنها..
بيان الخارجية يوضح أن الوفد الأمريكي لم يستجب لأهم الشواغل التي تحدث عنها البرهان في مهاتفته مع بلينكن، حيث لم يلتزم بدفع المليشيا للالتزام ببنود اتفاق جدة الذي يتضمن الالتزام بحماية المدنيين في السودان ويستند إلى القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان، بجانب الإصرار على مشاركة دولة الإمارات كمراقب، في تجاهل واضح لاعتراض السودان على مشاركة الدولة التي يعتبرها أكبر المتورطين في تمويل التمرد.
كان ينبغي للإدارة الأمريكية أن تدرك أن فريق خارجيتها الذي ظل ممسكاً بإدارة الملف السوداني منذ حكومة قحت وحتى اندلاع الحرب، التي كان سببا مباشراً فيها بمساندته لنهج المبعوث الأممي فولكر بيريتس، كان يقدم معلومات مضللة وغير دقيقة عن الصراع السياسي في السودان، وعن حقيقة قدرات القوى السياسية المدنية التي يريدون فرض قياداتها حكاماً على السودانيين، وقد تأكد ذلك التضليل خلال الاستجوابات الساخنة التي قدمها نواب في الكونغرس الأمريكي، في وقت سابق، واتهموا فيها الخارجية الأمريكية بتقديم تقارير مضللة عن الوضع في السودان منذ الاتفاق الإطاري وما استتبعه من سيناريوهات أدت في النهاية إلى انزلاق الأوضاع إلى حرب طاحنة بدلاً عن ما كان مخططاً له من انقلاب مباغت وسريع.
صحيح أنه من الواضح حوجة الإدارة الأمريكية لإنهاء الحرب وتحقيق وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في السودان، لاعتبارات كثيرة أولها أن حرب السودان باتت تهدد بانزلاق المنطقة كلها إلى دائرة العنف والفوضى، خاصة مع تعدد الجنسيات المشاركة في الحرب؛ من أحباش، وجنوب سودانيين، ومقاتلين من تشاد، والنيجر، وعدد من دول الجوار الإفريقي، مما يعيد للذاكرة الأمريكية مشهد السيناريو الأفغاني في الثمانينات والتسعينات، حيث يرجع المقاتلون بعد الحرب إلى بلدانهم ليعيدوا إنتاجها من جديد (هكذا في الذهنية الأمريكية).
أضف إلى ذلك أخطار تدويل الصراع على مصالح أمريكيا التي تعتبر نفسها صاحبة الحق الوحيد في الملعب السوداني، فإن إطلالة قوى دولية منافسة أو معادية مثل روسيا وإيران تعتبر تهديدا مباشراً للمصالح الأمريكية.
ومن جانب آخر فإن اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية يعتبر دافعًا مهمًا الديمقراطيين لختم ملفهم الحافل بإشعال الحروب دون وضع نهايات لها، فخلال سنواتهم الأربع أشعلوا وساهموا في إشعال ثلاثة من أسوأ حروب القرن؛ أوكرانيا وغزة والسودان!!.. فعلى الأقل يريد الديمقراطيون أن يكتبوا في سجل هذه الدورة أنهم نجحوا في إخماد واحدة من النيران التي أوقدوها أو ساهموا في إيقادها.
ولكن من الواضح أيضاً أن واشنطن لا تريد أن تخسر شيئاً من مشروعها في السودان، ولذلك تريد حلاً يوقف الحرب ولكن وفقاً لرؤيتها هي لا وفقا لما يحقق مصالح السودانيين، وتريد أن تحقق مكاسب لصالح عملائها حتى لو أدَّى ذلك لاستخدام الأساليب القسرية، وهو ما يؤكده المبعوث الأمريكي بيربيلو في تصريحه الجديد حيث قال “سنواصل العمل في مفاوضات جنيف حتى لو يشارك وفد الجيش السوداني”!!.