الكتابة هو الفعل المحفز للإحساس ، والباعث للمشاعرنا ، والنشاط الأكثر فاعلية لشحذ الأذهان .
إن تركنا موقع الكتابة ، يعني موت همة الإهتمام بالبلد والناس ، وقضاياهم وطمواحتهم ، والبحث عن الأسئلة الكبرى .
بناء على ذلك المعنى ، أعمد وباستمرار باذلا جهدي
في الكتابة ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، رغم مشاق
الوقت وآلامه .
ومن المهم أن أشير إلى أن ما أكتبه في هذا المقال ، يلزمني وحدي ، لأنه من عمق إيماني ، من صنع يداي ، وأنا من حيث أنا مبدأ وفكرة .
أكتب ( هنا والآن ) عن زمني ، لا عن زمن لا يقنعني أي زمن ليس لي به يد ، فزمني أتحمل عبأ مسؤوليته ، فهو وقتي وأنا شاهده ، من باب الفرض الواجب ، لا من باب النفل والمندوب .
نشهد وقتنا ، وقد اعتلى مسرحه هذا الغموض الكثيف بأزماته المتشابكة والتي بدأت مع التغيير الديسمبري 2019 م – وما أفرزه مجمل ذلك الحراك المشؤوم .
فتغيرت رؤى ، وتحولت مواقف ، وتداخلت معاني المفاهيم ، وعلاقات معقدة ، وقسوة تناقضات ، فبات البلد رمزا للضياع والتغرب والمجهول .
ماذا تغير بالضبط ؟! تبدلت أنساق الحياة ، ارتضمت الأفكار ، وتناضحت جهات البلد ، اهتزت كثير من الأشياء ، وتشظت أجمل القيم التي كانت تحكم حياتنا ونظامنا ومشاعرنا ، وذلك تمهيدا للدخول بالسودان إلى عهد ( اللاقيم ) وخلخلة الثوابت وإزاحتها ، بل وذهبت تلك المحاولات إلى أن تمس جسد وروح القوات المسلحة ( جيشنا الوطني ) لطمس هويته وخدش شخصيته وتهوين قدره بين الناس .
تلك الأفكار الفتاكة التي جاءتنا من وراء الحدود محمولة على ظهور القادمين مع رياح التغيير الديسمبري ، متقصدة الإشتباك مع فكرة ( وطنية الجيش ) وعقيدته القتالية الموروثة من روح وأنفاس أسلافنا الأماجد ( لا شرقية ولا غربية ) .
بصفات الصبر والاخلاص والإقدام ، وشجاعة ترد المنون عجولة ، وتحفز وصلابة ، أمينا على هوية البلد ، قوله على الدوام ( إنا جمعنا للجهاد صفوفنا ، سنموت أو نحيا ونحن كرام ) .
جاء حراس أبواب السفارات الأجنبية ، باسم التفكيك والهيكلة ، وتحت غطاء التغيير ، بهدف الفتك بقوام الجيش ، ونزع حيوية روحه .
فعملوا على ( تلغيم ) منابر الإعلام ومنصات الكلام بأهل الشقشقات اللفظية ، وأصحاب الأقلام المهتزة ، وسقط الكثير في الإختبار ، حتى بعض الذين كانوا فينا مصابيحا للتنوير والترشيد والمناصحة ، ذهبوا بأقلامهم مع تيار ( خلط الأوراق ) بين الجيش والشعب ، وأن تخلق الفوضى خواءها ، ورعبها ، وزلزالها في جيش البلد .
بيد أن الضفة الأخرى ، أهتزت أرضها بقامات الرجال الأوفياء من أهل الصدق وأصالة الإنتماء ، بأقدام راسخة ، وأقلام ثابتة ، يعبّرون عن جيش الوطـن ، و التعلّق بمنجزاته ، بذلك يحملون الحياة إلى حالة قوة السودان كله .
وظل ذلك المعنى المفعم بالإنتماء للوطن ، في عمق أدبياتهم ، وخطوات السير إلى العلا ، فالخُطى مهما تناءت أودنت ، فهى في دورتها رجع خطانا .
فنحن جيل من الذين توسعت مداركانا منذ الصغر على أن شرط الحياة الكريمة هو في مقاتلة أي فئة
تريد الأذى للوطن .
بهذا كتبنا – مذ صبانا الباكر – ميثاق الولاء للجيش ، وهو ولاء مطلق ، فالولاء له هو من الولاء للسودان ، صحراء وغابة ، بحر ونهر .
وكم بذلنا الأعمار ونحن نردد كلمات السياب :
( إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده ؟
إن خان معنى أن يكون ،
فكيف يمكن أن يكون ؟ )
لماذا نستميت في الدفاع عن الجيش ؟ ونجيب بلا حرج ، نحن نظرنا ورأينا فاستبان لنا أن البناء المؤسسي الأوحد ، الذي تأسس قوام هيكله على شتى أعراق السودان ، تمازجت وانصهرت في عمق ميدانه ( بيانا عمليا ) بلا شعارات شوفينية ، ولا نظريات فلسفية ملساء ، هو مؤسسة ( الجيش ) القوات المسلحة السودانية .
تلك حقيقة ظاهرة مثل مرتفعات ( جبل مرة ) فالقوات المسلحة هي خصائص أهل السودان بتعدد ثقافاتهم ، واختلاف أمزجتهم التي انصهرت في بوتقة واحدة ( فعلا وتفاعلا ) أدى إلى إفراز حالة عقدية ثقافية سوداناوية لن تجد لها مثالا حتى في أعرق موسساتنا الأهلية ومنظماتنا المدنية ، مهما أدعت من مظاهر الوعي أو تقمصت أدوار التنوير .
في قسمات وجه جيشنا فقط الآن تستبين ، وتتجلى ألوان تنوع وتعدد أصول المجتمعات السودانية ، بإفريقيتها الزنجية ، وعربيتها الإفريقية ، وعربيتها القحة ، وغيرها من الأصول الأخرى ، التي هي تركة أجدادنا ، وقطرات دماءهم التي ورثناها ليكون الناتج هو هذه الحالة المائزة الجمال .
أكتب عن الجيش ، بهذه المحبة والتوقير ، ولست من الذين يتقصدون الكتابة عنه ، بل هو الذي يتقصد قلبي بالمحبة في أي حال ، محبة تجري في عروقي مع الدم ، ويقني أني لا أقيم في أرض الوطن فقط ، ولكن في كيانه ، وكيان الوطن هو جيشه ، وشارته العلامية الكبرى الدالة على حقيقة وجود السودان ، أرضا ، وشعبا ، وحضارة.
الجيش محيط من أسرار ( الشجاعة ) لا يعيه إلا من غاص في أعماقه ، ودرس في كتابه المرقوم على ظهر مطايا عمره الزاخر بالمآثر النبيلة .
وأقول دائما ، فمن كان ولاءه للجيش ، فاليثق كامل الثقة ، أن ولاءه ، لا يقوم على أساس الحساسية ، والعاطفة ، واللاوعي ، والمتخيل فحسب ، بل هو تقدير الله وإرادته لك ، أن يكون في موضع الحق والخير والجمال .
ومن شهد الشهيد العميد ( عبدالمنعم الطاهر ) أو وقف بجواره في تلك الأثناء وهو يقدم للجنود مفتاح الإنتصار ، والعدو على مرمى حجر منهم ، قائلا :
( نحن أمهاتنا لما ولدننا ما كحلننا بي كحل ..
كحلنن بي شطه ، وابواتنا وصونا قالوا لينا ، بطن رجلك دي ما يشوفا راجل ) ..
وذلك القول لعمري هو الإمتثال التام بقول الله تعالى : ” وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ “
– الأنفال الآية 16 –
فتلك هي دوافع الثبات عند رجال الجيش ، هو إلتزام المحض بأمر الله :
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ “
– الأنفال الآية 45 –
يأتي مقالنا هذا اليوم الأربعاء 14 أغسطس 2024م ، إذ يطل ( عيد الجيش ) في ذكراه السبعين ، إحتفالا بيوم إعلان التأسيس الثاني له – عام 1956م – عقب الإستقلال ، مباشرة ، مجددا هيئته على قواعد الوطنية وشروطها الصرفة ، موسوما بوسم آخر منير ، بعلامة السوداناوية ، باسم ( القوات المسلحة ) منعتقا من كل أدوات المحتل الإنجليزي الغاشم الذي أقام تأسيسه الأول عام 1925م تحت اسم ( قوة دفاع السودان ) وفقا على منطق مشروعيته الإحتلالية .
يحتفي الجيش بعيده هذا العام ، كما يحب ذلك في كل عام ، لأن الإحتفاء بهذا اليوم في معناه الجوهري ، هو إحتفاء برصيده التاريخي ، وإرثه البطولي الزاخر بكل معاني التضحية والفداء وإنكار الذات ، الذي يتجسد في كل ” جياشي ” سوداني اصيل تدفقت معاني الشجاعة في عروقه وهو في المهد غضا ، هدهدات الأمهات وأناشيدهن القديمة :
( ما دايرا لك الميته أم رمادا شح
دايراك يوم لقى بدميك تتوشــح
الميت مسلوب والعـجاج يكتــح
أحي على سيفوا البسوى التح )
تلك المآثر الشاهقة والشجاعة والجسارة ، هي مأثرة جيشنا الذي جعل منها المطية للبذل في سوح العطاء الوطني .
وبذلك الإلتزام الصارم بالأصالة السودانية أوجد جيشنا فارقا في المسافة بينه وبين صفوة البلاد أونخبه المثقفة ، الذين لا يرون الخير إلا في مصانعة الأجنبي ، فاتخذوه ( طوطما ) للخير ( فأتلفوا البلاد إتلاف وارث سفيه ) وفقا لتعبير ( الطيب صالح ) ..
فالصفوة السودانية ( عرجاء ) ، خالية من ( الحمية ) – حسب عبدالله علي إبراهيم – وذلك أن الغرب قد أفرغها في مدارسها وجعل منهم طائفة بلا أدنى شغف بأهلهم وثقافتهم ، أطلقوا ألسنتهم فيهم ( يا بدائي ) يا ( أمي ) يا ( متخلف ) .
فقد ظل كعب الجيش هو الأعلى – في كل أوقات الشدة – وكنانته هي الأوفر بأسهم الرمي في حدقات الأعداء دفاعا عن السيادة الوطنية .
الناظر المدقق في تقلبات أحوال البلد ، لن يجد في صفحات كتاب تاريخ الجيش إلا توجها وطنيا وقدرة ، وبصيرة ، وملكة قاهرة ، وأفكار نقية الإنتماء ، وبسالة شاهقة في المعارك .
فإن كان من تعريفات الشجاعة هي جودة العقل أو الروح التي تمكن الأفراد والجماعات من مواجهة الصعاب أو المخاطر أو الآلام ، فالبسالة هي أيضا هي مرادف للشجاعة ونستخدمها دائما في سياق حديثنا عن المعارك .
وقال بعض أهل التجارب :
( الرجال ثلاثة : فارس ، وشجاع ، وبطل ، فالفارس : الذي يشد إذا شدوا ،
والشجاع : الداعي إلى البراز والمجيب داعيه ، والبطل : الحامي لظهور القوم إذا ولَّوا )
وقيل لبعضهم : ( ما الشَّجَاعَة ؟
فقال : صبر ساعة ) .
وتلك هي خصال ( الجياشي ) إستجابة كريمة لذات المعنى القرآني الكريم كما ورد عن السعدي ، إذ قال : يقول تعالى لنبيه صل الله عليه وسلم :
” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ “
أي : حثهم وأنهضهم إليه بكل ما يقوي عزائمهم وينشِّط هممهم ، من الترغيب في الجهاد ، ومقارعة الأعداء ، والترهيب من ضد ذلك ، وذكر فضائل الشَّجَاعَة والصبر ، وما يترتب على ذلك من خير في الدنيا والآخرة ، وذكر مضار الجبن ، وأنه من الأخلاق الرذيلة المنقصة للدين والمروءة ، وأنَّ الشَّجَاعَة بالمؤمنين أولى من غيرهم .
ومقصدي المركزي من بين أسطُرِ هذا المقال هو قولي أنه ما من ( جياشي ) إلا له رائحة كرائحة تراب السودان .
وذلك واقع التربية في حياتنا المتوارثة ، ( أبا ) عن ( جد ) وخصوصيتنا الثقافية بأثرها وصورها الباذخة الجمال في روح أبناء القوات المسلحة ( ضباطا وضباط صف وجنود ) كل واحد منهم يجسد الوصف :
( من قومة الجهل ما خوفوك بي أوخ
تور بقر الجواميس الرقادن لخ
نقرولو أم هبك الضربخانه يدخ
قرنك بفتح الهامه وبمرق المخ )
صورة الأوطان من صورة جيوشها ، والجيوش ترياق حياة الأوطان وأسباب وجودها .