وكالات : كواليس
في السنوات أو العقود الأخيرة، بدأ العالم يشهد أنواعًا عديدة من الهوس المرتبطِ بالذات، وأحدُ هذه التمظهرات نجده في ما أصبح يعرف بـ”التنمية البشرية” (تنمية وتطوير الذات) التي أصبحت صناعة تدرّ على أصحابها الملايين، عبر التطبيقات وورش العمل والدورات التكوينية الحضورية والـ”أون لاين” التي تعدك كلها بأنك ستكون نسخة أفضل من نفسك إذا اتبعت بعض الخطوات، وقد يرى المتأمل أنها منقسمة لشقين، الأول يبيع الوهم الخالص؛ أي لا يقدم لك سوى بعض البهرجة دون أي فائدة مرجوة من أجل “تطوير الذات”.
أما الشق الثاني، فهو الذي يفلح فعلا في تقديم بعض الأدوات للمستفيد، ولكنها لا تساعده في “تنمية الذات” بقدر ما تساعده في تنمية الرأسمالية التي تطالبنا بالمزيد دائما، فإذا كنت موظفا مثلا فإن ثقافة التنمية البشرية تدفعك نحو السعي لتكون موظفا بشكل أفضل؛ ومنه كيف تستفيد منك الرأسمالية بشكل أفضل، كما أن هذا السعي نحو “تطوير الذات” قد يجعل نفسية الإنسان معرضة لأمراض عديدة قد تبدأ بالإحباط من عدم تقدير الذات والتي قد تمتدّ للنرجسية التي تطال النفسية بفعل تضخم الذاتية التي يكتسبها المرء من محيط فلسفة “التنمية البشرية”.
ومن أجل فهم أعمق لهذه الأمور وغيرها تحاور الجزيرة نت، البروفيسور”مارك كوكيلبيرغ” (Mark Coeckelbergh) أستاذ فلسفة الإعلام والتكنولوجيا في قسم الفلسفة بجامعة فيينا ونائب عميد كلية الفلسفة والتربية السابق لجامعة فيينا، والرئيس السابق لجمعية الفلسفة والتكنولوجيا، وصاحب مؤلفات عديدة من بينها كتاب “التنمية البشرية: تقنيات الروح في عصر الذكاء الاصطناعي” (Self-Improvement: Technologies of the Soul in the Age of Artificial Intelligence) الصادر عن مطبعة جامعة كولومبيا العريقة عام 2022 وعلى ضوء هذا الكتاب طرحنا في الجزيرة نت، مجموعة من الأسئلة على البروفيسور”مارك كوكيلبيرغ” فإلى الحوار:
-
هل هناك امتداد فلسفي لـ”التنمية البشرية” التي نراها اليوم تغزو حياتنا اليومية؟ وهل حضورها في الفلسفة قديم أم حديث؟
صحيح هناك امتداد فلسفي لـ”التنمية البشرية” في الفلسفات القديمة، وخاصة الفلسفة الغربية؛ حيث إننا نجِد لها صدى في الفلسفة اليونانية القديمة، ويمتد إلى الفلسفات الحديثة، وقد تناولت النزعة الإنسانية الغربية هذا الأمر، ثم تناولته أيضًا في العصر الحديث، وسبب اهتمام الفلسفة بـ”التنمية البشرية” مردّه أساسا مركزية الفرد داخل المنظومات الفلسفية، لذا إذا استحضرنا ما هو موجود في الفلسفات الغربية وتأثيرها على الفرد فإننا بالتأكيد سنستنتجُ بالضرورة الحاجة لاستهلاك “التنمية البشرية”، لأنها المنتج الطبيعي الذي تقدمه لنا الفلسفات الحديثة، وخاصة تلك التي تدعم الرأسمالية والفردانية والنزعة الإنسانية، فكلها تمهد الطريق لخطاب “التنمية البشرية” الذي سيردد على أسماعك عبارات مثل “طور نفسك” و”استخرج أفضل نسخة من نفسك”.
هناك امتداد فلسفي لـ”التنمية البشرية” في الفلسفات القديمة، وخاصة الفلسفة الغربية؛ حيث إننا نجِد لها صدى في الفلسفة اليونانية القديمة، ويمتد إلى الفلسفات الحديثة، وقد تناولت النزعة الإنسانية الغربية هذا الأمر، ثم تناولته أيضًا في العصر الحديث، وسبب اهتمام الفلسفة بـ”التنمية البشرية” مردّه أساسا مركزية الفرد داخل المنظومات الفلسفية
خطاب الفلسفات التي تعطي قيمة مركزية للفرد بالضرورة ينتج سردية يمكن استهلاكها من قبل من يروج لـ”التنمية البشرية” مثل كيف تكون فردا مهما جدا وأحيانا الأكثر أهمية.
خطاب الفلسفات التي تعطي قيمة مركزية للفرد بالضرورة ينتج سردية يمكن استهلاكها من قبل من يروج لـ”التنمية البشرية” مثل كيف تكون فردا مهما جدا وأحيانا الأكثر أهمية.
-
هل “التنمية البشرية” جيدة أم سيئة؟ ولماذا تربطها بما أسميته بـ”فخ العافية الرأسمالية”، هل لأنها تحوِّلنا إلى سلع بدل التركيز على الجوهر الإنساني والمجتمعي؟
فكرة “تنمية الذات” بحد ذاتها فكرة جيدة، خاصة إذا اقترنت بفكرة أخلاقية عن الحياة الطيبة والمجتمع الصالح.
المشكلة هي أننا في الوقت الحاضر ندمجها مع الفردانية والرأسمالية وبعض الفلسفات التي تقوم بـ”تسليع” الفرد من أجل أن يكون مؤهلا ليعمل داخل آلة الرأسمالية القائمة على الربح فقط، وهذا لا يُخرج أفضل ما فيك بقدر ما يخرج أفضل ما يصلح للرأسمالية بداخلك، وهي ثقافة يتم فيها استغلال الناس، كما أنها تؤجج النزعة الاستهلاكية، حيث تتقوى فكرة أنك لن تكون أفضل إلا إذا قمت بشراء سلع وخدمات وأشياء لا حصر لها؛ ومنه تحوّلك ثقافة “التنمية الذاتية” إلى شيء يستهلك “أشياء”، وهو الأمر الذي يزيلُ النزعة الإنسانية من الإنسان والمجتمع.
المشكلة هي أننا في الوقت الحاضر ندمج “التنمية البشرية” مع الفردانية والرأسمالية وبعض الفلسفات التي تقوم بـ”تسليع” الفرد من أجل أن يكون مؤهلا ليعمل داخل آلة الرأسمالية القائمة على الربح فقط
ولذا فإنك تجد الأشخاص الذين تستهويهم هذه الثقافة يواصلون العمل على تحسين أنفسهم، لكنهم في نفس الوقت لا يتحسنون حقًا، حيث لا تتحسن صحتهم النفسية والبدنية، بل تبتلعهم الرأسمالية عبر ما أسميه بـ”فخ العافية الرأسمالية”.
“فخ العافية الرأسمالية”، يجعل المرء يحاول دوما منافسة غيره ونفسه، حيث تغذي سردية “تنمية الذات” فكرة تحسين النفس بشكل يتفوق فيه الفرد على الآخرين ليتحول ذلك إلى هوس، ثم يتطور عند البعض ليصل حدّ التفكير في أنهم ليسوا جيدين بما فيه الكفاية، وأنهم يشعرون بقدر أقل من الثقة بالنفس، وأنهم غير جديرين بالمكانة التي هم فيها بالمقارنة مع الآخرين، أو حتى بالمقارنة مع الآلات (مؤخّرا)، وهو ما يخلق جيلا كاملا من الأشخاص الذين يشعرون بالإحباط والتعب والاكتئاب الشديد بفعل العمل على الذات، ليتحول “تطوير الذات” إلى كابوس للأفراد بدل أن يكون حلما يجب تحقيقه.
يمكن اختزال النرجسية في كونها الفكرة التي تجعلك ترى نفسك أهم شيء في العالم، وأنك مركز للكون وكل شيء يتمحورُ حولك، لذا هي نوع من أنواع التمركز حول الذات وهي في الأساس تجسيدٌ لغياب الوعي بأن ما أنت عليه في الواقع يرتبط دائما بأشخاص آخرين، ويرتبط بالطبيعة أيضًا
-
هل “التنمية البشرية” تسقطنا في “النرجسية” عبر بوابة التمركز حول الذات؟ وما خطورة ذلك؟
كلامك صحيح، يمكن اختزال النرجسية في كونها الفكرة التي تجعلك ترى نفسك أهم شيء في العالم، وأنك مركز للكون وكل شيء يتمحورُ حولك، لذا هي نوع من أنواع التمركز حول الذات وهي في الأساس تجسيدٌ لغياب الوعي بأن ما أنت عليه في الواقع يرتبط دائما بأشخاص آخرين، ويرتبط بالطبيعة أيضًا. نحن نعتمد بشكل كبير على العالم والآخرين من حولنا وتربطنا بهم علاقة وثيقة، لذا فالنفس السوية تدرك أنها تعتمد على المجتمع الذي تعيش فيه.
وعودة لثقافة “تنمية الذات” فنحن أمام ثقافة قريبة من النرجسية، حيث يخطو المرء خطوات متسارعة من خلال ثقافة “التنمية البشرية” نحو النرجسية، فبفعل هذه الثقافة نركز كثيرًا على أنفسنا وننسى الجانب العلائقي الذي يربط الذات بالآخر والغير والمجتمع والفضاء، حيث يمسي المرء مستعدا ليدخل نفسه في مشاكل تؤذي صحته النفسية والبدنية لكي يكون أفضل من الجميع عبر “تنمية الذات”.
نحن أمام ثقافة قريبة من النرجسية، حيث يخطو المرء خطوات متسارعة من خلال ثقافة “التنمية البشرية” نحو النرجسية، فبفعل هذه الثقافة نركز كثيرًا على أنفسنا وننسى الجانب العلائقي الذي يربط الذات بالآخر والغير والمجتمع والفضاء، حيث يمسي المرء مستعدا ليدخل نفسه في مشاكل تؤذي صحته النفسية والبدنية لكي يكون أفضل من الجميع عبر “تنمية الذات”.
“التنمية البشرية” لا يمكن أن تسير في تجاه صحيح إلا إذا أدركنا أنه لا يمكننا التحسن إلا إذا قمنا بتحسين أنفسنا انطلاقا من مقاربة أخلاقية تحترم الغير والآخر والمجتمع والفضاء؛ هذه أخلاقيات أساسية للغاية وهي ليست مجرد أخلاقيات معيارية بمعنى أنها تشبه المعايير التي تُفرض علينا خارجيًّا، إنها أخلاقيات نابعة من الخبرة، ومن حكمة أجيال عديدة في تاريخ البشرية، إننا نعلم أنه يتعين علينا أن نهتم ببعضنا البعض وهذا أمر جيد بالنسبة لنا، إنه جيد للآخرين، إنه جيد للمجتمع. لذا أعتقد أنه إذا ذهبنا في هذا الاتجاه الأكثر ارتباطًا، يمكننا الخروج من فخ تحسين الذات هذا، من هذه النسخة النرجسية من تحسين الذات.
-
هل التخلص من فخ “التنمية البشرية” يتطلب شجاعة لإحداث قطيعة مع بشاعة الرأسمالية؟
سؤال جيد، لذا بجانب هذه الحركة العلائقية التي شرحت للتو فإن الحل الذي اقترحته في الكتاب يعمل على تغيير أنفسنا، عبر تغيير المجتمع. علينا أن نجعل المجتمع أفضل لأن هذه البيئة الرأسمالية القائمة على الاستغلال ليست في آدمية الإنسان، ولذلك إذا ركزنا فقط على تحسين الذات وتغافلنا عن البيئة التي تحيط بنا فإننا بذلك نسقط في فخ الرأسمالية وعجلتها التي ستحولنا إلى مستهلك لسلعها، أو سلعة قابلة للبيع.
علينا أن ننظر إلى النظام الاقتصادي الاجتماعي الأوسع؛ أعتقد أن الرأسمالية وخاصة في نسخها الأكثر تطرفا، كانت وراء جعل حيواتنا أصعب، وصنعت “حلما” لكل شخص تبيعه لنا، لتشعر الجميع بالحاجة لضرورة تطوير الذات المستمر، وبأن تحقيق الهدف النهائي لا يتمّ سوى عبر نفق “التنمية البشرية”
ولهذا السبب علينا أن ننظر إلى النظام الاقتصادي الاجتماعي الأوسع؛ أعتقد أن الرأسمالية وخاصة في نسخها الأكثر تطرفا، كانت وراء جعل حيواتنا أصعب، وصنعت “حلما” لكل شخص تبيعه لنا، لتشعر الجميع بالحاجة لضرورة تطوير الذات المستمر، وبأن تحقيق الهدف النهائي لا يتمّ سوى عبر نفق “التنمية البشرية”، وهو ما يجعل المرء يرفض نفسه ومقدراته الفطرية التي ولد بها، حيث يسعى المرء إلى تحسين “جماله” و”رشاقته” و”مهاراته” حتى يكون لائقا لسوق الرأسمالية التي لا تقبل الجميع بداخلها، وهي ثقافة سامّة للغاية. لذا فإن ما يتعين علينا القيام به هو إما أن يكون لدينا نظام مختلف تمامًا ومجتمع غير رأسمالي أو مجتمع رأسمالي ولكن يتحول بطريقة تساعد الناس على الازدهار وتساعدهم على التطور والتحسن بطريقة متصالحة مع ذوات الناس وتتقبل نواقصهم.
نحن أمام خيارين، إما أن نقوم بتغيير ذواتنا من الداخل، لكن إذا فشل هذا المسعى فإننا سنكون أمام خيار آخر متمثل في ضرورة إحداث تغيير خارجي جذري
وهنا نحن أمام خيارين، إما أن نقوم بتغيير ذواتنا من الداخل، لكن إذا فشل هذا المسعى فإننا سنكون أمام خيار آخر متمثل في ضرورة إحداث تغيير خارجي جذري. لكنني أنوه أن مسار التغيير عليه أن يبدأ من الداخل لتجنب صدامات أخرى، علينا أن نغير النظرة تجاه الثقافة المتمركزة على الاستهلاك والمال، والتي من خلالها تم ربط كل خيوط “تنمية الذات” لجعلها مؤهلة للتحصيل المالي والاستهلاكي الأعلى، لأن هذا المسار ليس “تنمية للذات” بقدر ما يجسد “تنمية للقدرات الإنتاجية”، وهو الأمر الذي يجعل منا آلات أكثر من أن نكون بشرًا.
-
هل يجبُ أن نتحلى بالشجاعة لبناء نموذج جديد للعالم؟ وهل هذا ممكن؟ وما علاقة الحكمة بذلك؟
إذا نظرنا في كتابات ماركس الأولى، على سبيل المثال، فإننا نجدهُ يتحدث عن التحرر والتنمية البشرية، وأعتقد أن مقصده من كتاباته، مرده سعيه نحو بناء علاقة معينة بين المرء وعالمه الخارجي القائم على آليات الإنتاج، فتركيزنا على الاقتصاد، يحجب عنا التفكير في العلاقة مع نظم أوسع سياسيا واقتصاديا تحتاج منا للتغيير من أجل أن يتحسن وينمو ذلك الإنسان حقا.
علينا أن نذكر أنَّ الاقتصاد في حد ذاته ليس مهما، المهم أن يتمكن البشر من التطور ويمكنهم أن يتطوروا معًا بحيث تتحسن جودة مجتمعنا وحيواتنا بصيغة الجمع؛ ولذلك، إذا كان من الضروري تحويل أنظمتنا الاقتصادية والسياسية لهذا الغرض، فيجب علينا أن نفعل ذلك.
على الحكمة أن تقودنا لأن نتحلى بالشجاعة المطلوبة من أجل تجريب ما إذا كان قدرُ الإنسان سيكون أفضل إذا غيّر نظامه الرأسمالي وجرب نُظما أخرى قد تعطي للإنسان قيمته الحقيقية، وتقدره وتقدر جوهره دون أن تطلب منه أن يغير نفسه لكي يكون مؤهلا ليتناسب مع العالم الرأسمالي؛ لذا علينا أن نجرب ونرى ما هي الخيارات الأفضل حسب اختلاف السياق المكاني والزماني للإنسان، وهو جوهر ما أدعوا له في كتابي
أعتقد أن هذه مسألة تقودنا للحكمة كذلك. على الحكمة أن تقودنا لأن نتحلى بالشجاعة المطلوبة من أجل تجريب ما إذا كان قدرُ الإنسان سيكون أفضل إذا غيّر نظامه الرأسمالي وجرب نُظما أخرى قد تعطي للإنسان قيمته الحقيقية، وتقدره وتقدر جوهره دون أن تطلب منه أن يغير نفسه لكي يكون مؤهلا ليتناسب مع العالم الرأسمالي؛ لذا علينا أن نجرب ونرى ما هي الخيارات الأفضل حسب اختلاف السياق المكاني والزماني للإنسان، وهو جوهر ما أدعوا له في كتابي.
السعي اللامتناهي في “تنمية الذات” ليس سوى عرض لمرض العصر، المتمثل في الثقافة الرأسمالية.
دعونا نغير النظام بأكمله لأنه إذا كان كل ما حولنا علائقيًّا حقا، فإنّ ما أنا عليه وما يمكن أن أصبح عليه مرتبط بهذا النظام العلائقي وهذه البيئة الأكبر؛ لذا من المهم جدا أيضًا الانشغال بالسياسة ومحاولة فعل الخير للمجتمع ككل للعثور على ما يمكن أن يكون مفيدا للصالح العام، وأن يكون تفكيرنا مرتبطا بالآخر والفضاءات الأوسع لأن منظومة أخلاقنا عليها أن تكون كونية من أجل بناء سياسة عالمية جديدة تؤنسن الإنسان أكثر وتركز على المجتمع بدل التمركز على الذات. والسعي اللامتناهي في “تنمية الذات” ليس سوى عرض لمرض العصر، المتمثل في الثقافة الرأسمالية.
التقنية بصفة عامة والذكاء الاصطناعي جزء من المشكلة، ولكن يمكنها أن تصبح أيضا جزءًا من الحل؛ نحن بحاجة إلى تكنولوجيا مختلفة، تساعدنا على تحقيق نوع مختلف من المعرفة الذاتية وتحسين الذات
-
نعيش اليوم في زمن الذكاء الاصطناعي، وهو ما يشكل تهديدات عديدة للبشرية، إلا أننا نجدك ترى أن الذكاء الاصطناعي والتقنية ليست فقط جزءًا من المشكل ولكنها كذلك جزء من الحل، كيف ذلك؟ وما علاقة الذكاء الاصطناعي بـ”التنمية البشرية”؟
التقنية بصفة عامة والذكاء الاصطناعي جزء من المشكلة، ولكن يمكنها أن تصبح أيضا جزءًا من الحل؛ نحن بحاجة إلى تكنولوجيا مختلفة، تساعدنا على تحقيق نوع مختلف من المعرفة الذاتية وتحسين الذات؛ نوع لا يتعلق بالكمية بل بالكيفية، نوع يعرف حدوده، ويوفر نوعًا أكثر استدامة وأعمق للذات من أجل إحداث تنمية عميقة مثل تلك التي روجت لها تقاليد الحكمة القديمة والإنسانية، وحيوية مثل تلك التي تطورت في الثقافات غير الغربية، نحن بحاجة إلى تقنيات تساعدنا على فهم أنفسنا بطريقة علائقية ورؤية الآخرين كشركاء في العمليات الذاتية والمجتمعية، وجماعية تجعلُ الذات أكثر حكمة بدل جعلها ذاتًا أكثر استهلاكية.
نحن بحاجة إلى تكنولوجيات تغير المجتمعات وتخلق ثقافات جديدة أفضل، قد تبدو هذه الطريقة غريبة لأننا اعتدنا على التفكير في التكنولوجيا بطرق لا علاقة لها بالتنمية البشرية والمجتمع والثقافة، وهذه مقاربة خطأ تحتاجُ إلى تغيير، لأننا أمام تكنولوجيا تتشابك مع الثقافة الإنسانية بطرق مختلفة ومعقدة. فالتكنولوجيا ترتبط بذواتنا أكثر مما نتخيله، وعليه فيجبُ علينا تحويلها إلى سلاح يعززُ ذاتية الإنسان المتصالحة مع المجتمع وبعده العلائقي، بدل أن نجعلها وسيلة لفصلنا عن المجتمع وتحوُّلنا إلى أشياء يكمنُ سلعنتها.