وكالات : كواليس
سمرقند وطشقند، أوزباكستان – في بوتقة وملتقى ثقافات العالم القديم، تتربع سمرقند التاريخية في واحة كبيرة بوادي نهر زرافشان (ناثر الذهب) المتفرع من نهر جيجون، وتفخر بكونها عاصمة الإمبراطورية التيمورية التي امتدت عبر قارات العالم القديم، كما يقول سكانها باعتزاز.
تتوسط المدينة العريقة شبكة الطرق القديمة التي سميت بطريق الحرير، حيث ترك رحالة وأدباء وعلماء وأمراء ومحاربون بصماتهم في المدينة التي وهبت العالم أسرار صناعة الورق الصينية وعرفت ازدهار منتجات الحرير، والفضل في صناعة الورق والحرير يعود للِحاء وأوراق أشجار التوت التي تصبغ طرقات سمرقند.
لكن الطريق إلى نسيج الحرير، شاق وغير ناعم، ويحتاج لكد وتعاون الأقارب والجيران وفق تقليد محلي قديم بطلته يرقة دودة القز، التي تلف نفسها في خيوط الحرير وتتحول إلى شرنقة يتضاعف وزنها 17 مرة بفضل تناولها أوراق التوت الخضراء، كما يُفصِّل الفيديو الشارح أعلاه.
التوت والقزّ
تقول مزارعة أوزبكستانية إن دودة القز المتكورة تنام 4 مرات وتتغدى 7 مرات يوميا وتموت إن تأخرت وجباتها ساعة واحدة، وهي حساسة جدا للضوء والضوضاء وحتى النسيم العليل، ولكن بعد إنتاج خيوط الحرير تصير بلا فائدة فيتخلّص منها الفلاحون قبل أن تتحول إلى فراشة بغطس الشرنقة كلها في الماء الساخن أو حتى بإدخالها الفرن.
وتحت ظلال شجرة اللوز الوارفة، تبدأ زبيدة برديفا العملية التي تكررها كل صيف بجمع شرانق ديدان القز لتحويلها إلى نسيج حريري غالي الثمن بالطريقة التقليدية التي تسعى أوزبكستان -ثالث أكبر منتج للحرير في العالم- لتطويرها.
بأصابعها الخبيرة التي صقلتها 40 عامًا من العمل، أزالت برديفا الشرانق البيضاء لدودة القز من أغصان التوت المجففة الكثيفة، في تقليد قديم لإنتاج الحرير وهو القطاع الذي يخضع لسيطرة الدولة وغير مربح كثيرا للمزارعين والعمال.
كل شرنقة تحتوي على خيط حرير يبلغ طوله حوالي كيلومتر أو اثنين، تفرزه يرقانة “دودة القز المنزلية”.
“كل شيء يتم يدويًّا. الجزء الأكثر تعقيدًا هو رعاية ديدان القز ثم حصاد شرانقها دون التأثير على جودتها” تقول برديفا من مدينة نرافشون، جنوب العاصمة طشقند.
خلال موسم التربية، من أبريل/نيسان إلى يونيو/حزيران، “يشارك الجميع”، تقول المرأة الستينية.
“الرجال يقطعون أغصان التوت لإطعام ديدان القز والنساء يتولين رعاية اليرقات”.
في حظيرة مجاورة، كانت الديدان الصفراء تقضم أوراق التوت بشراهة، ويتطلب التحويل إلى النسيج الحريري المتين والناعم عدة خطوات أخرى تشمل خنق ديدان القز في شرانقها عند درجات حرارة عالية.
ثم يتم تجفيفها وغمرها في ماء مغلي، فتلين خيوطها، ويجري فَكّ الخيط ثم نسجه.
“وبعد الحصاد، سنسلم الشرانق للدولة” قالت برديفا، محاطة بالنساء الأخريات اللائي كن “يساعدن طوعًا”.
بعد تجميع الخيوط تمر بمراحل أخرى منها الغسل والتلوين الذي تستخدم فيه مواد طبيعية كالرمان، وقشور البصل، وقشور الجوز، والأكاسيا. ومن أرقى استخدامات خيوط الحرير حرفة السجاد الحريري التي تتوارثها الأجيال.
شرانق الفضة
ورغم أن إنتاج الحرير، وتربية ديدان القز، تقليد قديم في هذه البلاد العريقة الواقعة على “طريق الحرير”، فإنه يسير ببطء نحو التحرير الاقتصادي تحت قيادة الرئيس الأوزبكستاني شوكت ميرضيائيف، لكنه لا يزال تحت السيطرة الحكومية وغير مربح كثيرا لمنتجيه.
وذلك نتيجة لعقود من الاقتصاد الشيوعي والتخطيط المركزي السوفياتي حتى عام 1991، ثم ربع قرن من العزلة تحت قيادة الزعيم السابق إسلام كريموف.
“تُدار صناعة الحرير بطرق مأخوذة من العهد السوفياتي، مع مزارعين مجبَرين على رعاية الشرانق، خاصة الذين لديهم بالفعل مزارع توت”، يوضح الخبير الاقتصادي الأوزبكستاني يوليا يوسوبوف حيث يستلم مزارع مثل جانوبيل تاشيبيكوف (3 صناديق من بيض ديدان القز) من الحكومة الأوزبكستانية.
“إذا كنت محظوظًا، سأجمع 150 كيلوغرامًا من الشرانق، مما سيجلب لي 6 ملايين سوم”، يقول المزارع تاشيبيكوف، أي حوالي 450 يورو، وهو ضعف راتبه الشهري.
مع إنتاج 26 ألف طن من الحرير في عام 2023، تهدف أوزبكستان إلى تعزيز مكانتها كثالث أكبر منتج في العالم، وتمثل الصين والهند حوالي 95% من الإنتاج العالمي، وفقًا للّجنة الدولية لتربية ديدان القز.
وأمر الرئيس ميرضيائيف بزيادة سعر شراء الشرانق، وإنشاء مزارع توت جديدة، وإعفاءات ضريبية للمربين وإعادة هيكلة المزارع لجعل الإنتاج أكثر ربحية.
الهدف هو تعزيز صادرات المواد الخام والقماش، بشكل خاص إلى السوق الأوروبية ومصممي صناعات الحرير الفاخرة.
مريم نيازوفا، مؤسسة “توموش تولا” (الألياف الفضية باللغة الأوزبكية)، تدير إحدى الشركات الأوزبكستانية القليلة التي تقدم الدورة الكاملة للحرير، بدءًا من تربية الديدان وصولًا إلى تصنيع الملابس والمفروشات.
“في عام 2020، اشتريت معدات من الصين وكوريا الجنوبية وتمكنت من إنتاج الأقمشة. كان ذلك صعبًا بسبب نقص المتخصصين”، قالت، مستذكرة “سنوات الركود” تحت حكم كريموف.
لكن الآن نيازوفا أكثر تفاؤلًا.
“نحن نصدر بالفعل إلى إيران والصين وأذربيجان، ونأمل قريبًا أن نصدر إلى أوروبا”، قالت.
وتأمل أوزباكستان أن يؤدي استعادتها مكانتها في صناعة الحرير لتعزيز حضورها في مجال التبادل الثقافي، وهو الدور الذي لعبته إبان توسط مدنها القديمة -مثل سمرقند وطشقند وبخارى وخوارزم- مفترق الحضارات النابض بالحياة بين الشرق والغرب، فميراث طريق الحرير ليس المنسوجات الناعمة فحسب، وإنما مزيج من الفنون والآداب واللغات والعلوم والعمارة التي عبرت هذه الطرق البرية مع السلع والقوافل التجارية في بلاد لا تطل على البحار والمحيطات.