وكالات : كواليس
تشكلت سمعة الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1833- 1924) بعد رحيله قبل 100 عام بالظبط، لكن انفجارها حول العالم جاء بالتزامن مع الحرب الباردة. وكانت هناك حشود من المجازات والتأويلات المتناقضة، ساهمت في إضفاء هالة حوله، ملتصقة بظواهر سياسية مأساوية تمارسها الأنظمة الشمولية. تُرى كيف أصبحت ظاهرة كافكا راسخة في الأدب العالمي؟
لا شك أن صاحب “المحاكمة” ابتكر عوالم سردية جديدة، لا تشترط فيها الوقائع أي نوع من الإيضاح، أو التبرير. لكن عوامل عديدة كان لها دور في تصدره المشهد الأدبي العالمي، على صلة بتحولات سياسية، بالإضافة إلى ممارسات ثقافية.
بدأت ظاهرة الجنون بكافكا في الولايات المتحدة، ومنها انتقلت إلى العالم منذ خمسينيات القرن الفائت. أي بعد أن أصبح الكاتب التشيكي، الذي يكتب بالألمانية، يحظى بإجماع في الأوساط الثقافية والنقدية الأميركية. وفي مرحلةِ ما كانت الحرب الباردة تشهد تصاعدا بين الأميركيين والسوفييت، وتفرض قواعدها على رقعة العالم. بينما كافكا المولود في براغ، عاصمة جمهورية تشيكوسلوفاكيا أثناء الحرب الباردة، شكل نقطة محورية على حدود عالمين متصارعين؛ الغرب والشرق.
وفي فترة الحرب الباردة، بحسب الكاتب الأميركي براين ك. غودمان، كان بإمكان كتابات كافكا “تزويد الكتاب الأميركيين بمفردات أدبية لتخيل الحياة خلف الستار الحديدي”.
غير أن ولادة الظاهرة الكافكاوية، تمتد جذورها إلى فترة ما بين الحربين العالميتين. وهي الفترة التي بدأت كتاباته فيها بالظهور، وأصبحت محط تفسيرات لا تتوقف. لكن اليسار المنقسم في أوروبا أنتج صورة أولية لن تبارح كتاباته، بوصفه كاتبا منشقًّا عن كل الأنظمة والأنساق. صورة ستختمر في الولايات المتحدة وتعيد تشكيله على رأس هرم الأدب العالمي.
مشهد خلفي
امتازت كتابات كافكا بشكل من التعبير الذاتي، منشغلة بمصائر مسلوبة الإرادة، ومدفوعة بقوة غاصبة، غير مرئية. يمكن لها أن تتخذ رمزيات متعددة، على غرار ما يمثله الجهاز البيروقراطي. أو ذلك الامتثال لروتين، كما هو حال الضابط المتوحد بآلة العقاب، لتصبح جزءًا ملتصقًا به، تستدعيها رواية “في مستوطنة العقاب”.
تمكن قراءة خلفية واسعة لتشكل ظاهرة كافكا، تقف عليها علامات متصلة بمتغيرات اجتماعية وسياسية أوروبية. ويمكن الغوص بعيدا بالعودة إلى أواخر القرن الـ19، وما شهدته من توجهات القوى الأوروبية الكبرى للاستيلاء على البلدان العربية.
بالطبع لم يكن لها تأثير مباشر في تشكيل سمعة كافكا، لكنها مهدت مشهدا واسعا على صعيد التحول في قواعد الهيمنة للقوى الكُبرى، وما أفرزته من تفاعلات مع ظواهرها العامة التي ألقت بشظاياها على الأدب.
التحول من “شارلوك” إلى “دونالد بلوم” عبر الطريق إلى فلسطين
مثلت فلسطين نقطة محورية في تطلعات القوى الاستعمارية الأوروبية منذ فترة مُبكرة من القرن الـ19. بدأها الفرنسي نابليون بونابرت، وفرضت مصيرها حتى اليوم بريطانيا.
شكلت تلك منطلقا لتأثيرات واسعة على المخيال الأدبي في أوروبا. ولا يعني أن الممارسات الأدبية أذعنت للتوجهات السياسية، إنما على العكس ظلت مُستقلة كُلِّيا، لكنها تفاعلت بشكل غير مُباشر مع الظواهر السياسية.
وهو السياق الذي تبدلت معه شخصية اليهودي تدريجيَّا في الأدب والمخيال الأوروبي من القسوة إلى اللين، ومن الازدراء إلى التقدير. أي مسار التحول في الصورة النمطية التي جسدتها شخصية “شارلوك” في مسرحية شكسبير “تاجر البندقية”، ووصمها بصفات وضيعة، مثل الجُبن والجشع، والتعميم المُجحف بعناصر شريرة مثل اللؤم والحقد. وصولًا إلى أن أصبحت شخصية تدور حولها عناصر البطولة مثل النُبل والطيبة والتفاني والشجاعة على غرار شخصية “دونالد بلوم” في رواية جيمس جويس “أوليس”.
بدأ هذا التبدل على نطاق محدود في الأدب الإنجليزي، منذ مطلع القرن الـ19. وكانت رواية السير والتر سكوت “إيفينيو” أبرز مثالٍ على ذلك. عدا أن هذا التحول اقتصر على التعاطف، دون ان يستأصل عناصرها الراسخة في المخيال الأوروبي.
جسدت رواية “دانيال ديروندا” للكاتبة الإنجليزية جورج أليوت، أول اختراق للأدب النخبوي الأوروبي في تجسيم شخصية اليهودي ضمن عناصر بطولية تتصف بالنبل. صدرت الرواية عام 1876، وكانت آخر أعمال أليوت، لكنها فشلت على الصعيد النقدي، حيث اُعتبرت مُغرقة بالتقريرية والمباشرة.
تزامنت تلك التحولات، وكما أسلفنا الذكر دون توجيه مقصود، مع متغيرات سياسية. ففي مطلع القرن قدمت عائلة روتشيلد اليهودية دعمًا للقوات البريطانية في حربها ضد نابليون. ومع هزيمة الأخير، تبنت بريطانيا فكرته بتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي عام 1975، اقترضت الحكومة البريطانية من آل روتشيلد 4 ملايين جنيه إسترليني لشراء الحصة الرئيسية من قناة السويس. ولعب رئيس الحكومة البريطانية بنيامين درزائيلي (1874- 1880)، ذو الجذور اليهودية، دورًا مهما في ذلك.
يبلغ هذا التحول في المخيال الأوروبي ذروته، في رواية “أوليس” للأيرلندي جيمس جويس. وخلافا لرواية أليوت، حازت رواية “أوليس” تقدير واحتفال النخب الثقافية الغربية على نطاق واسع.
ازدواج بصري: أن تكون مرئيًا عبر إخفاء الآخر
نُشرت أولى حلقات الرواية في مجلة “ذا ليتل ريفيو” الأميركية في مارس 1918. أي بعد عدة شهور على إطلاق وعد بلفور، أواخر عام 1917، لمنح اليهود وطنا قوميًّا في فلسطين.
بحسب الأديب الفلسطيني حسن حميد، تمثلت في شخصية “بلوم” بطل جويس اليهودي، صفات أوليس الإغريقي، من البطولة والصلابة والنجاح، أي بوصفه “أوليس العصر الحديث”. لافتًا إلى أنها سبب في ما حازته من رواج لدى النُّخب الأدبية الغربية.
لكن من غير الممكن التوافق مع هذا الرأي، فهناك عوامل أخرى على صلة بأسلوب جويس، وتقنياته السردية الثورية، وبصورة جعلت منها أحد أكثر الأعمال تعقيدًا وصعوبة.
فرحلة بلوم، الممتدة خلال يوم، شكل من التيه الذي يستعيد فيه تيه أسلافه. وإن ظلت حبيسة “دبلن” العاصمة الأيرلندية، بحيث لا تبلغ أرض الميعاد. لكن جويس يستحضرها على لسان بطله بوصفها؛ “أرض يباب ميتة، أنجبت فقط الأوائل، الذين يولدون في كل مكان هائمين من أسر إلى أسر”.
هكذا، يتماهى خطاب جويس، مع جوهر المزاعم الصهيونية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، والمطالبة بحق اليهود في أرض فلسطين. وهذا الخطاب مازال سائدًا في تعامل السياسة الغربية مع الفلسطينيين، بوصفهم غير مرئيين.
لا شك أن صاحب “أوليس” لم يُذعن لموجهات سياسية، لكنه دون قصد، تفاعل مع ظواهرها السائدة آنذاك. والأرجح أنه حاول التجاوب مع تداعيات المونولوج الداخلي لبطله المسكون بأرض الميعاد، فسقط دون وعي في شرك الخطاب السياسي.
ثالوث أدبي.. أحدهم كافكا العابر للمحيط
كانت رواية “أوليس” على غرار رواية مارسيل بروست “البحث عن الزمن المفقود” تفصح عن تحولات اجتماعية واسعة ستشهدها أوروبا. هكذا يضفي أيضًا بروست على شخصية “سوان” اليهودي صورة نبيلة، لم يخفِ تعاطفه معها. لكنه لم يتقاطع ضمن المشهد السياسي.
على صعيد واسع، رسخت لاحقا الكتابات النقدية، رمزيات أدبية للسرد الروائي في القرن الـ20. وهكذا أصبح بروست وجويس وكافكا، الثالوث الأدبي الأبرز. مع أن هناك عوامل وظروفا مختلفة، ساهمت في إنتاج كل كاتب منهم على حدة.
فبينما كانت سمعة بروست وجويس راسخة في أوروبا، كانت سمعة كافكا تنمو في الأربعينيات، داخل الولايات المتحدة. وفي وقت كانت هذه قادرة على إرسال حاملات طائراتها وأساطيلها عبر البحار، كقوة عظمى، حملت كافكا إلى أوروبا والعالم، بوصفه اكتشافها المُبهر.
لكن هذا المسار الألمعي، اتخذ عدة تحولات مُثيرة. بدأت مع تفسيرات صديقه ماكس برود، والوصي على تراثه الأدبي. لم يكتفِ بتصوير كتاباته ضمن سياق علاقة دينية خالصة، تشكل فعل الخلاص، إنما حاول أن يجعل كافكا بوقًا للحركة الصهيونية.
خلافًا لذلك، كان كافكا واضحا في إحدى رسائله لحبيبته فيليس، مفصحا عن نفوره من الشخصيات المُرتبطة بالصهيونية، وبأفكار الحركة. ويمكن الجزم أن كتاباته لم تلتصق مع توجهات الحركة. إنما هي أقرب إلى أن تكون أكثر التصاقا بمعضلة الوجود الإنساني، وما يعانيه من اغتراب واستلاب عبثي توجهه مُحركات عُليا.
كما أن كتاباته السردية لم تتطرق لموضوع فلسطين، باستثناء قصة هامشية بعنوان “بنات آوى والعرب”. وهي قصة رمزية عن حلم “العودة المقدسة” لأرض الميعاد، بمساعدة الرجل الأبيض. وهو عمل عادي، لا يمكن أن يُستشف منه موقف واضح لكافكا حول حُلم العودة، بسبب غموضها. لكنه لم يخفِ تشاؤمه إزاء تحقق ذلك، دون أن يعني ذلك رفضه التام للفكرة. فهل كان قصده من “بنات آوى” وصف أعضاء الحركة الصهيونية؟
ماكس برود أو بولس الرسول
يدين العالم في التعرف على أدب كافكا إلى صديقه برود. لكن هذا الأخير، مارس شكلا من السلطة على أعماله، دون الاكتفاء بحق الوصاية، إنما بإعادة تفسير كافكا وتحديد ملامحه. مُسبِغًا عليه صفة “القديس الغامض”، وما تضفيه من هالة “غنوصية”.
أكد برود أنه كرس سنوات طويلة من أجل أعمال كافكا. لكن إخلاصه وإن كان مثيرًا للإعجاب، لم يكن منزَّها عن دوافع ذاتية.
فصفة القداسة التي أحاط بها صديقه، لم تكن مجردة كُلِّيا، إذ استعار منها لنفسه. ويبدو أن برود، ارتدى ثوب الرسول “بولس”، الذي نشر الدين المسيحي حول العالم، بينما برود كرس نفسه لتعريف العالم بكتابات صديقه، عبر نشرها. لكن تفسيراته فقدت أهميتها مُبكرًا.
بالطبع، لم يكن برود واعيًا لهذا الدور، لكنه انساق لممارسات متجذرة ضمن موروثه الثقافي. وهي ممارسات تتقاطع مع جذور أوروبا المسيحية، بما تستحضره من مسحة تطهرية، تشكلت خلفيتها ضمن علامات واسعة من القمع والتنكيل، في مشهد بلغت ذروته لاحقا على خلفية جرائم الإبادة النازية “الهولوكوست”؛ المشهد المُثير للتعاطف، على غرار ما تنسجه مصائر شخصيات كافكا.
في عام 1939، استولى الجيش النازي على براغ. وسارع ماكس برود إلى الفرار مع زوجته نحو فلسطين، مصطحبًا معه مخطوطات كافكا. وبالتالي أنقذها من محارق النازيين. كما سبق له أن أنقذها من وصية صديقه بإحراقها. وربما كانت الوصية قصة اخترعها برود، يضفي من خلالها أهمية لما قام به من خيانة، على صلة بالأثر العميق لتلك الأعمال.
كافكا المثقَل بالنزاع التأويلي
نشر برود أعمال صديقه ما بين عامي 1925 و1935. في فترة حاسمة لصعود النازية في الغرب والستالينية في الشرق.
في هذا السياق، وجد الناقد الأميركي أدموند ويلسون، علاقة مع ما اكتسبته “خيالات كافكا الغريبة” من مصداقية في أوروبا. حيث كان الرجال يجدون أنفسهم “معتقلين ومدانين بتهم لا صلة بينها وأي قواعد أخلاقية أو قانونية”. أي بالصورة التي يمكن إيجادها في رواية “المحاكمة” ومصير جوزيف ك. وبالتالي أصبحت المحاكمات الصورية في المعتقلات السوفياتية، توصف بـ”عوالم كافكاوية”.
وما أن أصبحت سمعته راسخة، حتى سعت التيارات الفكرية والسياسية لإثبات مصداقيتها من بوابة كافكا. وكانت وجوه كافكا تتوالد بصور متعددة وفقًا لأغراض المفسرين وتصوراتهم.
كافكا أو “كافكاوي” الكلمة الدائمة
بدأت سمعة كافكا بالرسوخ في الولايات المتحدة، فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. ووصفها ويلسون بأنها بدأت تنمو في أميركا “مثل ظاهرة الأرصاد الجوية” منذ الحرب. لكن آراءه تعارضت مع تلك الظاهرة التي شغلت الأوساط النقدية الأميركية.
وفي كتابه الصادر عام 1947 “الرأي المخالف” قال ويلسون إنه “من المستحيل أن يأخذ كافكا على محمل الجد بوصفه كاتبا كبيرا،” مضيفا أنه “لم يتوقف أبدا عن الاندهاش من عدد الأشخاص الذين يستطيعون ذلك”.
ما كان يُثير قلق ويلسون، بحسب الكاتب الأميركي براين ك. غودمان، هو “طائفة كافكا”. ورأى أن مجموعة تفسيرات غير متماسكة، كان من شأنها “أن تُذهل وتُشبع القراء الأميركيين الشباب”. أي أنه نظر إلى تلك التفسيرات بوصفها شكلا من الترقيع لظاهرة أدبية كانت تتخلق.
مع ذلك، كان ويلسون اليساري المنشق، الذي لم ينخرط في أي أشكالٍ منظمة، يحتفظ بمفاهيم يسارية حول كافكا، مُعتبرًا كتاباته “أشبه بهجاء ماركسي- فلوبيرتي لطفيليات البورجوازية”. أي كونَها مزيجا من الثورية اليسارية، وابتكارات فلوبير الشكلية.
ورغم تراجع آرائه، خلال الحرب الباردة، خصوصًا في ما يتعلق بكافكا. فإن غودمان يرى أنه تنبأ وبشكل صحيح، أن روايات كافكا “استغلت قدرًا من المزاج الكوميدي المثير للشفقة والجهود العقيمة، وبصورة من المرجح أن تجعل كلمة كافكاوي “Kafka-esque” كلمة دائمة”. بحيث أصبح طابع “كافكاوي” لصيقًا بالمحاكمات الصورية في المعتقلات السوفياتية.
ويبدو أن معظم ما له صلة بالكاتب التشيكي تشكل في مختبرات النقد الأميركي. بما في ذلك كلمة “كافكاوي” والتي ظهرت أول مرة أواخر الثلاثينيات في مجلة New Masses” الشيوعية الأميركية.
ولعب اليسار، بوجهيه “المنشق والمتحول” في جعل كتابات كافكا تحظى بقيمة وأهمية نقدية، بما في ذلك الصورة التي مازالت محل إجماع (أنه كاتب منشق)، والتي تعود جذورها إلى الثلاثينيات.
زمرة كافكا في مختبر “الاستيعاب الثقافي”
في العام نفسه، لصدور كتاب ويلسون (الرأي المخالف)، نشر الكاتب الأميركي جيمس بيرنهام James Burnham مقالاً في مجلة “Partisan Review” ربع السنوية، بعنوان “ملاحظات حول كافكا”. وضع فيها نظرية حول استيعاب كاتب جديد وفريد مثل كافكا، ضمن ثقافة جديدة.
بحسب بيرنهام فإن عملية الاستيعاب الثقافي “مرتبطة بالتوسع الموجي لجمهور الفنان الجديد”. وتبدأ بعدد قليل من الأصدقاء ثم الدخلاء المتفرقين، حتى ينتشر الخبر ويتم تنبيه الطليعة؛ والمقصود بها الكُتاب والنقاد وبعض أساتذة الجامعات، وأيضا “ناشر شبه محترف يقرر اغتنام الفرصة”. حيث تتشكل زمرة، وتبدأ وفقًا له، الإثارة على المستوى الدولي.
ويذهب إلى أن شكلا من المحاكاة يُمثل الإطراء الجوهري، وهي عملية تنتقل من النخبة إلى العامة. مشيرا إلى أنه “إذا كان عامة الناس غير قادرين على مواجهة الأصل، يصبحون على دراية بالمراجعات الأنيقة، وبالأدوات المستعارة للسوق الشامل”.
فرض بيرنهام تصورًا ليبراليا للمنتجات الثقافية وصناعتها. وبصورة تتماهى مع العقيدة الرأسمالية الأميركية، عنوانها كافكا. ومع تعيينه ضمن هيئة تحرير مجلة “بارتيسيان ريفيو” كان إعلانًا لتحول المجلة من الخطاب الراديكالي الشيوعي، إلى اتجاه معادٍ للماركسية متبنٍّ ليبرالية حديثة.
صقر الحرب الباردة بيرنهام
على خلاف ويلسون اليساري المنشق عن كل أشكال الانشقاقات المنظمة، كان بيرنهام تروتسكيا تحول إلى أحد صقور الحرب الباردة، وأبرز منظريها. أعلن بيرنهام، المعروف بنظريته حول الشمولية الإدارية، أعلن تخليه بشكل رسمي عن الماركسية في مايو 1940. وفي 1942 تم تعيينه في مكتب الخدمات الإستراتيجية “أو إس إس” (OSS) المكتب السابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية “سي آي إيه” (CIA)، ليقود قسم “الحرب السياسية والنفسية”.
كان واضحًا عدم تخلي بيرنهام عن كراهيته لستالين، وفي وقت كانت إدارة روزفلت لا تزال تعتبره صديق أميركا في الحرب. إذ حذر في تقاريره من طموح ستالين، معتبرًا الستالينية والنازية وجهين لعملة واحدة. وفي دفاعه عن مكارثي، قال إن “المكارثية” كذبة اخترعها الشيوعيون.
تنبَّه بيرنهام مبكرا إلى أن ستالين يسبق الغرب في شرق أوروبا على الأقل بخطوة. وفي الخمسينيات وضع إستراتيجية لهزيمة السوفييت، خلال الحرب الباردة. لاحقًا تبنتها إدارة الرئيس ريغان في الثمانينيات.
وفي الخمسينيات، كان كافكا المنتشل من أنقاض ثقافة وسط أوروبا أثناء الاحتلال النازي، محل إجماع بالنسبة للمثقفين في أميركا، لتتخذ مكانته شكلًا من القداسة. وكان بالإمكان وفقًا لتصور بيرنهام حدوث الإثارة الدولية. وبالتالي انتقل جنون كافكا من الولايات المتحدة إلى أوروبا وبقية أرجاء العالم.
كافكا الساخط “المنزوع الجنسية”
غير أن صورة أخرى لكافكا تشكلت في قلب الحرب الباردة، بكونه جسرا للتبادل الثقافي بين الكُتاب الأميركيين والكُتاب التشيك المنشقين. اكتسب كافكا تلك السمة، نتيجة حظره في وطنه التشيك منذ عام 1948، وكافة البلدان الشيوعية. عدا أن تلك البلدان التحقت في عربة الجنون بكافكا، خلال الستينيات، ومارست تأهيلًا لكتاباته وفقًا للراديكالية الشيوعية.
في لحظة تصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أشار ويلسون في رأيه المُخالف إلى وجوب قراءة كافكا بوصفه وريثًا لأعظم كاتبين غير واقعيين، في القرن الـ19، الروسي نيكولاي غوغول والأميركي إدغار آلان بو.
لكن مزية كافكا، بحسب ويلسون، أنه منذ وفاته منزوع الجنسية لا ينتمي لأي بلد. وكانت تلك الصورة تسمح بإعطائه زخمًا بوصفه الكاتب المُنشق، والقابل للذوبان في كل ثقافة، وربما كل فكرة. لم يبقَ من آراء ويلسون المخالف حول كافكا، وهو المناهض للحرب الباردة سوى مقولات غمرها النسيان. وكانت زمرة كافكا تتخذ على نقيض خلفيتها اليسارية، تحولًا ليبراليا متطرفًا.
المبالغات والمراجعات
لكن كافكا العائد بألمعيته الجامحة إلى أوروبا، أرادت هذه استعادته من الثقافة الأميركية، وأضفت عليه كثيرا من تصوراتها الفكرية والأدبية. ولعل الكاتب التشيكي ميلان كونديرا الساخط على المحاولات المستمرة لتفسير كافكا، كان يرفض بشدة تصويره بالكاتب غير الواقعي، ذاهبًا إلى الاعتقاد السائد بأن كتاباته تصور الكوميديا السوداء للاستبداد الشمولي. لكنه حدد له أسلافًا أوروبيين بوصفه وريثاً لثربانتس وفلوبير.
وهي الفكرة التي سبق لويلسون رفضها مُعتبرًا أن خيالات كافكا الغريبة، اكتسبت صحة وفقًا لمسرح سياسي أعقب رحيله. مع ذلك، لا يمكن قراءة كافكا، بمعزل عن تصورات واقعية، فعلى سبيل المثال، تثير رواية “التحول” مدخلًا فانتازيًا عند استيقاظ غريغور سامسا ليجد نفسه حشرة هائلة.
يبدو أن كافكا تأثر برواسب شرقية ظلت حاضرة في النسيج الثقافي اليهودي، على صلة بالموروث الحكائي العامر بقصص الانمساخ. في كتابه “تدهور الحضارة الغربية” ينسب شبنغلر فلسفة سبينوزا إلى الشرق، تحديدًا “الحضارة العربية”، رغم أنه عاش حياته في هولندا، وكتب باللاتينية. مستحضرًا علامات فكرية قال إنها لا تنتسب إلى الحضارة الغربية.
ولا يعني ذلك، توافقنا مع منهجية شبنغلر، في تحديد أنساق ثقافية عرقية. لا نستبعد تأثر صاحب “التحول” بالموروث الثقافي اليهودي. لكن ما ميز أسلوبه، تلك المعالجة الواقعية للمشهد السحري، وغير المعقول في تحول سامسا إلى حشرة، ليضفي صلات مع الواقع.
يرى الروائي الكولومبي ماركيز كافكا بوصفه مؤسسًا لنوع جديد من الكتابة. لم يكن يسعى لإثبات أو تبرير الأحداث، لكنه جعلها، وهذا الأهم، تبدو حقيقية. رأى في عالمها “شهرزاد مرة أخرى، لكن بعيدة عن عالمها القديم”.
وهذا سياق جعل من كافكا أكثر اتصالا بالحداثة، ففي سرده تشكلت أجناس مرتبطة بمزاج العصر، من العبثية والسوداوية، بما في ذلك الأسلوب السردي والخطابي.
قراءة أُخرى لكافكا الواقعي، وربما المتستر بالغرائبية
على صعيد آخر، تمكن قراءة كافكا بمعزل عن إعادة تأهيله وتهويل الرموز والإشارات السردية، لتتطابق مع واقع لم يعش كل ظروفه أو يختبره. كما أن كتاباته لم تفصح عن تفاصيل واسعة، لمطابقة وقائع تم إقحامها بأثر رجعي ضمن عوالمه السردية.
وفي سياق قراءة الأحكام الصورية في المعتقلات السوفياتية، ضمن طابع كافكاوي. يمكن استحضار رواية “المحاكمة” و”القصر”، فالتُّهم والإدانات لم تكن تتطابق مع أي قواعد قانونية في تلك الأمثلة الكافكاوية. نجد جوزيف ك، يُستدعى بتهمة لم يرتكبها، حتى إنه لم يعرف ماهيتها.
غير أن الحافز الخفي، ربما يرتبط بالانتماء الاجتماعي لكافكا. حتى ذلك الوقت، لم تكن الصورة السائدة في أوروبا تكشف عن تسامح وليونة تجاه اليهود. ولعل هناك صلة بين خيالاته، والواقع الاجتماعي لمحيطه، الذي كان دائما عُرضة لممارسات اعتيادية من الإدانة، وبأشكال مختلفة. وغالبا ما تكون إدانة معنوية، يمكن أن تُفصح عنها النظرات، وإدانة ثقافية تفرزها اللغة اليومية، ويمكن أن يتعرض لإدانة لم يرتكبها لمجرد أنه يهودي. كانت تلك صيغة التمييز، وهو ما كشفته قضية دريفوس في فرنسا، الضابط اليهودي الذي تم اتهامه بجريمة لم يرتكبها، وتمت إدانته بتسريب معلومات عسكرية للألمان.
في حالة كافكا الاجتماعية، لم يكن بإمكانه التعبير المُباشر، الشعور الدائم بالخوف من المحيط، لم يكن يسمح له بهذا النوع من التعبير. ولا يعني أنه كان يعي ذلك، أو يحاول مواراة مقاصده. إنما كان ذلك عاملا اجتماعيا تخلَّق عنه، بشكل غير مقصود، طابع عام في السرد الكافكاوي. وبالتالي كان بشكل غير واع، يضع عوالم يُدان فيها أبطاله دون تبرير ذلك بقواعد قانونية.
ما ميز سرده، هو تلك القدرة على جعل اللامعقول ممكنا وحقيقيا. ولا يعني ذلك تقليلا من أسلوبه العام، لكنه ينزع عن عوالمه صورة التهويل المحشود باستعارات ومجازات تقرأ العوالم السردية بأثر رجعي.
يتسم أسلوب كافكا بالتداعيات، فالسرد يتوالد بشكل مركزي من الثيمة الرئيسية، تحول سامسا في البداية، ومحاكمة جوزيف ك، دون جُرم أو تُهمة. لكنْ أيضا شخوصُه مُذعنون، حتى إنه لا يسمح لهم بقول شيء، وهذا ضاعف من التهويل، وبصورة تُضفي على سرده أساليب المحاكمات الصورية في معتقلات الأنظمة الشمولية. وهذا يثير الوضع الاجتماعي، السلطة الغاشمة التي لا تسمح للأقليات اليهودية بالدفاع عن نفسها، وفي عالمه الصغير، سلطة الأب الغاشمة التي دفعته للانكفاء والاكتفاء بكتابة “رسائل إلى الأب”.
تحول كافكا الأخير
بأي حال، تُثير لنا تلك الصورة المُذعنة لأبطال كافكا، جانبا عقيما من الشفقة، وفقا لقول ويلسون. لكن هذا يدفعنا لاستعادة بعض دهشته حول قراءة معاصريه لكافكا. وذلك من خلال إغفال بعض الملامح وتهويلها، رغم ضعفها المسرحي. صلة بعدم إيلاء أهمية للمشهد المسرحي في رواية “في مستوطنة العقاب”.
عندما تصل رواية “في مستوطنة العقاب” إلى نقطة يتوقف فيها الشخص الموثق لآلة العقاب، بغرض إعدامه، والجندي عن أكل الرز معا. يعود لاحقا إلى توقفهما عن الأكل على إثر صراخ الضابط بصوت عال، فيتوقفان عن الطعام فزِعين. ربما عادا إلى الأكل مجددا، وكافكا غير مُطالب بتبرير ذلك. بما يعني أنه ليس خطأ، لكنه أيضاً يكشف عن تلك الحركة الآلية التي تشبه مشاهد الأفلام الصامتة. الدلالة المسرحية، التي أرادت أن تضفي إثارة تعبيرية للمشهد.
وبالتالي نرى انخراطا مفرطا في الخطابية، وبصورة تحيلنا إلى مسرح تعبيري. كانت ذروة الرواية في وصفه الدقيق لآلة العقاب، وبصورة تبدو مُبتكرة وغير مسبوقة في الأدب على الإطلاق.
بصورة عامة، هناك شيء لم يكتمل في عوالم كافكا. جرى إكماله في مسرح الحرب الباردة، وبصورة فرضت علاماتها الراسخة على الأدب. لكنها لم تكن مُختلقة كُلِّيا، إنما اندفعت ضمن تحيزات مناهضة للاستبداد الشمولي، وجدت في كافكا صورتها.
غير أن كافكا، لا يمكن له أن يستفيق من إغماضته الأخيرة، ليرى سيرة تحوله في الثقافة العالمية. وفي مشهد يتعارض مع تحول بطله غريغور سامسا الذي استيقظ بعد أحلام كابوسية ليجد نفسه حشرة هائلة الحجم.
* كاتب من اليمن