وكالات : كواليس
طشقند – يمكن القول -بغير كثير من المبالغة- إن ركاب تلك الرحلة المتجهة إلى طشقند الأكثر حماسة على الإطلاق، ولمَ لا؟ فبانتظارهم حكايات شرقية ماتعة تكاد تكون مختلسة من الزمن على طريق الحرير التاريخي.
استقبلتنا المضيفة بتحية روسية لم أعرف جوابها، سألتني سؤالا خمنت أن يكون عن رقم المقعد في الطائرة الأوزبكستانية الكبيرة، فأجبت بالتركية التي خمنت أن تفهمها، فأشارت للمقعد.
يتحرك صف الركاب ببطء إلى مقاعدهم، وأحدق في اللاشيء، فتلتقي نظراتي مع كهل بملامح وسط آسيوية واضحة يبتسم لي فأبادله الابتسام بلا كلام، وعندما أمر بحذائه ينتصب واقفا ويمد لي كلتا يديه للسلام بحرارة غير معهودة بين الأغراب ويقول شيئا بالروسية لم أفهمه فأحييه وأتمنى له رحلة سالمة فيفهم قليلا من جوابي، ويقول “السلام عليكم” ثم يفسح لي المجال لأمر.
يجلس بجواري سائح تركي كثير التردد على أوزبكستان وسيدة أوزبكية مسنة عائدة إلى بلادها، يقول الرجل بلا مناسبة: أراهن أن الطائرة لن تتحرك إلا قبل نصف ساعة، وقد كان؛ نقضي الوقت بالكلام وأشارك معهما قليلا قبل أن تنطلق الطائرة ويقضي ركابها ساعات طويلة في حوار مفتوح حول كل شيء.
ورغم قرب المسافة نسبيا بين آسيا الوسطى والبلاد العربية، لكن رحلات الطيران قليلة نوعا ما، ما يجعل سعرها أغلى من تلك المتجهة لأوروبا مثلا، لكن ما تخسره في رحلة الطيران تكسبه في تلك البلاد الساحرة التي لا ترهق ميزانيتك، وتستطيع التمتع بفصولها الثلاثة المبهجة مع استثناء شتائها قارس البرودة.
آلة الزمن
لا يشبه فيديو “إعدادات السلامة” الخاص بطائرة الخطوط الأوزبكستانية سواه، كأنه رحلة قافلة تجارية عبر طريق الحرير القديم مرورا بعمارة المدن القديمة وقلاعها وأسواقها التي تختلط فيها أصوات الباعة ورائحة التوابل وألوان فسيفساء البشر في متحف حضارات الشرق والغرب المفتوح.
أما الحوار على متن الطائرة المحلقة فوق طريق الحرير وسهوب أوراسيا؛ فهو مزيج من الحديث عن تحولات المجتمع والتاريخ والسياسة والطعام والموسيقى بين أمور أخرى، تقول السيدة الأوزبكية إنها عاشت تحولات بلادها 3 مرات، خدمت سنتين في العسكرية السوفياتية قبل تفكك الاتحاد، وتنظر لي قائلة: لا تصدق ما يقوله عن السوفيات كنا نعيش في رخاء وسلام ولم يتدخلوا في ديننا وثقافتنا.
يضحك الرجل التركي ويدخل في الحوار قائلا: هذه مسألة أجيال، أراهن أن ابنكِ الذي يدرس في تركيا لا يوافقك الرأي، تجيب: نعم، للأسف، الأجيال الجديدة لا تهتم سوى بالمال!، وتتطلع للغرب.
أقول: هذه مسألة متكررة، كل بلاد الاتحاد السابق تنقسم مجتمعاتها بين الحنين للعهد السوفياتي البائد والتوق للتحرر من إرثه، أستطيع أن أقول بثقة إني حضرت هذا النقاش مرارا وتكرارا في أوروبا الشرقية أيضا.
تعقب السيدة الأوزبكية بحسرة: الاتحاد كان قوة لشعوب المنطقة وآسيا الوسطى، انظر لنا الآن، نشبه البلاد العربية المفككة، ونحن ضعفاء أمام القوى الكبرى.
يقطع الطعام حديثنا، تقول السيدة بدون مناسبة: لا تقلق اللحم طيب والطعام لذيذ في بلادنا بفضل المراعي السهلية، وهو حلال بالتأكيد، كما أن سعره رخيص كثيرا اشترِ كيلوا منه على الأقل عندما تعود.
أقول مشاكسا: كيف يكون طعامكم طيبا وأنتم لا تعرفون الزيتون ولا زيت الزيتون؟ الزيتون جاء من عندنا من سواحل البحر المتوسط وليس من سهول بحر آرال.
تجيب السيدة: أعرف الزيتون لكنه غير معروف في بلادنا، جاء بعد البيريسترويكا (برنامج للإصلاحات الاقتصادية السوفياتي الذي ينظر إليه أنه سياسة أدت لتفكك الاتحاد) التي جلبها “رجل البيتزا” غورباتشوف، نحن نستخدم زيت بذرة القطن للطهي وزيوت أخرى مثل بذور اللفت وعباد الشمس وغيرها.
“مدينة الحجر”
تقترب الطائرة من الهبوط في مطار طشقند، التي تعني حرفيا باللغات التركية “مدينة الحجر”، ويظهر مزيج غريب من التضاريس المستوية والتلال المنحدرة، وتلوح بحيرة كبيرة جهة اليمين تقول جارتي إنها بحيرة آيدار والبرك الضحلة والضخمة المرتبطة به.
وتتحسر قائلة إن التلوث وانخفاض منسوب المياه قضى على صيد الأسماك في بحر آرال الذي ازدهر طويلا، كما تعطلت معظم السفن على شواطئ آرال.
وطشقند هي عاصمة أوزبكستان وأكبر مدن آسيا الوسطى، وعاشت “بلد الألف مدينة” كما سماها الرحالة المسلمون، حقبا مختلفة، وفتحها قتيبة بن مسلم الباهلي في القرن الأول الهجري، وعاشت حكم القرخانيين والسمانيد وأتراك كراكنيد والخواززميين وغزو المغول ثم حكم التيموريين والأوزبك والقزق ثم خانية الخوقند التي حكمت بلاد تركستان والتتار، ثم عصر القيصرية الروسية والثورة والاتحاد السوفياتي حتى الاستقلال والجمهورية مطلع التسعينيات، وترك كل هؤلاء آثارهم في المدينة العريقة.
وكانت طشقند مركزا مهما للتجارة والحرف اليدوية على طريق القوافل المتجهة بين أوروبا والشرق الأوسط من ناحية، وشرق آسيا على الجهة الأخرى، فيما عرف بطريق الحرير، وتشتهر بزراعة القطن والقمح والأرز وتربية دودة القز، وهو ما ينعكس على ثيابها وطعامها، وهي كذلك مدينة الصناعة والتعليم والثقافة والفنون والرياضة في البلاد، وتضم معالم أثرية مثل ساحة “حضرة إمام” التي تضم مدرسة براق خان العريقة ومعهد الإمام البخاري، وفيها أيضا العديد من المتاحف والمساجد والميادين والأضرحة.
عندما وصلنا للمطار الصغير المرتب استلمنا الأمتعة وخرجنا في دقائق معدودة، واستُقبلت جارتي استقبالا حافلا من عائلتها الكبيرة وأخذوها بسيارة قديمة، بينما أخذني سائق يسمى سردار إلى وسط المدينة في شوارع نظيفة مرتبة مرورا بنهر صغير وقنوات مائية وساحات وحدائق واسعة.
أردت تبديل بعض المال للحصول على سوم أوزبكستاني فدلني على الصرافين المنتشرين في الشوارع، حيث يساوي الدولار الواحد 12 ألفا و700 سوم فلا تتعجب عندما تجد الأوزبكستانيين أسرع الناس قدرة على عد الورقات النقدية، هل يعني ذلك أن الأسعار مناسبة؟ نعم الفنادق والمطاعم والأماكن السياحية والتنقل قليل التكلفة مقارنة بمعظم الوجهات البديلة.
في الموضوعات التالية نتحدث عن التاريخ والسياحة في طشقند وسمرقند وخوارزم، وآثارها ومعالمها وطعامها وشايها وفنادقها، في دليل شيق وماتع لوجهة سياحة تاريخية غير مكلفة كثيرا، ونروي حكايات تلك المدن الشرقية البديعة.