مع أبي الطيب المتنبئ في معرض الدوحة للكتاب محمد يوسف العركيباحث في استراتيجيات المعرفة

أشرت له من بعيد وهو في مضمار الفروسية قبل أن تخرج الشمس من خدرها وفرسه المحبب سابح يكمل الأشواط في همة الخيل العربية الاصيلة وضحك وقال لي: فهمت ما تريد قوله يا بُني، وأردف قائلاً:
أعز مكان في الدنى ظهر سابح وخيرُ جليس في الزمان كتاب
فعلمت انه لم ينس الموعد.
قبل ذلك بيوم وفي المساء وعلى الخيمة العربية في المجلس العربي الذي أحبه أبو الطيب بيد انه اشتكى من قوة الإضاءة التي خففها ضيفنا المبعوث من وزارة الثقافة القطرية المنظمة لمعرض الدوحة الدولي للكتاب في دورته الثالثة والثلاثين ليكون مرافقاً لنا في جولتنا للمعرض.
في ذلك المساء اجتهدت في ان اقنع الشاعر العربي المتنبئ ان الذهاب للمعرض بالخيل سوف يربك حركة السير في المدينة واقترحت ان نذهب بالميترو وسعى مضيفنا ان يقرب له الصورة فضحك ضيفنا ثم انشد قائلا:
إِذا اِعتادَ الفَتى خَوضَ المَنايا
فَأَهوَنُ ما يَمُرُّ بِهِ الوُحولُ
فقلت له: بل الامر اهون من ذلك يا شاعر الدنيا.
ركبنا الميترو والكل اخرج جواله ملتقطاً خلسة بعض الصور لهذا الضيف وهمس لي قائلا يا بني لو حضرت زمانكم هذا لقلت في وصف معالم الدوحة أكثر مما قلت في وصف شعب بوان:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني
بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها
غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها
سُلَيمانٌ لَسارَ بِتَرجُمانِ
طَبَت فُرسانَنا وَالخَيلَ حَتّى
خَشيتُ وَإِن كَرُمنَ مِنَ الحِرانِ
غَدَونا تَنفُضُ الأَغصانُ فيها
عَلى أَعرافِها مِثلَ الجُمانِ
فَسِرتُ وَقَد حَجَبنَ الشَمسَ عَنّي
وَجَبنَ مِنَ الضِياءِ بِما كَفاني

دلفنا الى ساحة المؤتمرات والمعارض حيث معرض الكتاب ولفت انتباهنا وجود الهوية العربية في التصميم وفي كافة تفاصيل المعرض مزجاً مموسقاً بين الأصل والعصر وقلت لأبي الطيب: أراك شردت بعقلك
فقال لي: يا بني والله أعادتني هذه المشاهد لأيام الكوفة ودمشق ومصر
كنا حينها قد تجاوزنا المدخل الرئيس ودلفنا الى جناح وزارة الثقافة المنظمة لهذا المحفل الراق وأخذ ذلك الشاب يشرح لنا طريقة نسخ الكتب في ذلك الزمان البعيد ، ومن بديع الاقدار انه كان ينسخ ديوان المتنبي فهمست له قائلا هذا ديوانك يا أبا الطيب فما لبث أهل الجناح الا واهدونا نسخةً كانت معدة مسبقاً.
دلفنا الى عديد الاجنحة ومرافقنا يشرح لنا ان هذه الدورة في هذا العام تعد أكبر مشاركة دولية في تاريخ المعرض إذ استقطبت أكثر من خمسمائة وخمس عشرة دار نشر من اثنتين واربعون دولة، وهو ما أتاح عرض أكثر من ثمانين ومائة ألف عنوان جديد في مجالات المعرفة والعلوم المختلفة.
توقفنا عند جناح ضيف شرف المعرض سلطنة عمان فأكرموا وفادتنا حسا ومعنى وطفنا على الكتب التي تعود الى عصور بعيدة تحكي شواهد تاريخ السلطنة وصولا الى العصر الحالي من خلال المؤلفات المختلفة التي غطت كل جوانب المعرفة.
بذلت جهدا كبيرا في أن اقنع المتنبئ ان يرتدي النظارة ثلاثية الابعاد في جناح الأوقاف القطرية فقال لي كيف لاب الطيب ان يخلع عمامته من اجل ارتداء هذا الشيء الغريب، كيف تقول العرب عني بعد ذلك وانا القائل:
لا بقومي شرفت، بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل ما نطق الضاد
وعوذ الجاني وغوث الطريد
إن أكن معجبًا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافي
وسمام العدى وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله
غريب كصالح في ثمود
ولمحت بعد ذلك دمعات من خد المتنبئ وهو يرتدي النظارة فأخبرني أهل الجناح ان النظارة هذه تحوي على مقاطع ثلاثية الابعاد لغار حراء ومكة والكعبة البيت الحرام. ورأيت نسخاً لكتاب الأمة وترحمت على الشيخ عمر عبيد حسنه الذي كانت مقدمته الماتعة تشوق القارئ لموضوع العدد.
كنا كلما زرنا جناحاً زاد عدد الحمالون من خلفنا من فرط الهدايا وما كان لنا ان نتجاوز جناح مجموعة دار الشرق والتي هي أكبر دار نشر بقطر فأنخنا مطايانا عندهم وشربنا القهوة العربية وشرحوا لنا تاريخ الدار وما تقوم بنشره من صحف ومؤلفات في مختلف المجالات وزاد عدد الحمالين واحدا.
لفت نظر ابي الطيب المتنبئ بعض الصور القديمة التي ظهرت على شاشة مدخل جناح دار الوثائق القطرية فقال لي: أليس هذا سوق كندة بالكوفة؟ وبلطف وحياء أجابت بدلا عني تلك الفتاة القطرية التي وجدناها تعمل في الجناح فقالت له يا سيدي هذا سوق واقف وهو من أشهر الأسواق التاريخية بقطر وما زال محافظاً على ذات النسق القديم. فدخلت في الحوار وقلت له سوف نذهب له غداً مساء يا سيدي.
وبينما نحن في تطوافنا نلمح الندوات والمحاضرات والمسابقات ورأينا الأطفال فقال مرافقنا: ان الأطفال قد خصص لهم برنامج مصاحب مقتبسُ من شعار المعرض لهذا العام (بالمعرفة تبنى الحضارات).
لم تفت على فطنة المتنبي تلك المعالم فقال لي: إني لأجد ريح مصر من ها هنا فقلت له صدقت سيدي فهذا سور الازبكية حيث رائحة الكتب القديمة وخشيت أن يقول المتنبئ قصيدته في كافور الاخشيدي، ولكنه لم يقلها فسعدت بذلك.
وجدنا عدد من الشاشات يمكنك من خلالها البحث عن دار نشر او عنوان كتاب فقال لي اكتب اسمي لنرى. فكتبت المتنبئ فظهرت لنا سبعة وستون عنوانا مختلفا ما بين شعر المتنبئ ومن كتبوا عنه في مختلف الفروع الأدبية والنقدية القديمة والمعاصرة .فلو اهدتنا كل دار نشر كتابا واحدا لعدنا الى مكان اقامتنا بعربة نقل كبيرة تحمل هذه الكتب جميعاً.
تسرب خبر وجود الشاعر العربي احمد بن الحسين الجعفي في معرض الدوحة للكتاب والكل يريد أن يرى هذه الشخصية العظيمة وضاق المسرح الرئيس بالمعرض لما علموا أن المتنبئ سوف يقدم ليلة شعرية بعد قليل واستعدت الكاميرات لتنقل الحدث مباشراً .فجلست خلف الكواليس وقال لي مرافقنا من وزارة الثقافة: بالله عليك هل رأيت همة هذا الرجل واعتزازه بنفسه و تواضعه مع الجميع هنا اليوم؟
فقلت له: هذه شيمة العربي دوماً فلا غرو.
لحظتها كان الحوار قد بدأ فقالت المحاورة الاديبة لأبي الطيب: عرفنا بنفسك يا شاعرنا العظيم فهناك أجيال حديثة لم تقرا الكثير عنك، فتعجب وقال ومن لا يعرف المتنبئ يا بُنيتي فأنشد قائلاً:
أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي.. وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا.. وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي.. حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً.. فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ
وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها.. أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ
رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ.. وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ
وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ.. حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ
الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني.. وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ
صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً.. حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ
يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ.. وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ

عدنا وقد بلغ مني التعب مبلغاً عظيماً ولكن هذا الشيخ الشاعر وكأنه كان في نزهةٍ عابرةٍ ،واراد ان يفتح معي باباً للحوار والمؤانسة فقلت له: رويدك يا سيدي فالصباح رباح ان شاء الله واعطيته ديوانه فقلت له اقرأ هذا وتسلى بقية ليلتك هذه فأخذه وضحك وقال لي: غدا ان شاء الله نذهب مرة اخرى لمعرض الدوحة للكتاب فهناك أجنحة لم نزرها اليوم.
arakidoha@yahoo.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *