وكالات : كواليس
القدس المحتلة- تتشبث المسنة المقدسية نشأت السلايمة بمنزلها المتهالك الآيل للسقوط في “حوش النيرسات” بالبلدة القديمة في القدس. ورغم إخطار بلدية الاحتلال سكان الحوش مطلع عام 2020 بضرورة إخلاء منازلهم بسبب خطورتها، فإن هذه المسنّة رفضت ذلك حينها.
وفي أغسطس/آب الماضي، انعدمت الخيارات أمامها واضطرت للرحيل القسري عنه، مع بدء أعمال ترميم متأخرة لهذا الحي الذي لا يبعد عن المسجد الأقصى سوى بضع خطوات.
تقول نشأت السلايمة (73 عاما) للجزيرة نت إنها وُلدت في البلدة القديمة وترعرعت فيها، ثم تزوجت وأنجبت أبناءها ورأت أحفادها فيها. ومع انحصار مسيرة حياتها في هذه البقعة منذ 7 عقود ونيف، ترفض هذه السيدة فكرة الخروج منها، إلا أن الخطورة التي يشكلها منزلها الآيل للسقوط على حياة عائلتها اضطرتها لمغادرته مؤخرا.
لم تواجه السلايمة هذا المصير وحدها، فهناك عائلات أخرى في البلدة القديمة اضطرت لمغادرة منازلها بشكل مؤقت أو دائم، إما بسبب تصدع جدرانها وانهيار أرضياتها نتيجة الحفريات الإسرائيلية المتشعبة، أو نتيجة منع الأهالي من ترميم منازلهم القديمة أو التوسع بإضافة بناء جديد، فضلا عن طرد عشرات العائلات وتفريغ منازلها لصالح المستوطنين في محاولة لحسم الديمغرافيا لصالح اليهود.
وتبلغ مساحة البلدة القديمة في القدس 900 دونم (الدونم ألف متر)، يسكنها نحو 40 ألف مقدسي، بالإضافة لأكثر من ألفي مستوطن يعيشون بقوة الاحتلال في 77 عقارا استولوا عليها خلال السنوات الماضية، وفقا للباحث المختص في شؤون الاستيطان أحمد صب لبن.
طرد وإحلال
وشكّل هدم حارة المغاربة الملاصقة للمسجد الأقصى في الأيام الأولى من حرب عام 1967، أولى جرائم التهجير الجماعي القسري من البلدة القديمة في القدس.
ووفقا للجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية (باسيا)، فإن القوات الإسرائيلية أقدمت على طرد 650 مواطنا فلسطينيا من حي المغاربة إلى خارج حدود المدينة، وتم هدم منازلهم من أجل شقّ طريق تصل إلى ساحة موجودة أمام حائط البراق.
وفي عام 1968، شرعت إسرائيل بتدمير 1048 شقة سكنية أخرى و437 ورشة و4 مدارس ومسجدين، وأجبرت ما يزيد على 6 آلاف فلسطيني على مغادرة المدينة، وأقامت الحي اليهودي الذي ابتلع أكثر من 116 دونما من مساحة البلدة القديمة، وفقا لـ”باسيا”.
ويعلق الباحث في تاريخ القدس إيهاب الجلاد على نسف حارة المغاربة بالقول إن حيّا فلسطينيا كاملا أُزيل وهُجر سكانه من أجل تخصيص ساحة لصلاة اليهود في البلدة القديمة، وإن هذا التهجير القسري لم يكن الأخير بل تبعه تهجير مؤقت ودائم أحيانا لأهالي كل من حي القرمي والنيرسات ورباط الكرد ومنازل الطرف الغربي من المسجد الأقصى، بسبب الحفريات التي تضررت بفعلها المنازل بشكل كبير.
وبالتزامن مع الحد من الوجود العربي في بعض مساحات البلدة القديمة، سعت سلطات الاحتلال لزرع المستوطنين في مناطق لم يتواجدوا فيها من قبل، مثل طريق الواد المؤدية للمسجد الأقصى، والتي امتازت بالوجود الإسلامي تاريخيا كونها تقع في إطار الحي الإسلامي الذي يمتد على مساحة 480 دونما.
وأوضح الباحث صب لبن -للجزيرة نت- أن معظم البؤر الاستيطانية تتركز في كل من عقبة الخالدية وحي القرمي ومنطقة الواد وباب الساهرة وحّطة في الحي الإسلامي، بالإضافة لعدد من البؤر في الحي المسيحي.
وأضاف الباحث المقدسي أن سلطات الاحتلال اهتمت منذ احتلالها لشرقي المدينة عام 1967 بإقامة المشاريع والوحدات الاستيطانية داخل البلدة القديمة، فأقامت حارة اليهود على أنقاض حارة المغاربة التي يسكنها اليوم نحو 4500 مستوطن.
وبالتزامن مع هذا المشروع الاستيطاني الضخم، أطلق الاحتلال العنان للجمعيات الاستيطانية لتنتشر بشكل مكثف في البلدة القديمة بالتعاون مع دائرة “حارس أملاك الغائبين” الحكومية، والتي تم من خلالها وضع اليد على عشرات العقارات.
فشل أساليب التهجير الخشنة والناعمة
ولأن كفة الميزان الديمغرافي لم ترجح لصالح اليهود في البلدة القديمة رغم النشاط الاستيطاني الكبير، لجأت سلطات الاحتلال لوسائل ضغط أخرى في محاولة لتفريغ البلدة القديمة من المقدسيين، ومن هذه الوسائل تنفيذ حفريات متشعبة أسفل البلدة القديمة، مما أدى لإحداث أضرار جسمية في المنازل القديمة التي تحتاج لترميم دوري.
وفي هذا الإطار، قال صب لبن إن العقارات في الحيين الإسلامي والمسيحي لا تحظى بفرص لترميمها ولا لتوسعتها بغرف وطوابق جديدة، على عكس الحي اليهودي الذي تبنى فيه طوابق جديدة وتُغير فيه معالم الحجارة التاريخية بدعم حكومي.
وأضاف الباحث المتخصص في شؤون الاستيطان أن المقدسيين يعيشون بظروف صعبة داخل منازل متهالكة وغير صحية، ولكنهم يصرّون على البقاء بها للرباط في محيط المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
وبالإضافة للحفريات والاستيطان ومنع التوسع وأعمال الترميم، فإن الاحتلال لا يكف عن ملاحقة كل من ينشط في مقاومة الاحتلال بالبلدة القديمة، عبر حرمانه وعائلته من التأمين الوطني والصحي وفرض مخالفات تعسفية بحقه بهدف دفعه لمغادرة البلدة القديمة.
وأمام كل هذه التحديات والصعوبات، فإن الفلسطينيين ما زالوا يشكلون ما نسبته 90% من سكان البلدة القديمة في القدس، مقابل 10% من المستوطنين، وفقا لصب لبن الذي ختم حديثه للجزيرة نت بالقول إن “البلدة القديمة هي المنطقة الوحيدة في القدس التي تحظى بأغلبية ديمغرافية فلسطينية، وأنا متفائل بأنها ستبقى كذلك”.