زارني بعد العملية الجراحية أحد الأصدقاء من أبناء أمدرمان معاوداً، فقضينا ساعةً من الزمان نسلخ كبائر الذكريات بالبقعة، ثم انتقلنا إلى صغائرها. فقصصتُ له حكاية مشوار رامز في دروب أمدرمان الممتدة من
فتيح للخور للمغالق
ومن علايل أب روف للمزالق
وليتها مثلما كانت قديماً في عين الخليل
منظر الغزلان في الحدائق
والشوارع الغر والمضايق
قولي كيف أمسيت دمت رايق
ودام صفاك مشمول بالنظام
كان الكابلي يغرد بها في شغف في ستريو السيارة في تسجيل نادر سلبه البغاة أخيراً ضمن مكتبتي التي قضيتُ العمر في جمعها وانتقائها، وعندما وصلتُ منعطف شارع الدومة بودنوباوي المؤدي إلى بيتنا الذي أحرقته المؤامرة لزيارة بيت الوالدة بت الشريف عليها الرحمة، أصاب عطب مفاجئ ماكينة السيارة فتعثرت وتأبت المسير، دلني أحد المارة على محل ميكانيكي شاب في ناصية الشارع، فتح الفتى الماكينة وبدأ في معاينتها.
جلست في مقعد بجواره وأنا أرقب عمله الدؤوب ففاجئني بصوت شجي وهو يغني بطلاقة طروب:
وجمعتُ باقات الزهورِ هنا
ولكم .. بأزهاري تزينتِ
ألقيتهُا بجوار مقعدنا الخالي
حزينا اذ تخلفتِ
وبكى المسا الوردي
وارتعشت كل النجوم .. عشية السبتِ
وحملتُ .. أشواقي وعدتُ بها
متلفعاً بالليلِ .. والصمت
قلت له في دهشة يا ولد لمن هذه الأغنية؟ فزادت دهشتي ضعفين حين قال لي مبتسماً باستغراب: معقول يا أستاذ ما عارف أم أردت أن تمتحنني؟ وواصل دون أن ينتظر مني جواباً هذه رائعة الشاعر الفلسطيني محمد حسيب القاضي ليلة السبتِ، وغناء الفنان العبقري صالح عبد القادر أبو قرون الشهير بصلاح بن البادية.
انفجر صديقي الأمدرماني الزائر بضحكة مدوية وبسخرية باكية تلتمع في حزنٍ خفي قائلاً: هل تصدق يا صديقي أنه لم يعد في الدومة ذلك الفتى الميكانيكي المثقف، ولم تعد ورشته، ولم يعد هنالك صلاح بن البادية ولا الإذاعة السودانية، ولم يعد هنالك حسين خوجلي. وصمتنا هنيهة وقلناها معاً: بل لم تعد هنالك أمدرمان.