وكالات : كواليس
تسبب الغزو الأميركي للعراق عام 2003 في فقدان الأرشيف السمعي والمرئي بعد أن تعرضت المؤسسات الإعلامية والمسرحية وغيرها لعمليات نهب واسعة، ما تسبب بخسارة كبيرة تضاف إلى خسائر البلاد الفادحة.
ومع حلول اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري، والذي يتم الاحتفاء به في 27 أكتوبر/تشرين الأول من كل عام، نسلط الضوء على مصير الأرشيف العراقي المفقود، رغم تأكيد الأمم المتحدة على أهمية الوثائق والمواد السمعية والبصرية للبلدان، وضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لحمايتها.
ويشمل التراث السمعي والبصري جميع التسجيلات الصوتية والمرئية الخاصة بالإذاعة والتلفزيون ومختلف وسائل الإعلام التي تحمل في طياتها حكايات عن أشكال حياة الأشخاص وثقافاتهم.
أهمية الأرشيف
ويعود تاريخ أرشيف التلفزيون العراقي إلى الخمسينيات من القرن الماضي، أي في فترة تأسيس التلفزيون العراقي، والذي كان الأول في المنطقة العربية، ومن يومها جرى العمل على إثراء أرشيف التلفزيون وتزويده بما توفر وأمكن من تسجيلات صوتية وصورية لكل ما كان يجري على الساحة السياسية والعسكرية والفنية، بحسب الباحث الإعلامي محمود القيسي.
ويضيف في حديث للجزيرة نت أن ندرة الكاميرات وارتفاع أثمانها وقلة تداولها جعل الأرشفة حكرا على الحكومة إلى حد ما، مما جعل الأرشيف الضخم عرضة للتلف ومن ثَم السرقة بعد 2003.
ويشير القيسي إلى أن أهمية الأرشيف العراقي تكمن في أن العراق كان حريصا على جمع الكثير من التسجيلات عالية الجودة وشرائها من العديد من المصادر العربية والأجنبية وحافظ عليها لعقود طويلة.
وحول أبرز ما يتضمنه الأرشيف يقول القيسي، إن معظم البرامج التلفزيونية كانت تسجل قبل بثّها وعرضها على الجمهور، وحتى نشرة الأخبار تكون معدة مسبقا؛ لذلك كانت أشبه بيوميات توثق كل ما يجري على الساحة العراقية، وبرامج رصينة عملت على صقل الهوية الثقافية للمجتمع.
ويكشف الباحث الإعلامي أن العراق عزز أرشيفه بشراء تسجيلات سابقة لتأسيسه، مثل تسجيلات الزيارات التي قام بها ملوك العراق للدول العربية والأجنبية في خطوة للحفاظ على كل ما يخص العراق، وحينما قامت الثورات الواحدة تلو الأخرى، لم يتم المساس بالأرشيف.
ويشير القيسي إلى أن الأرشيف هو شكل من أشكال الحفاظ على حضارة البلد، وهو الذاكرة الجمعية للمواطنين، وأن المساس بالأرشيف هو تلاعب واضح من أجل الإخلال بثقة المواطن ومحو ذاكرته ومصدر فخره.
مصير مجهول
وعلى الرغم من أهمية الأرشيف الفائقة، فقد تم حفظه بشكل فوضوي وبعيد عن الطرق الإلكترونية والتقنيات الحديثة، وفي أماكن غير خاضعة للشروط المهنية وتفتقر إلى متطلبات قواعد وإجراءات سليمة لحفظها، وفق أستاذ التاريخ الحديث الدكتور مقدام الفياض.
ويؤكد الفياض للجزيرة نت أن أرشيف العراق يكتنفه مصير مجهول، وأن الغموض الذي يلفّ الأرشيف ينذر بضياعه، ومن شواهد الحال المذكور أنه بعد أشهر قليلة من غزو 2003 تم العثور على حوالي 5-6 ملايين وثيقة في مبنى تحت الأرض “سراديب”، بعدما غمرت المياه أجزاء من المبنى الواقع في بغداد، واستعانت القوات الأميركية ببعض العراقيين للاطلاع على محتوياته ونقله إلى الولايات المتحدة عام 2004، في خطوة ما زالت مثارا للجدل.
ويضيف أن أماكن حفظ الأرشيف تعرضت إلى الكثير من الكوارث وعمليات الحرق والتدمير، وفقد العراق كَمّا هائلا من أرشيفه الوطني ووثائقه النادرة في الأزمات السياسية قبل عام 2003، وجاء الغزو الأميركي ليقضي على البقية الباقية منها؛ حيث بيعت أو أحرقت أو اختفت.
ويكشف الفياض عن وقوع أرشيف الإذاعة والتلفزيون ووزارة الإعلام العراقية عام 2003 في أيدي سُرّاق من نوع معين، استفادوا منه فيما يخص القنوات الفضائية ووكالات الأنباء كأرشيف صور ووثائق أو بوصفها أدوات للابتزاز.
نتائج التحقيق
وبدأ بحث العراق عن أرشيفه الضائع في وقت مبكر من عام 2003، وحول ذلك يقول الكاتب والصحفي علي عبد الأمير عجام، إنه “تم الطلب من اللجنة الإعلامية (هي لجنة فرعية في مجلس الحكم وكان عجام من أعضائها) من خلال منسّقها الإذاعي والصحفي المعروف إبراهيم الزبيدي بالتوجه إلى بيت مهجور في شارع أبي نواس ببغداد قيل إنه يتضمن أرشيف الإذاعة والتلفزيون بعد العثور عليه من قبل قوات التحالف”.
ويوضح عجام للجزيرة نت أن اللجنة لم تجد في ذلك البيت سوى خرائب آلات وأجهزة إذاعية وتلفزيونية وركام من أشرطة أصاب التلف معظمها، وتم تثبيت هذه الملاحظات في تقرير اللجنة.
ويرجّح عجام أن معظم الأرشيف الحقيقي تم نهبه من موقع مبنى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون ضمن أيام النهب الكبير الذي طال كل مؤسسات الدولة العراقية في الأيام الأولى لسقوط النظام السابق.
ويكشف عن محاولة قام بها الصحفي والكاتب الراحل جلال الماشطة لفتح هذا الملف بعد تسلمه منتصف 2004 مسؤولية “شبكة الإعلام العراقي”، وتمكن من المحافظة على ما تبقى من أرشيف كان مودعا في مبنى المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، وإلحاق الصالح منه بالشبكة التي كانت تديرها مؤسسة “إل بي سي” اللبنانية في عقد مع قوات التحالف.
وعن أسباب عدم اهتمام السلطات بحماية هذا الأرشيف الثري، يعتقد عجام أنه لم يتوقع أحد من العراقيين أن يتعرض الأرشيف الوطني إلى التدمير المنهجي تارة والعبثي تارة أخرى لمؤسسات مثل “المكتبة الوطنية” و”دار صدام للوثائق والأرشيف”، فضلا عن “المتحف العراقي” و”أرشيف الإذاعة والتلفزيون”، حيث تم حرقها جميعا بعد ساعات من احتلال بغداد.
ويختم بالقول: “من خلال تجربة شخصية أصبحت متيقنا من أن لا مؤسسة عراقية بعد 2003 تهتم بشيء اسمه الأرشيف الوطني لأسباب سياسية تتعلق برؤية قاصرة ترى أن تاريخ الدولة العراقية يجب أن يبدأ بها، أي منذ وصول الحكم الحالي إلى سدة السلطة”.
استرجاع الأرشيف
من جانبه، يقول رئيس تحرير جريدة أوروك، التي تصدر عن وزارة الثقافة العراقية علي جبار عطية، إنه ولأسباب شتى منها سياسية ومادية واعتبارية، لا يوجد في الوقت الحاضر -على حد علمي- عمل مؤسسيّ مبرمج لاستعادة الأرشيف السمعي والبصري المفقود أو المسروق من التراث العراقي.
وفي حديثه مع الجزيرة نت يفيد عطية بأن هناك الكثير من المواد نجح العراق في تسويقها إلى الدول العربية قبل غزو الكويت عام 1990، ومنها مسلسلات درامية رصينة وبرامج تعنى باللغة العربية ما زالت تعرض في الفضائيات العربية، وهذه يمكن استرجاعها بإعادة شرائها، وهناك بعض المؤرشفين داخل العراق وخارجه يحتفظون بتسجيلات نادرة للغاية، وهم مستعدون للتعاون مع المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية في ذلك.
وحول الإجراءات اللازمة لمنع تكرار هذه الخسارة الكبيرة في المستقبل، يقترح عطية القيام بنسخ مواد الأرشيف بعدة نسخ، وتوزيعها على أماكن محصنة وآمنة تعامل معاملة الاحتياطي النقدي بالعملة الصعبة والذهب في البنك المركزي العراقي، كما تجري الاستفادة من مواقع التواصل الاجتماعي لبث الأشرطة المهمة لتكون في متناول عدد كبير من الجمهور.
ويعرب عطية عن اعتقاده بأنه لا يكفي تخصيص اليونسكو ليوم واحد في العام للتنويه بأهمية هذا الأرشيف، إنما يجب أن يكون هناك عمل منظم على مدار العام لأرشفة التراث الثقافي غير المادي أطول مدة ممكنة.
محاولات متواصلة
وكانت المحاولة الأولى لجمع الأرشيف عندما قامت لجنة مشكّلة من القائمين على تلفزيون العراق عام 1976، بإجراء مسح شامل لكلّ المواد السّردية التي حوّلت إلى مواد إعلامية، وفق أستاذ علوم الاتصال والإعلام المساعد الدكتور علي مولود فاضل.
ويوضح فاضل للجزيرة نت أن موقع الإذاعة والتلفزيون العراقية في منطقة الصالحية ببغداد، والذي أسسته شركة يابانية، بالقرب من نهر دجلة؛ جعله عرضة للمياه الجوفية وحتى الفيضانات، وهذا كان مدعاة لضياع الكثير من الأرشيف؛ نتيجة الرطوبة والغرق وحتى التلف، فضلا عن تعرض المبنى للقصف خلال حرب الخليج الثانية.
ويتابع بأن المرحلة الثانية من محاولات الحفاظ على الأرشيف الإذاعي والتلفزي، جرت قبيل غزو الكويت، عندما أسس (قسم المكتبات التلفزيونية) التابع لتلفزيون العراق حينها وبعد أن دخل قلة من المتدربين للعمل على حاسوب صخر؛ بغية إجراء أرشفة كاملة للمواد المعروضة في التلفاز.
وفي ثالث محاولة، -بحسب فاضل- عندما أسست شبكة الإعلام العراقي، قبل 5 سنوات، المركز الوثائقي الوطني؛ بهدف استعادة الأرشيف والعمل على الأرشفة البصرية على المستوى الوطني.
ويعرب أستاذ علوم الاتصال والإعلام عن تفاؤله بوجود فرص كبرى تتمثل في إمكانية إطلاق مبادرة استرداد الأرشيف العراقي المرئي والمسموع، خاصة مع وجود العديد من الشخصيات التي عاصرت البدايات الأولى للتلفزيون العراقي، أو ذويهم، أو الشخصيات الفنية والروّاد والهواة الذين يحتفظون بالكثير من الأرشفة المهمة.
ويشدد فاضل على ضرورة تدشين حملة وطنية فعلية، ترعاها الدولة وتتبناها المؤسسات المعنية، لإعادة تشكيل واسترجاع وترميم هذا الأرشيف الماكث على جهود إبداعية جبارة.