570 قبيلة ذات أصول عربية وأفريقية تتوزع على امتداد الجغرافيا و 57 مجموعة عرقية و114 لغة مكتوبة
الرحلة داخل السودان البلد المترامي الأطراف، قد تكون أشبه برحلة بين أقاليم ومقاطعات وجهات تتشابه وتختلف في وقت واحد. فالسودان بلد متعدد الثقافات نتيجة المكونات الإثنية والاجتماعية والثقافية، يسكنه العديد من القبائل ذات الأصول العربية والأفريقية تتوزع على امتداده الجغرافي بين مدنه وقراه المختلفة. وهي تشتهر على اختلافها، بالكثير من العادات والتقاليد التي شكلت موروثه الثقافي المتنوع، والذي استمد أيضاً الكثير من ملامحه من الدين الإسلامي، فشعبه في غالبيته يمتاز بالطبيعة المحافظة والتدين العام. ارتبط الكثير من العادات والتقاليد السودانية بالمناسبات الدينية مثل شهر رمضان وعيدي الأضحى والفطر، والمناسبات الاجتماعية الخاصة مثل الزواج والمآتم والختان وخلافها.
يبلغ عدد القبائل في السودان حوالى 570، تنقسم إلى 57 مجموعة عرقية على أساس الخصائص الإثنوغرافية والثقافية واللغوية، وتتحدث 114 لغة مكتوبة ومنطوقة، ففي شماله يوجد العديد من القبائل مثل الحلفاويين، المحس، الدناقلة، البديرية، الشايقية، المناصير، الرباطاب، الحسانية، والميرفاب. بينما تقطن وسطه قبائل الجعليون، الجموعية، العبدلاب، المغاربة، البطاحين، الشكرية، رفاعة وغيرها. أما شرقه فتسكنه قبائل البشاريون، الهدندوة، البني عامر، البجا، الأمرأر، والعبابدة وغيرها. وفي غربه قبائل الكواهلة، الهواوير، الكبابيش، الدواليب، الحمر، الحوازمة، المسيرية، الرزيقات، الزغاوة، البرتي، الفور، المساليت، وغيرها. في حين تشمل قبائل جنوب السودان الجديد القبائل نفسه التي تقطن الولايات المجاورة في جنوب كردفان، وجنوب دارفور، وجنوب النيل الأبيض والنيل الأزرق، وتشمل قبائل التعايشة، والبقارة، والهبانية، والنوبة وغيرها.
الثقافة الفرعونية
نبدأ رحلتنا مع التراث الثقافي السوداني، الذي يحفل بالكثير من المكونات التي تمثل أنحاءه الجغرافية المختلفة من خلال استعراض بعض الملامح والنماذج في الجزء الشمالي من البلاد، وبالتحديد القبائل النوبية كالحلفاويين، والمحس، والدناقلة، حيث أن الثقافة الفرعونية القديمة، حاضرة في جوانب من عادات النوبيين، مثل ارتباطهم الوثيق بالنيل. فهم يذهبون إليه في مناسباتهم الاجتماعية من زواج وختان ووضوء وما شابه، حيث يبتغون البركة والحفظ. ويقال إن هذه العادة مأخوذة من أجدادهم الفراعنة القدماء وبالتحديد من حادثة إلقاء والدة النبي موسى عليه السلام له في النهر على تابوت خوفاً عليه من فرعون. كما أن هناك عادة تسمى “الجرتق”، عبارة عن تتويج العريس في ليلة زفافه لعروسه، وفيها الكثير من الطقوس المعقدة، مثل أن يكون للعريس وزراء من أصدقائه أو أقاربه، محاكاة لوزراء الملك. وعادة الجرتق هذه مأخوذة من مراسم تتويج الملوك عند اعتلائهم العرش، وهي وإن كانت نوبية أصيلة إلا أنها منتشرة في أنحاء السودان الآن وتمارسها معظم القبائل، ومراسم الزواج عندهم في السابق، تستمر أياماً طويلة تمتد في بعض الأحيان إلى 45 يوماً.
والنوبيون يهتمون كثيراً بالغناء في كل مناسباتهم الاجتماعية بلغتهم ولهم إيقاعات شهيرة عرفوا بها هي “الجابودي” و”الدليب” و”السيرة” وهي حماسية، ويستخدمون آلة الطار الإيقاعية والطنبور الوترية، وفي الأتراح غناء، يسمى “المناحة”، يعددون فيه مآثر الميت وفضائله مع مصاحبة الإيقاع بالضرب على آلات القرع، إلا أنه اندثر الآن. ولهم أكلات شهيرة عرفوا بها وأبرزها القُرًّاصة، فطيرة سميكة تصنع من دقيق القمح، وهو الغذاء الرئيس لهم، إلى جانب التمور، حيث يُعتبر من أجود الأنواع في السودان. كما أن النخيل عندهم من مظاهر الاعتزاز اجتماعياً، وكل من يملك أشجاراً منه يعتبر من علية القوم. كما أن لهم أكلات يشتهرون بها مثل “التركين” و”الملوحة” و”الفسيخ”، وهي السمك المملح يخزن في براميل كبيرة فترة طويلة. لديهم رقصات شعبية متميزة مثل رقصة الحلفاويين يقوم بتأديتها الرجال والنساء معاً، تلبس النساء فيها الزي الشعبي الذي يعود لقبيلتهن، ويسمى “الجرجار”. وهنّ نوبيات ينفردن بأثواب الجرجار والعباءة السوداء، أما رجالهم فيرتدون الجلابية والعمامة على الرأس والملفحة.
القهوة والسيف
في شرق السودان نجد أن قبيلة البجا تحرص على تزويج أبنائها في سن مبكرة، لأسباب عدة منها الحفاظ على تقاليد الأسرة وحفظهم من الانحراف وعدم ترك الخيار لهم في الزواج من غير بنات أعمامهم أو بنات الأسرة، فضلاً عن الإنجاب المبكر حرصاً على قوة القبيلة وكثرتها. ويتم أغلبها بين الأهل، ونادراً ما تكون خارج الأهل، وإذا كانت الزيجات من الخارج يتم التواصل مع أبي العروس عن طريق عمدة القبيلة، ولا يتواصل الأهل مباشرة حتى لا يحصل رفض. فللعمدة مكانة كبيرة وخاصة، وعند الموافقة، يتم الاتفاق على كل شيء. تبدأ إجراءات العرس، التي تشمل حفلة حناء للعريس يومين في المساء، ويأتي يوم السنكاب وهو من أهم الطقوس، وعمله بطريقة معينة من سعف النخيل، تربط به حبال سبع مرات في بيتي العروس وأهل العريس، وتحمله السيدات، وعندما يقتربن من المكان تتعالى زغاريدهنّ.
ويقتضي العرف أن تطوف والدة العريس ومن معها حول منزل الزوجة وهي على بعيرها، يزغردن إعلاناً للفرح والابتهاج، ثم يحدد مكان المنزل، على أن يقوم العريس بإشهار سيفه ويطوف حوله، معلناً حمايته بيته وزوجته ثم يعد الطعام، ولا يتم السنكاب إلا لمن يتزوج للمرة الأولى.
أشتهر إنسان شرق السودان بحبه الشديد لتناول القهوة في أوقات مختلفة خلال اليوم فمنذ الصباح الباكر يكون الناس جميعاً مهمومين بتناول فنجان أو فناجين منه في جلسة ذات طقوس خاصة تصلح لتكون رواية تثير كثيراً من الدهشة والإعجاب، فعادة ما يبدؤون يومهم بها ويختمونه أيضاً. ومنذ القدم ظلت هذه العادة في شرق السودان ومناطق أخرى في غربه وشماله مكاناً يجتمع فيه حتى كبار القوم لينداحوا مع الحكايات والدردشة قبل أن يتفرغوا لأعمالهم. وتسمى الجلسة أو مكان التجمع في شرق السودان بحسب لهجة قومية “البجا” صاحبة الأكثرية في الإقليم بـ “سنكاب”.
من طقوس القهوة سواء الجلسة في المنزل أو أي موقع آخر، أن تكون الأرض مفروشة بالرمل ومرشوشة بالماء، مع وجود أدواتها المزركشة بالألوان، ومقاعد يطلق عليها “بنابر” منسوجة بسعف الدوم أو النخيل، ولا يزيد ارتفاعها عن الأربعين سنتمتراً مع مجموعة مقاعد صغيرة يسميها الناس “الطقاطيق”. ومن أدوات القهوة موقد فحم نباتيّ يسمى “كانون” مع قدح من الخشب يسمى قلاية أو مقلاة وهو الإناء الذي يحمّص فيه البن، و”فندك” أداة لسحنه يصاحبه بتعطيش قضيب من الحديد”، ثم إناء يسمى “الشرقرق” تحضّر فيه القهوة ثم مبخّر او مخبِر كما يسميه البعض كناية عن الأخبار، حيث كانت ومازالت عادة يستعمل فيها بخور التيمان المسبع المكوّن من سبعة أصناف من ضمنها ما يسمى الشب يبخّر بها من يعتقد أنه مسحور.
ولإنسان الشرق رقصات شعبية متميزة أهمها رقصة السيف، ولاتخلو مناسبة اجتماعية، بخاصة مناسبات الزواج والختان منها. ويمتاز البجاوى بالرشاقة وتطويع السيف المرن الذي يتخذ شكلاً مقوساً مع حركات جسده. كذلك يتميز إنسان الشرق بزيه المتفرد إذ ترتدي نسائهم الفوطة، ورجالهم السروال والصديري.
مجالس البرامكة
في غرب السودان نجد من أشهر قبائله البقارة، الهبانية، وأولاد راشد، وحزام، وأولاد حميد، والحوازمة بني سليم، والرزيقات، والتعايشة، وبني هلبة، والمسيرية، والفلاتا وغيرها. ويعيش معظم البقارة في كردفان والقليل منهم في دارفور التي تقع أقصى الغرب. وعلى الرغم من تفرق قبائل البقارة ظلت تحتفظ بكثير من العادات والتقاليد التي تربط بينها، وببعض السمات العربية، مثل اللهجة والثقافة والأسماء، مع الرعي والمسيار، وعادة البرمكة قرض الشعر إلى جانب الفروسية. كما هناك تشابه في الأشكال والأزياء بين بعض أزيائها والقبائل العربية، كالقميص والجبّة والمركوب والنعال وبعض أنواع الحلي الخاصة بالنساء كالأسورة والحجول والقلائد والزمام.
قبيلة المسيرية، يمثل الرعي العمود الفقري لنشاطها، مع الصيد والزراعة كمهنتين ثانويتين يمارسونهما في استقرارهم المؤقت. والرعي لها هو الترحال وتسمى مجموعاتهم المراحيل، وموسم الجفاف هو السبب في الرحيل جنوباً تعقباً للأمطار، ثم بعد هطولها تتم الهجرة شمالاً هرباً من الحشرات والأمراض لدرجة أن النشاط الاجتماعي والتزاوج يتم تبعاً لمواقيتها.
على الرغم من خصوبة الأرض لم يمارس المسيرية الزراعة لارتباطهم برحلة الحيوان وعدم الاستقرار لكنهم أحياناً يقومون بزراعة الدخن الغذاء الرئيسي لهم، وبعض أنواع الذرة، حتى الصناعات اليدوية ارتبطت بتلك الرحلات وتعتمد على خامات النبات والحيوان. فالمرأة هي التي تقوم بصناعة أدوات البيت وزينته من سعف وبروش وسراير حتى الأواني. أما الرجال فمن الطريف أنهم يحتقرون بعض المهن ولا يمارسونها مثل الحدادة وحائك الملابس “الترزي” الذي يسمونه الجكاكي وأم جكاكي، مع أنه يحيك لهم. كما يعتبر صيد الفيل من التقاليد الموروثة القديمة وارتبطت تجارة سن الفيل بالشهرة والربح وبمرور الزمن تحولت الدوافع الاقتصادية إلى قيمة اجتماعية، فصائد الفيل فارس وذو مكانة مرموقة مميزة عند شعراء القبيلة بخاصة “الحكامات”، ويتناوب على صيد الفيل خمسة فرسان، كل له مهنة محددة. ويحرصون على جلب النقارة وهي من أشهر آلات الضرب عند البقارة، تمثل طبولاً تعلن عن مناسبة ما وتصنع من تجويف جذوع الأشجار وجلود الأبقار ولها أجزاء عدة وأنواع مختلفة. وإلى جانب الصيد والنقارة هناك مجالس البرامكة لشرب الشاي وفق طقوس وقوانين محكمة وكل من يحيد عنها يطرد من المجلس ويسمى كمكلي.
وهنالك أيضاً قبيلة المساليت التي لديها عادات وأعراف قديمة ما زالت تحتفظ بها. فمثلاً في الزواج، تظل المرأة قابعة في بيت أمها ولا تذهب مع زوجها كما هو متعارف عليه، أنما تذهب إلى بيت زوجها بعد أن تنجب الطفل الأول أو الثاني، ومن الأسباب في هذا التقليد الغريب، أن هذه القبيلة ترى بأنه يجب أن تواصل المرأة في الإقامة في بيت أمها حتى تتعلم المسؤولية وتحمل الأعباء ثم تذهب إلى بيت زوجها.
ولدى قبائل غرب السودان عدد من الرقصات الشعبية منها رقصة النقارة، تشتهر بها قبيلة المسيرية، ويتم تصنيع الآلة من جذوع الأشجار المجوفة من الداخل، وشكلها مخروطي، فيه فتحة واسعة في الأعلى، وفتحة أخرى ضيقة تكون في الأسفل، ويتم الشدّ عليهما بواسطة الجلد باستخدام الأساور، وهي في جميع المناسبات والاحتفالات. وهناك رقصة الكمبلا التي يعود أصلها إلى قبائل عُرفت باسم الميري، تمارس في منطقة جبال النوبة في جميع المناسبات، التي ترتبط بعلاقة بين الأسبار والحصاد وطقوس المطر، ويلبس الراقصون فيها قرون الثيران؛ دلالة على مصدر القوة والأجراس والخلاخل في أقدامهم، مع ضرب الأرض بواسطة أرجلهم بقوة كبيرة، لتصبح الأصوات متتالية عالية وقوية. كذلك يتميز غرب السودان ببعض الأزياء مثل ثوب الزراق يصنع من القطن الأبيض. والزي القومي بالنسبة لهم الشال والعمامة والجلابية للرجال والثوب السوداني الأسود للمرأة.
التفاخر بالأبقار
باتجاهنا إلى جنوب السودان الجديد، الذي أصبح بعد انفصال دولة جنوب السودان عام 2011، يتشكل من قبائل تسكن مختلف الولايات المجاورة له، فضلاً عن المشتركة مع جنوب السودان والذي تتعدد أشكال موروثاتها وعاداتها ما بين قبيلة وأخرى، لكن في مجملها تختلف تماماً عن موروثات الشعوب العربية، عدا المهور، إذ تبرز الأبقار والأغنام كعامل أساسي ورئيسي لإتمام مراسم الزواج. وتمتلك تلك القبائل ثروة حيوانية كبيرة وهي واحدة من الأيقونات الثقافية المهمة في حياة أفرادها، حيث يحتفظون بها ليس لسبب اقتصادي بل للتفاخر والمبادلة في الزواج ومعاملات أخرى. وتتنوع تقاليد الأعراس والمهور من واحدة لأخرى بحسب المناطق، فهناك التي تتبادل مهور الأبقار وهي شرق الإستوائية ووسطها، وأخرى تعتمد على الأغنام وهي غربها، لكنها تتفق جميعاً في الزواج المبكر للفتيات غير الموثق قانوناً، كما أن جميعها لا تتقيد بعدد محدد من الزوجات. وتبرز قبيلة الدينكا، كأكبر القبائل الرعوية، وتتحدد قيمة المهر لديها بحسب جمال المرأة بناء على طولها وبكارتها، ولا تتزوج التي تنتمي إلى هذه القبلية بزوج من خارجها، لزيادة نسلها، لكن يمكن لرجالها ذلك من قبائل أخرى. تعتبر الدينكا الأعلى مهراً بين القبائل حيث تتبادل ما يقرب من 500 بقرة للزيجة الواحدة. وهنالك طقس مهم لابد من القيام به، وهو الرواك، إذ يقوم الشاب باختطاف من ينوي الزواج بها قبل أن يتقدم رسمياً لأهلها، ويعيشان معاً حتى تحمل، ثم يأتي إلى أهلها لطلب الزواج منها.
هبة الدسوقي كاتبة وصحافية