في الأسبوع الماضي وقعت الولايات المتحدة عقوبات على وزير الخارجية الأسبق علي كرتي بحجة أنه عارض الاتفاق الإطاري وأسهم في إشعال الحرب وأعاق جهود إيقاف القتال. سبق ذلك في ٦ سبتمبر توقيع العقوبات على عبد الرحيم دقلو وعبد الرحمن جمعة من قادة الدعم السريع المحلول. وكانت اللائحة المشئومة قد بدأت منذ مايو بشركات تتبع للقوات المسلحة وأخرى تتبع للمليشيا المنحلة. وتتمثل هذه العقوبات في تجميد أرصدة المستهدفين بالولايات المتحدة وحظر التعامل المالي معهم ومنع حصولهم على تأشيرة لدخول الأراضي الأمريكية. وعلى الرغم من أن ذلك يعني انه لا أثر مباشر لهذه العقوبات على المستهدفين بها افرادا او شركات، اذ لا يتصور ان لأي منهم أصول في الولايات المتحدة أو أرب في الذهاب اليها، إلا انها بالغة الخطر على استقلال السودان وسيادته ووحدته الوطنية. فمن اين تستمد هذه العقوبات قوتها وفاعليتها؟ وماذا ينبغي ان يفعل السودانيون إزاءها؟ ذلك هو موضوع هذا المقال.
بدءا لا بد من القول ان القانون الدولي لا يقر هذا النوع من العقوبات الأحادية التي تصدر خارج إطار الأمم المتحدة، كونها مظهرا من مظاهر استخدام القوة لا يستند إلى الشرعية الدولية التي تمثلها قرارات مجلس الأمن. فقد اصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة احدى وعشرين قرارا ترفض مثل هذه العقوبات. وظل الاتحاد الاوروبي يرفض مطلقا وبشكل روتيني توقيع أي عقوبات أحادية على دولة عضو فيه لأنها تعتبر تحديا ل “الاستقلال الاستراتيجي” و “السيادة الاقتصادية” للاتحاد الاوروبي. وحين اصدرت الولايات المتحدة عام ١٩٩٦ قانون هيلمز بيرتون الرامي لفرض عقوبات على حكومة كاسترو في كوبا ولدعم حكومة انتقالية في ذلك البلد عارضت كوبا ذلك القانون، وتقدمت في يونيو ٢٠٢١ بمشروع قرار للجمعية العامة للامم المتحدة لرفضه. وقد صوتت لصالح ذلك المشروع ١٨٤ دولة، ولم تقف ضده الا الولايات المتحدة ودولة واحدة أخرى.
وحيث إن اصدار هذه العقوبات بواسطة الولايات المتحدة الامريكية على السودان يحتاج الى قانون مماثل لقانون هيلمز بيرتون، فقد اصدر الكونغرس منذ أكتوبر من العام ٢٠٢٠ قانونا سماه “قانون التحول الديمقراطي في السودان” يوفر حماية للوثيقة الدستورية وطرفها المدني “قحت”. اذ جاء في ذلك القانون انه “بمجرد أن يتولى زعيم مدني رئاسة مجلس السيادة، يجب على وزير الخزانة ووزير الخارجية (الأمريكيين) التعامل مع المؤسسات المالية الدولية وغيرها من الدائنين الرسميين الثنائيين لدفع الاتفاق من خلال مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون (HIPC) لإعادة هيكلة أو إعادة جدولة أو إلغاء الديون السيادية للسودان”. وحيث إن ذلك القانون قد صدر لمصلحة “قحت” والقائمين على الامر حينها، فقد هللوا له ورحبوا به ظانين انه يوفر ضمانة أبدية لبقائهم في السلطة. وهكذا تعاموا عن كل ما في ذلك القانون من تدخل صريح في الشأن السوداني الداخلي. والجميع يذكر كيف ان حكومة “قحت” قد ظلت مشدودة بأكملها ليوم وليلة في انتظار “تغريدة ترامب”! غير أن ذلك كله ذهب ادراج الرياح. فحين اقدم الجيش على ما قام به في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ لم يجدي ذلك القانون فتيلا. فقصارى ما قامت به أمريكا هو ايقاف تنفيذ برنامج اعادة هيكلة الديون الذي كان متعثرا أصلا، وتعليق المساعدات الشحيحة الموعود بها والتي ما كانت لتغني شيئا. اما فكرة المحافظة على الوثيقة الدستورية من ان تعلق او تنتقص او حمل الجيش لنقل رئاسة المجلس السيادي الى “قحت” فذلك مالم يدر بخلد أمريكا. فهي تعلم أنها انما تناور بذلك القانون مناورة، ومن ثم لا تدفع بالأمور الى مدى بعيد. فهو قانون كسيف العشر يصلح لأن تهزه لا ان تضرب به.
ومثلما ان “قانون التحول الديمقراطي في السودان” يشبه قانون هيلمز بيرتون المشار اليه أعلاه، فانه يشبه قانونا آخر يتعلق بايران. واذا نجحت كوبا في استصدار قرار من الجمعية العامة يرفض قانون هيلمز بيرتون ويكشف عن عدم شرعيته، فقد نجحت ايران في مقاضاة امريكا امام محكمة العدل الدولية بشأن بعض آثار القانون الأمريكي المتعلق بها. ففي القضية المسماه Certain Iranian Assets قررت محكمة العدل الدولية في مارس الماضي ان الولايات المتحدة قد أخلت بالتزاماتها بموجب القانون الدولي واتفاقية الصداقة المبرمة بين البلدين. بل ألزمت المحكمة أمريكا بتعويض ايران.
في المقابل فاننا نتعامل مع “قانون التحول الديمقراطي في السودان” وكأنه تنزيل من التنزيل، او كأنه ضربة لازب لا سبيل الى النجاة منها. فنحن لا نكتفي بعدم مقاومته فحسب وانما نرحب بالعقوبات التي تصدر تنفيذا له، خاصة حين يكون المستهدف بها خصم سياسي لنا. وتغيب عنا عدم الشرعية الواضحة لذلك القانون. وننسى انه مجرد أداة سياسية لامريكا تحقق به بعضا من أغراض سياساتها الخارجية. بل ننسى انه لا علاقة لذلك القانون مطلقا بالتحول الديمقراطي في السودان، اللهم الا اذا كان المقصود بعبارة التحول الديمقراطي تمكين عملاء أمريكا وازلامها من حكم السودان دون انتخابات. فما هو اذن الهدف الذي ترمي اليه أمريكا من “قانون التحول الديمقراطي في السودان” وما هو الهدف من العقوبات التي تصدر بموجبه! لنتعرف على ذلك دعونا نركز تحديدا على العقوبة الموقعة على علي كرتي.
ان الولايات المتحدة تعلم ان كرتي لم يكن طرفا في اشعال الحرب. ولا اظن ان السرد الدقيق ليوميات الأيام الخمسة الأخيرة للبرهان وحميدتي، الذي تفضل به مناوي مؤخرا، كان غائبا عليها. ويتضح من ذلك السرد التفصيلي انه لا دور لكرتي من قريب او بعيد في اشعال الحرب. اما عدم التوقيع على اتفاقية سلام مع المليشيا المحلولة، فان الولايات المتحدة تعلم علم اليقين ان سببه ليس لي كرتي يد البرهان. وانما لأن الجيش يرفض رفضا جازما ان يتقاسم مهمته الدستورية مع أقوام ثبت انهم لا يدينون بالولاء للسودان وطنا، ولا يعرفون للجندية شرفا. ويرفض البرهان التوقيع لأن الشعب يأبى ان يكلف بحماية أعراضه من استباحوها، ولا يرضى ان يقيم على حرمة دمائه من أهدروها، ولا يطمئن أن توكل حراسة أمواله لمن نهبوها. ليس للبرهان في هذا رأي، فضلا عن أن يكون الرأي فيه لعلي كرتي. أما القول إن كرتي عارض الاتفاق الإطاري فذلك هو المضحك المبكي. إذ من هو الذي لا يعارض ذلك الاتفاق في السودان. ومتى كان رفض اتفاق سياسي جريرة تستوجب العقاب. أن أمريكا ليست بغبية لكنها تتغابى. فهي إنما ترجو من معاقبة كرتي أن تمنع الإسلاميين من العودة للمشهد السياسي، وذلك بأن تحول بينهم وبين اقتطاف ثمرة وقوفهم مع شعبهم ومساندتهم لجند بلادهم. وهي إنما ترجو بذكر الإطاري أن تنعش ذلك الاتفاق بعد أن نسيه الناس وتحصنه وتجعل له قداسة. ومن ثم تنعش قحة وتحية العملية السياسية القديمة التي كانت بين قيادة الجيش (دون قواعده) وبين قوى الحرية والتغيير (دون بقية الشعب). وهي إنما ترجو بمعاقبة كرتي أن تحذر الجيش من أن يتخذ أي عملية سياسية تمكنا للإسلاميين أو تقود لانتخابات قد تأتي بهم يوما. هذه هي مقاصد الولايات المتحدة التي لا تعلنها من العقوبات. فليس ما ترمي إليه أمريكا هو تجميد أرصدة كرتي ببنك تشيز مانهاتن، وليس هدفها منع كرتي من أن ينعم هذا العام بشتاء دافئ بشواطئ فلوريدا. هذه هي الخطة. غير أن الأخطر منها هو ما يترتب على نجاحها.
فإذا نجحت هذه الخطة فإن أولا ما يكون هو أن تستعيد تلك الدويلة التي غض السودان الطرف تماما عن دورها في تسعير الحرب فرصتها في تشكيل حاضر السودان ومستقبله. فتجيء وفي ركابها فصائل “قحة” منتصرة مظفرة. وثان ما يكون هو أن يتم إدخال الجيش نفسه في دائرة العقوبات الأمريكية. فبعد أن فشلت خطة تفكيكه بانقلاب المليشيا يتم تكبيله بالعقوبات. فيمنع عنه السلاح الحديث وتمنع قطع الغيار وربما يحظر الطيران. ألا ترى أن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا والنرويج قد طلبوا الأسبوع الماضي من الأمين العام للأمم المتحدة فتح تحقيق في “فظائع” ارتكبت في السودان أثناء هذه الحرب. لا ينبغي لأحد أن يشك في أن الفظائع التي يحقق فيها هي بالأساس المنسوبة للجيش. ولا ينبغي لأحد أن يتوهم أن قائمة مرتكبي هذه الفظائع تختلف عن قائمة الإحالة للمعاش التي كان سيصدرها حميدتي في اليوم الأول لنجاح انقلابه. ولا شك في أن تلك القائمة لن تعلن كلها في يوم واحد، وإنما بالقطارة. وذلك لابتزاز الكثير وتركيعهم. فقد أعلنت وزارة الخزانة دون مواربة أو خجل في بيان معاقبة كرتي أن الغرض من العقوبات هو “تقويم السلوك”، وليس توقيع الجزاءات. فإذا كانت من مقاصد معاقبة كرتي تخويف آخرين من دونه، فستكون تلك من مقاصد عقوبات الجيش. وثالث ما يكون هو تطويل أمد الحرب وفقا لما يجري إعداده حاليا في أم جرس مما كشف عنه تقرير صحيفة نيويورك تايمز الأخير. فما يجري في أم جرس نشاط متعاظم طويل النفس يعمل بتؤدة لاستنساخ الحالة الليبية في السودان ولاستدامتها لعقود قادمة. إذ حين تتلقى مليشيا الدعم السريع الأسلحة النوعية الجديدة، وحين تنجح مساعي عبد الرحيم دقلو في ترتيب صفوف قواته في دارفور، وحين يتمكن من تجديد حيوية خطوط الإمداد البشري القادم من النيجر وتشاد، فإن ذلك يجعل ما هو ممكن للجيش اليوم من المستحيلات غدا. وهكذا يتطاول أمد الحرب وتضعف الدولة المركزية وتنهار الولايات واحدة تلو الأخرى. ألم تسمع وزير المالية وهو يقول انه لم يعد قادرا على دفع المرتبات الاتحادية او تقديم الدعم المركزي للولايات. فهل تظن بعد حديثه ان الحالة الراهنة قابلة لأن تستدام لستة اشهر أخرى! ألا تقرأ بين سطور هذا الكلام ان الميليشيا تقترب من ترسيخ اقدامها في الخرطوم لجعلها عاصمة لها. وألا ترى ان الولايات المتحدة، الباشا الغشيم، لن يقول لجداده كر. اذ لو أراد ان يقول ذلك لفعل، ولما كانت ام جرسا. الا ان الباشا الغشيم مشغول باللعب مع الكبار ولا يعنيه ما يدور في ام جرس او ما يحيق بالسودان ما دامت مصالح الباشا الكبرى مرعية.
اذن لا يجيئ أثر هذه العقوبات من قوتها وانما يجيئ من ضعفنا. انه أثر يحدثه خنوعنا لهذه العقوبات واستسلامنا لأمريكا تفعل بنا ما تشاء. الم تر انه لم يدن احد قط، حكومة كان او حزبا، العقوبات التي صدرت ضد كرتي او حتى ضد شركات الجيش! فالكل يتوارى وينشد السلامه. الم تسمع بذلك الكاتب الكبير وهو يعلن ان هدف العقوبات هو “ان تؤثر على القرار” لصالح السلام. هذا وكأن التأثير على قرارات الدول من اطراف خارجية امرا مشروعا ومقبولا. وألم تسمعه يقول ان العقوبة التي وقعت على عبدالرحيم كانت “جرس انذار للجيش” لجعله يتعامل مع مفاوضات السلام بجدية حتى يتجنب عقوبات قادمة. يا للهول! اذا كان هذا ما تقوله نخبة كتابنا فماذا تركوا للناطق الرسمي للخارجية الامريكية! ما هي وسيلتنا اذن لتجاوز حالة الخنوع هذه.
اذا اردنا ان نبطل هذه العقوبات ونحبط ما يراد بنا فما علينا الا ان نرفض التدخل الأمريكي في شئوننا جملة واحدة. فلا نرضى ان تعاقب امريكا كرتي او حتى عبدالرحيم. فهي ان فعلت ذلك اليوم وقبلناه منها فستعاقب غدا الفريق ياسر العطا ومبارك الفاضل. وتعاقب بعد غد الفريق محمد عثمان الحسين والتجاني السيسي. ثم تعقب بالفريق خالد الشامي والناظر ترك. فكلهم قاوموا الاطاري. وكلهم رفضوا التسوية. بل كلهم اشعلوا الحرب كما ترى امريكا. وحينها لن نتمكن من ان نعترض او نحتج. اذ سبق لنا قبول العقوبات الامريكية بخضوع تام ودون تضجر. ثم علينا ان نري أمريكا منا ما يغيظ. فماذا يضير السودان ان يراهن على التعددية القطبية الآخذة هذه الايام في التقوي في الساحة الدولية. فاذا القينا التحية بالانجليزية تارة، نلقيها بالصينية تارة وبالروسية تارة أخرى. تفعل ذلك السعودية وتفعله اثيوبيا وتفعله يوغندا. فما زادهم ذلك لدى أمريكا الا رهبة. بل اذا علمت أمريكا منا ذلك فسيهزها من رأسها الى القدم. فأمريكا اليوم وجلة تترقب، فهي في حالة تسابق محموم مع قوى عظمى لرسم مناطق النفوذ الجديدة في عالم متعدد الأقطاب. ويقلقها جدا ان يسعى البعض للانتقال من دائرتها الى دائرة غيرها. هذا على المستوى الدولي.
اما على المستوى الإقليمي، فالسودان بحاجة لأن يأوي الى ركن شديد. نعم خرج البرهان في جولة إقليمية نادرة. لكنه عاد منها وليس في جعبته إلا النذر اليسير. فما حصل عليه لم يحدث انقلابا في موازين القوى في ساحات القتال التي تتسع يوما بعد يوم. ولم يحدث فرقا في معيشة السودانيين الدنكة ودولارهم اللاهث. وما ذلك إلا لضعف موقف السودان واهتزازه. فإذا أردنا موقفا قويا من تركيا، وإذا أردنا موقفا قويا من قطر، وإذا أردنا موقفا قويا من السعودية، فإنه علينا أن نتخذ موقفا سودانيا قويا. ولنبدأ بكسر الصمت المذل. فنشير ولو مرة واحدة بأصبع الاتهام إلى الدولة التي أحالت نهار السودان ليلا اسودا وجعلت حياة أهله جحيما. فإذا كان أصحاب الوجهة يستحون “ويتراقصون” ويضعون ألف ألف حساب لمسائل ليست من الأولويات، فكيف يرجون من الآخرين أن يتحمسوا للوقوف معهم أو مساندة مجهودهم الحربي. إنه هذا أو الطوفان. إنه هذا أو نقول يوما “أكلنا يوما أكل الثور الأبيض، وعوقبنا يوم عوقب كرتي”. ولات حين مندم.