1كنت قد كتبت مقالاً حول الاستراتيجية التي اتخذها الإسلاميون في مرحلة ما بعد التغيير الذي جرى في أبريل، تجدونه كاملاً طرف العم قوقل (الإسلاميون.. الاستراتيجية والتكتيك). كانت الاستراتيجية تتعلق بقبول التغيير وما يترتب عليه، ثم إعادة البناء. الشيء الذي يتطلب عدم الإنشغال بما يدور من صراعات وترتيبات حول السلطة في الفترة الإنتقالية، والصبر على موجة الكراهية العالية التي صاحبت التغيير والتي طالت كل ما هو إسلامي إضافة إلى المصادرات والتنكيل بعضوية الحركة الإسلامية، وتضمنت الاستراتيجية في بعداً آخر تمثل في مقاومة كافة أشكال العنف والانقلابات التي يمكن أن تحدثها أي تفلتات من عضويتها الغاضبة والمستَفَزة، ثم أخيراً انتظار حكم الشعب في الإنتخابات متى ما جرت.
2كانت تلك الإستراتيجية في تقديري صحيحة وقد سمحت بإعادة بناء التنظيم الذي تضعضع وكاد أن ينفرط بفعل الصراعات الصغيرة التي نهشت جسده وعصفت بنظامه. يمكننا أن نعتبر عملية إعادة البناء التي شهدتها الحركة الإسلامية في مرحلة ما بعد التغيير هي التأسيس الثالث الكبير الذي تشهده الحركة الإسلامية السودانية.
الأول كان بعد أكتوبر 1964م، والثاني بعد أبريل 1985م والثالث 2019م وهي الأهم، إذ جاءت عملية التأسيس الأخيرة في خضم أمواج من الكراهية والعداء والقهر والحصار والإقصاء والحرب الشاملة التي شنها الخصوم مما جعل الحركة الاسلامية تواجه إلى الآن تحديات شتى ومخاطر لا زالت ماثلة، لم تعرف الحركة مثلها في المرحلتين السابقتين.
3الآن بدأت الحركة الإسلامية العمل بتكتيك جديد، ولكن ضمن ذات الاستراتيجية المقررة أصلاً، ذلك بفضل فكرة توحيد منظومة القيادة التي أنهت الصراعات الصغيرة التي شقت بها الحركة الإسلامية في فترة ما بعد المفاصلة وحتى إلى ما بعد التغيير.
4التكتيك الآن كما يبدو من تحركات قيادة الحركة الإسلامية بعد تجاوز مرحلة إعادة البناء الداخلي، هو الخروج إلى الشعب بغرض إحداث تموضع جديد في الساحة السياسية، وتثبيت وجود الحركة في الشارع. وساعد في ذلك الخروج الذي ابتدأ قبل الحرب وتصاعد بعدها، وذلك نظراً لعدة عوامل أهمها الفراغ السياسي العريض الذي اكتنف الساحة السياسية بعد التغيير مما عصف بكل مؤسسات الدولة وأضعفها وسمح بفوضى غير مسبوقة طالت كافة مؤسساتها بسبب عدم الخبرة في إدارة الدولة في بداية الفترة الانتقالية، ثم تلهُّف القوى السياسية التي تسيدت الموقف بعد التغيير للإقصاء والانتقام من خصومها السياسيين مما قاد لنسف كافة شعارات الثورة التي أُفرغت من مضمونها وأصبحت هزوءاً.
5العامل الثاني بلا شك هو الحرب التي فُرضت على البلاد من عصابات الجنجويد وتخبأت خلفها قوى الإطاري دعماً وتأييداً للجنجويد. وهي ذات القوى السياسية التي اتخذت من الحركة الإسلامية عدواً لها منذ اليوم الأول للتغيير. أعلنت الحركة موقفها من الحرب باكراً منذ اندلاعها وبعد نداء القائد العام للجيش سارعت عضوية الحركة لحمل السلاح والانخراط في صفوف المقاتلين ضد المتمردين الجنجويد الشيء الذي أكسبها احترام الشعب الذي رأى حزباً سياسياً يحرّض عضويته للدفاع عن عرض وشرف حرائر السودان، وهو ما لم تفعله أي قوى سياسية أخرى بطول البلاد وعرضها، في وقت ظهرت فيه قوى داعمة للجنجويد تختبئ تحت لافتة (لا للحرب) وآخرون إدعوا الحياد، ومعشر ثالث لاذوا بالصمت المريب، ثلة من الأحزاب الوطنية والجبهات اتخذت موقفاً مشرفاً إلى جانب القوات المسلحة إلا أنها لم ترقَ لاستنفار عضويتها للقتال إلى جانبها.
6هكذا أصبح سهلاً على الحركة الإسلامية العودة إلى حواضنها الشعبية لمخاطبتها وحشدها، والملاحظة هنا أن الحركة إذ تدلف لخروجها الثالث، أكدت على ذات الاستراتيجية أنها لا ترغب ولن تقرب السلطة إلا عبر صناديق الاقتراع وهو موقف صحيح لابد من تأكيده باستمرار حتى لا يُفهم أن مواقفها تجاه دعم القوات المسلحة محاولة انتهازية للعودة إلى سدة الحكم عبر تسلّق موقفها في الحرب. هذا الموقف أكسبها احترام الجيش والإقليم الإفريقي وبدأت عبارة (ما عدا) تتلاشى تدريجياً من القاموس السياسي السوداني، بل إن الحركة الآن مدعوة للمشاركة في اجتماعات القوى السياسية في أديس أبابا في 25 أغسطس الجاري.
7الخروج الثالث للحركة لن يكون بلا تحديات، وأول هذه التحديات هو موقف الأعداء الذين تخصم الحركة بوجودها وفعاليتها في الساحة السياسية من رصيدهم، إذا تبقى لهم أي رصيد بعد موقفهم المخزي من الحرب. ونلاحظ الضجة التي أثارها خصومها في أول ظهور علني للحركة لمخاطبة عضويتها، فاستكثروا عليها ذلك الخروج واتخذوا من مخاطبة بعض القيادات التي خرجت من السجن الذي بقي فيهم بعضهم أربعة أعوام بلا اتهامات، سبباً للهجوم على نشاط الحركة الإسلامية. الحركة وهي تواجه تحدٍ وجودي لا سبيل لها سوى المدافعة بشراسة واستنفار جماهيرها بل وبتحشيد جماهير الشعب لا لمقابلة التحديات التي تواجهها إنما لمجابهة جملة المخاطر التي تحيط بالوطن. الأولوية الآن بالنسبة للحركة السياسية السودانية كلها هو إنهاء التمرد ومنعه من التموضع في الساحة السياسية بسحقه تماماً وتجفيف كل مصادر قوته وفضح حلفائه. ويجب أن تلعب الحركة الإسلامية بما لها من خبرات وكوادر دوراً مركزياً في ذلك. ولكن بعد سحق التمرد يجب أن لا تتوانى في الخروج العلني للساحة السياسية عبر الندوات واللقاءات الجماهيرية، فإن ذلك يزيد من حيوية الساحة السياسية ويحصن الحركة نفسها من دعوات الإقصاء.
8 لاحظت أن بعض أعضاء الحركة الإسلامية في نقاشاتهم في الأسافير لا يزالون يعانون من هشاشة نفسية بفعل الإرهاب الذي مارسة الخصوم عليهم طيلة الأربعة أعوام الماضية في مرحلة ما بعد التغيير، مما جعلهم يتبنون خطاً انهزامياً بدعوتهم أن تلوذ الحركة بالصمت والشلل التام وتتوقف عن المدافعة بانتظار غودو، فبحسب رأيهم أي تحرك الآن للحركة سيستفز خصومها ويعرضها للمضايقة والقمع، والسبب الثاني يتخوفون من أن الخروج العلني في ظل الأجواء التي لا زالت مشحونة ضد التيار الإسلامي ستزيد الضغوط الخارجية على السلطة الحاكمة ويجعلها تتخذ إجراءات ضده، باعتبار أن مجرد ممارسة الحركة لحقها فى التعبير يعني محاولة لعودتها للسلطة.!!. في تقديري يجب أن يخرج هؤلاء من وضع الهشاشة تلك التي سجنوا أنفسهم فيها زمناً طويلاً وخاصة أن خصوم الحركة لن يتركوها حتى لو صمتت أمد الدهر، ثم منذ متى كانت الحرية تُطلب من الحكام أياً كانوا، كانت الحركة الإسلامية دائماً تنتزع حقها في ممارسة العمل السياسي الذي هو ليس منحة بحضورها وتأثيرها وخطابها الفعّال.
ثم إن السلطات أو الحكومة التي تود أن تعتقل أو تحد من حركة جماعة سياسية بناءً على تخرصات خصومها، ليست جديرةً بالاحترام وينبغي أن يتم مقاومتها هى نفسها حتى لا يتم صناعة ديكتاتور جديد.إذا كان الجيش أو المؤسسة العسكرية تود أن تضع قيوداً على الساحة السياسية لأن العالم الخارجي يضع (فيتو) على فصيل سياسي وطني يعمل سلمياً داخل وطنه، إذن فليتقبل الجيش تمرد الجنجويد إذا كان أصلاً سيُذعن لقهر وضغوط الجنجويد العالمي الذي يسعى لفرض أجندته السياسية، وينزع من الوطن سيادته وقراره المستقل بتحديد من يحق له الممارسة السياسية داخل وطنه، وإذا كان الشعب سيرضى بفرض أجندة الأجنبي وعملائه، إذن فيما كانت معركة الكرامة.؟