وكالات : كواليس
26/7/2023–|آخر تحديث: 27/7/202308:42 PM (بتوقيت مكة المكرمة)
وقّع الشاعر القاص حسين جلعاد -أول أمس الاثنين- مجموعته القصصية “عيون الغرقى” في ندوة بالمكتبة الوطنية بالعاصمة الأردنية عمّان، وهو العمل الأدبي الثالث للصحفي الأردني بعد مجموعتيه الشعريتين “العالي يصلب دائمًا” و”كما يخسر الأنبياء”، وشارك فيها الناقد محمد عبيد الله والصحفي محمود منير.
ثمة هاجس واضح بالمكان والزمان يظهر في تفاصيل المجموعة، خاصة عناوين القصص التي إما أن تشير إلى زمان (المساء والخريف) وإما إلى مكان (الإسفلت والبيت والبحر). فعناوين جلعاد محملة بالمعاني سواء أكانت في محاولته “موسقة” الماضي أو ترتيبه في تتابع ما ووضع منطق رتميّ لتذكره، أو بالاستخدام القصدي للغة تعيدنا إلى عناوين الكتب الرومانسية القديمة، من دون أن ينسحب ذلك على متن القصص نفسها.
والزمان حاضر بقوة في المجموعة وربما ليست مصادفة أن يتضمن عنوان النص الأول “أسرار معلنة.. رجع أيلول”، مما يعني صدى الشهر التاسع سبتمبر/أيلول، بما يشير إلى تلك المرحلة الانتقالية بين الصيف والخريف، وفي معناه الأبعد ذلك التحول في الزمان والمكان والوعي، حسبما كتب الصحفي محمود منير في ورقته بالندوة.
10 قصص احتضنتها المجموعة جاءت عناوينها على درجات السلم الموسيقي “دو: أسرار معلنة، ري، مي”، “فا: الإسفلت والمطر”، و”صول: كائن سماوي”، و”لا” و”سي: 4 جدران وباب”، و”المساء يطير غربًا”، و”الخريف والشبابيك القديمة” (وهي قصة في 6 مشاهد: نعناع المصاطب، خمول متحرك، قال الحلم له، نزار وحده، شبابيك قديمة، آخر اللوحات)، وآخرها “دو: والبحر ينام أيضًا”.
أسرار معلنة
ويقول منير إن هذه التحولات ليست سهلة، بل تعكس تخبط الشخصيات الحاضرة في المجموعة التي تروي القسوة في اكتشاف الواقع والتكيف معه أو مقاومته، وكذلك الألم في استيعاب ما يحدث من انتقالات وتبدلات، وترسم القصص الأولى حكايات أطفال ومراهقين وشباب في مقتبل العمر، وهم يعيشون في المدينة التي تقترب في كثير من أوصافها من إربد، كما تتسم هذه الشخصيات برومانسيتها وجموحها وحماستها وتمردها.
ويقول حسين في المجموعة “وكنت غافلا حينها عما يدور حولك وفوقك، كانت السماء عابسة، والإخوة في الغابات يقتتلون، وكان يمكن أيضا أن يصلك شواظ فتغادر العالم مبكرا، لكنك كنت غافلا عن كل ذلك تلهو بالأرض وتلتهم الأتربة والحصى الناعمة، من قال إذن إن الطفل لا يتذكر؟ وهو الذي يعي العالم منذ القبلة الأولى لرجل وامرأة يولمان لولد سيأتي ليحمل اسم السلالة ويقود القطيع”.
قصص مرتبة موسيقيا
يتواصل السرد في هذا النص حول ذلك الطفل الذي يلهو ويطيّر طائرته الشراعية ويلتقط نداءات الحب الأولى ويعبث بالأشياء من حوله ببراءة، لكن الكاتب يكثف بعد ذلك التحول بالحديث عن انتقاله المبكر نحو الرجولة وأن العالم ليس هو الذي حفظه ذلك الطفل في الأناشيد الصباحية، ثمة مشهد أول حول ذلك العبور بما يكثفه من مشاعر الفقد والخسارات وصدمة مردها ذلك الزيف والبؤس لدى الكبار.
وفي قصة “الإسفلت والمطر”، سيحدث ذاك العبور على نحو مختلف قليلا لكن يكرس الصورة الأساسية نفسها، حيث تعرّف الولد الصغير -الذي يعمل بائعا متجولا- حين تسلق سور الجامعة ورأى بعض الطلبة يغنون ويهتفون بمناسبة يوم الأرض، الكلمات التي سمعها لأول مرة “الأرض” و”الدم” و”الشهداء” أشعرته بالقشعريرة والخوف اللذين سيلازمانه وهو يهرب باتجاه بوابة الجامعة، بينما المظاهرات وراءه تصدح بالهتافات.
ويرى أستاذ الأدب والنقد العربي محمد عبيد الله، في ورقته التي قدمها بالندوة، أن المؤلف نظم فهرست القصص بمحاكاة أبجدية السلّم الموسيقي، ليوحي للقارئ بترابط القصص وبما بينها من صلات مهما بدا أنها مختلفة في ظاهرها، إلى جانب ما يوحي به السلّم من تصاعد وتنويع، ومن علاقة الكتابة بالموسيقى وبالشعر.
وأضاف عبيد الله أن “كل قصة هي درجة أو مرحلة من مراحل ذلك السلّم، أي أن هذا الاختيار يوجهنا لنقرأ القصص في هيئة سلّم سردي تقوم كل مفردة فيه بدور من الأدوار وتملأ فراغا زمنيا محددا، ومن جهة أخرى تعد هذه البادرة محاولة لخلق مناخ موحد يتجاوز القصص المتجاورة أو المتجمعة إلى صورة سردية أكثر وحدة وترابطا”.
ويشير عبيد الله إلى أن مناخات القصص وأجواءها تعيدنا من خلال ذاكرة شخصياتها إلى أجواء تسعينيات القرن الماضي، النصف الأول من التسعينيات بوجه خاص، فكل ما فيها يعيدنا إلى ذلك المناخ المفخخ بالاحتمالات والتحولات، نهاية حقبة وبدء أخرى، ثمة خيوط سيرية (من السيرة الذاتية) تبرز فيها الأبعاد الذاتية والغنائية لهذه القصص، ولكنها نتف وخيوط متقطعة لا تتكامل ولا تتآزر لتكوين سيرة مكتملة أو وافية، وتستفيد من تقنيات القصة التي تميل إلى الاجتزاء وإلى الكثافة شأنها في هذا شأن السيرة الشعرية المتقطعة، إنها سيرة لأنها تحيل إلى الذات، ولكنها تنتقي ما يعنيها من تفاصيل وأحداث هامشية وخاصة، لكنها مؤثرة من منظور الشخصيات ومنظور المؤلف.
عوالم داخلية
في النصوص اللاحقة مثل “المساء يطير غربا” سنلحظ حدة العبور والتحول حيث تضيء أكثر صورة المثقف المكتئب والمحبط وكأنها تمثل حالة النضج التي وصل إليها ذاك الطفل، حيث يأتي في مقطع من القصة “بارع أنت في استشراف الأبعاد النفسية لطبيعة الوجوه البشرية، لا ترى من “جمالهم” إلا مقدار ما فعل الزمكان بعوالمهم الداخلية فهذبها وأكسبها بعدا إنسانيا، أو ربما حطمها فأكسبها مأساوية”، كما يقول منير.
ويكمل “سنجد في قصة (الخريف والشبابيك القديمة) حالات أكثر حدة وعمقا لهذا المثقف، كما ستنتقل شخصية (عدنان) من المدينة التي شهدت صباه إلى تلك المدينة التي تقترب أوصافها من عمّان التي (تخذلها بالضجيج والأقنعة المستعارة) بوحشتها وبراعاتها على تخريب الناس والعلاقات بينهم، وسيحاصرها الحنين من جهة وتهمين عليها نزعة تأملية تشاؤمية من جهة أخرى”.
تتلخص حالة العبور من الطفولة والرومانسية والبراءة والجموح إلى النضج وعالم الكبار، ومن الريف وإربد إلى العاصمة عمّان، ومن الطالب في بداياته إلى المثقف بما يمتلك من تصورات ومقولات ناجزة، بما يكتبه جلعاد في القصة نفسها: في الزمان الجميل كان عدنان أيوب يرى أن الطيور هي الإنسان عاشقا، وفي ما بعد أصبح الطيران يعني له أكثر من ذلك، إنه الخلاص العظيم، لكنه في الآونة الأخيرة صار يتجنب الأماكن العالية ليس لأنه عال بما يكفي، وإنما خوفا من أن يرمي نفسه في أي لحظة.