عسير على المرء أن يجد النافذة التاريخية المناسبة لينظر من خلالها إلى الخرطوم التي تحترق الآن لاستخراج العِبر. فما صنعه حميدتي بالبرهان والبشير من قبله يذكرنا بالقصة العربية الشهيرة لمجير أم عامر الذي صنع المعروف في غير أهله فانقلبت عليه بغدر مطبوع.
الذي صنعته مليشيا الدعم السريع بالجيش والدولة في السودان يشبه ما صنعه الهمج بجيش ودولة الفونج في سنار والترك ثم البويهيون بالعباسيين وحديثا صنعه الحوثيون في اليمن.
وغزو الخرطوم واستباحتها على أيدي المجموعات البدوية من دارفور وأعراب الساحل الأفريقي يشبه ما صنعته ذات المجموعات بذات المدينة قبل قرن ونصف القرن، وهو مثال معروف للدورة الخلدونية الشهيرة حيث استباحت قبائل الجيرمان روما العظيمة وحين دخل المغول بغداد، منارة الحضارة حينئذ.
الخطر يجاوز الحاضر، فاحتلال الغزاة بيوت الناس في الخرطوم يمكن -إن انكسر الجيش السوداني لا سمح الله- أن ينتج حالة كتلك التي حصلت في فلسطين حين قامت المليشيات الصهيونية المسلحة بانتزاع بيوت وأراضي الفلسطينيين حتى غيرت عبر مزيج من العنف الصهيوني والسند الغربي والخذلان العربي الخارطة الاجتماعية لفلسطين وساد اليهود في البلد وأصبح أهلها مهاجرين أو مضطهدين تضيّق عليهم الأرض كل حين.
هذه الحرب خطرها عميم يجاوز السودان إلى ما حوله وأبعد، والدرع الأخير الذي يحول دون هذا الشر الآن هو جيش السودان.
مملكة السودان القديم وصعود آل جنيد السودان الحالي هو جوهرة التاج لما كان يسمى قديما “بلاد السودان” ويشمل الدول التي تفصل بين شمال الصحراء العربي وجنوبها الأفريقي وهي السودان الحالي وتشاد والنيجر ومالي وموريتانيا. هذا الحزام، باستثناء السودان، هو من أفقر المناطق السكانية في العالم حيث يعيش أكثر من 80% من السكان في منطقة الساحل (تشمل الدول أعلاه زائدا السنغال وبوركينا فاسو) تحت خط الفقر (دولارين في اليوم) بينما معدل الزيادة في السكان بين الأعلى في العالم ونصفهم عمره دون الـ15 بلا فرص حقيقية لحياة مدنية عصرية إلا القليل.
وسط هذا البؤس، نجد القبائل العربية هي الأسوأ حالاً، فانتشارها الأفقي جعلها شتاتا بين دول عديدة وحرمهم ميزة تشكيل غَلبة سكانية ذات عنصر مشترك، وهو حال يشبه حال الأكراد. لذلك، فهؤلاء الأعراب ظلوا أقليات مضطهدة في بلادهم غالب الوقت وبتمثيل محدود في النخب المتعلمة والسياسة والاقتصاد، وهم فوق ذلك لم يشكّلوا ثقلا ثقافيا يمنحهم أفضلية بين المجموعات السكانية الأخرى.
ظلت هذه المجموعات تعيش على هامش الصحراء تحدها شمالاً أنظمة قمعية صارمة وهم مغلوبون جنوبا بأعداد القبائل الأفريقية التي تحوز القوة غالبا سوى فترات ينتزع الأعراب فيها شيئا من السلطة.
هذا الاستضعاف جعل بين هذه المجموعات شيئا من اللحمة والتناصر ساعة النداء وقد عرف عنهم نفرتهم (الفزع) لنجدة بني جلدتهم في الصراعات التي تحصل بين العرب والأفارقة دون اعتبار لحدود دولية.
هذا الأمر عانت منه دارفور زمنا طويلا وحرمها الاستقرار والنماء، ولكنه فوق ذلك ظل بقعة رخوة في خاصرة السودان حيث كان عسيرا على الدولة ضبط حدودها ومنع هذه المجموعات من (الغزو) متى شاءت. لكن الحكومات السودانية، في المقابل، سخّرت هذه الظاهرة لخدمتها حيث سلّحت العرب في مناطق التماس مع الجنوب ليشكلوا حائطا أوليا لصدّ المتمردين الجنوبيين. وبعد اندلاع التمرد في دارفور، سلك المركز ذات النهج باستخدام القبائل العربية كمشاة لمواجهة حركات التمرد التي قامت في القبائل الأفريقية.
فكرة حرس الحدود كانت تقنينا لظاهرة الجنجويد ذات البعد القبلي لتعمل تحت لواء الدولة، ثم تطور الأمر لتنشأ قوات الدعم السريع في 2013.الانحراف الأخطر في هذا المسار كان عندما صدّر السودان فكرة قوات الدعم السريع إلى الخارج حيث خرجت كتائب من هذه القوات لتقاتل في اليمن وخطورة فتح هذا الباب أن عرب البقّارة في (بلاد السودان) يتجاوزون الـ6 ملايين حسب بعض الإحصاءات نصفهم تقريبا من الرجال ونصف هؤلاء دون الـ15، ما يعني أنّ القادرين على حمل السلاح قد يفوق المليون من الرجال. جلّ هؤلاء نشؤوا في صحراء قاسية واعتادوا القتال وتجمعهم عصبية الدم وفوق كل ذلك هم فقراء يبحثون عن الرزق. هذا نبع لجيش يساوي الجيش الروسي عددا وهو قليل التكلفة لمن يرغب في استخدامه..
اقتصاد السودان يكاد يساوي اقتصادات تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا مجتمعات، وثقله الثقافي والإستراتيجي قريب من ذلك. هذا المزيج من طموحات التوسع والآمال الاستيطانية الخارجية والسلطوية وتواطؤ داخل الدولة هو الوقود الذي يبقي نار الحرب مشتعلة في السودان.
مصر ستعيش كابوسا أمنيا بوجود مليشيا قبلية تحكم السودان، وربما إدراك آل دقلو لأهمية مصر تجعلهم يسارعون بإرسال رسائل طمأنة إليها ماذا لو انتصرت المليشيا؟ انتصار المليشيا في الحرب واستيلاؤها على السودان أمر مستبعد، ولكنه ليس مستحيلاً، وحتى نتوقّى هذا المآل علينا أن ندرك فداحته.
أولا: استباحة الخرطوم ستستباح الخرطوم (أكثر مما يجري الآن) لبعض الوقت قبل أن يهدأ سُعَار النصر ويحاول قادة المليشيا تقديم أنفسهم للعالم كقادة سياسيين قادرين على إدارة الدولة وضبطها.
ولكن هذا لن يمنع مقاتلي المليشيا من الاستيلاء على ممتلكات المواطنين فيها خصوصا في أحياء النخبة والطبقة الوسطى وإخراج أهلها منها قسرا إن كانوا لا يزالون فيها.
هذا ستتبعه هجرة كثيفة من قبائل الصحراء من داخل السودان وخارجه إلى حواضره المستباحة ويلزم مع هذا تهجير قسري لأهل البلد إلى الأطراف أو الخارج (مصر في الغالب).
ثانيا: الانتهازية السياسيةسيجد قادة المليشيا عددا وافرا من الانتهازيين السياسيين لتولّي عملية غسل الوجه السياسي لحكم آل جنيد في السودان مقابل بعض المواقع التنفيذية، ولكن قسمة الانتهازيين ستكون أدنى من زعماء وأمراء العشائر أهل الجنود.
ستكون كما أي مملكة، يعلو فيها من علا نسبه من آل دقلو ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ثالثا: القضاء على الإسلاميين سياسيا، وتنفيذا لوعيد حميدتي المتكرر سيُقصَم ظهر الإسلاميين تماما، قتلا وسجنا وتشريدا في الأرض.
هذا للأسف هو ما يُحبّب بعض الناس في هذا المآل البئيس، يدفعهم الغبن وشهوة التشفّي لا مصلحة البلد.
بعدها، وكما أي مملكة، سينتهي العمل السياسي في السودان عدا عن الأسافير (المواقع الإلكترونية والتواصل الاجتماعي) والمهاجر.
رابعا: الاضطهاد الاجتماعي اجتماعيا، ستُستضعف قبائل دارفور الأفريقية على أساس عنصري ويسامون سوء العذاب بآلة الدولة التي غدت في يد غرمائهم من القبائل العربية.
الأمر ذاته سيطال أهل الوسط والشمال على أساس طبقي حيث يبرر اضطهادهم باعتباره نصر الهامش على المركز أو دولة الدنيا على نخبة الوسط النيلي.
ولأن (النخبوية) هي حالة وعي في الأساس، فإن السيطرة بالقوة ستكون على الأصول المالية والمواقع في دولاب الدولة ومؤسسات المجتمع الثقافية والفنية ولكن ترجمة ذلك إلى حالة وعي وصعود حضاري لن تحصل إلا في عقود طويلة قد لا يسعف الزمن دولة آل جنيد لتمامها.
خامسا: اقتصاد ريعي يصدر ثرواتهاقتصاديا، ستدار موارد البلد من وراء البحر.
وسيُمنع السودان من أي توجه صناعي أو إنتاج تنافسي ليظل الاقتصاد ريعيا يصدر الثروات الخام ويستورد المصنوع ثم يسد الفجوة بالقروض والهبات.
تصدير الخام يضمن للخارج موارد رخيصة، والحاجة إلى العون تضمن لهم الطاعة وحسن الانقياد.
سادسا: حكم الساحل بأكمله نجاح آل دقلو في السودان سيغري عرب الساحل بتكرار النموذج في بلادهم وهذه المرة بسند مباشر من السودان، والبداية ستكون في تشاد لجوارها الجغرافي الذي يسهّل الإسناد العسكري، ثم يستمر الأمر إلى النيجر ومالي. سيطمع آل دقلو في حكم الساحل بكامله عبر أبناء عمومتهم وسيطمع الأمير الشاب في التحكم في خاصرة مصر والمغرب العربي بكامله إضافة إلى الموارد الطبيعية لهذا الإقليم.
هذا سيهدد حكومة الوفاق غرب ليبيا ويضعها في كماشة بين حفتر من الشرق وحليف من الجنوب.
سابعا: كابوس أمني في مصرمصر ستعيش كابوسا أمنيا بوجود مليشيا قبلية تحكم السودان ولاؤها مشتت. آل دقلو -لإدراكهم أهمية مصر- ربما يسارعون بإرسال رسائل طمأنة إليها وربما تجافوا في العلاقة مع إثيوبيا شيئا ما، بل ربما تزلّفوا لمصر بحياد ظاهري في نزاع سدّ النهضة، ولكن لن يكون حصيفا من مصر أن تأمنهم أبدا، وعليها أن تذكر قصة مجير أم عامر وتجد العبرة في البشير والبرهان.
السرد أعلاه يحوي الأسباب التي تجعل من تحقّق قيام هذه الدولة أمرا مستبعدا (وليس مستحيلاً)، ذلك أن الجهات التي سيصيبها الأذى الشديد من دولة آل جنيد كثيرة وقوية. دوليا، فإنّ مصر وتشاد وليبيا (الشرق) وحلفاءها الأتراك سيعملون بقدر ما على منع هذا الأمر.
داخليا، فإنّ عموم مكونات السودانيين الاجتماعية عدا بعض قبائل البقّارة سيصطفون مع الجيش في حربه مع المليشيا بالقول أو الفعل. هذا بدوره يجعل من احتمال الحرب الأهلية أمرا بعيدا كون المكون الأهلي الذي قد يصطف بعضه مع المليشيا هو مكون قليل العدد وهذا لا يستدعي مشاركة بقية المكونات الاجتماعية في الحرب على الأساس القبلي وسيَكِلون الأمر للجيش وقوات الاحتياط.
لكن الفصيل الأهم في هذه المواجهة بجانب الجيش السوداني هم الإسلاميون. فالخطر عليهم من دولة المليشيا خطر وجودي ما يعني أنهم قد يستميتون في منعها.
فوق ذلك، فهم التنظيم السياسي/الاجتماعي الوحيد القادر على القتال بجانب الجيش بشكل يحدث فرقا في سير المعركة ولهم خبرة طويلة في ذلك.
كل هذه العوامل تقود إلى أن قيام دولة آل جنيد غير راجح، ولو قامت، فاستدامتها مستبعدة.
فإذا استبعدنا انتصار المليشيا يبقى أن مآل هذه الحرب هو أن ينتصر الجيش أو ينتهي الأمر بعجز الطرفين عن الفوز والبحث عن تسوية مقبولة.
لكنّ عجز الجيش عن القضاء على تمرد المليشيا ليس أمرا بديهيا ويحتاج إلى تفسير.