أن تكون نباتيا في العصور الوسطى بالعالم الإسلامي ليس أمرا سهلا، إذ كان سكان العالم في ذلك الوقت يجمعون على فكرة أن الحيوانات منحة إلهية مسخرة للاستخدام البشري. وبينما طبّق المسلمون معايير الحلال في الجزارة والتحضير بطريقة دقيقة، لم يشكك أحد في مشروعية تناول اللحوم، مع استثناءات نادرة.
لذا لم يكن مفاجئا اهتمامُ المراقبين البالغ بالموقف النباتي المتشدد الذي تبناه أبو العلاء المعري، الشاعر والأديب الضرير المتهم بكونه “زنديقا”، ضد استخدام المنتجات والأطعمة الحيوانية، فهو لم يتبنَ موقفا نادرا وغير مألوف بين المسلمين فحسب، بل بين معظم سكان العالم في زمنه.
وتكشف 5 رسائل كتبت بلغة أدبية فصيحة بين المعري الذي سكن معرة النعمان في بلاد الشام، وبين الشاعر الفاطمي المقيم بالقاهرة المؤيد في الدين الشيرازي، عن هذا الاستغراب البالغ من “النباتيين” في العصور الوسطى.
الممارسات النباتية
كتب المؤيد رسائله للمعري ليستفسر منه -ظاهريا- عن “حالته النباتية”، لكن اهتمامه الحقيقي كان فضح الممارسات الغذائية للشاعر السوري، وهذا ما كان واضحا في جميع المراسلات التي تحاورا فيها.
ويعتبر المؤيد من أشهر فلاسفة المذهب الإسماعيلي، لكن مناظرته مع المعري على خلفية “تحريم أكل اللحم” أكسبته شهرة تجاوزت زمنه، وفي رسالته إليه، سأل المؤيد المعري عن “العلة في تحريمه علی نفسه اللحم واللبن وكل ما يصدر إلی الوجود من منافع الحيوان”.
ويشرح في رسالته ما يعتبره ضرورة أكل منتجات الحيوانات، متهما المعري بالاعتراض على حكمة الله قائلا “أما أنَّه يجد سفك دماء الحيوان ونزعها عن أرواحها خارجا من أوضاع
الحكمة، وذلك اعتراضٌ مِنه (أي المعري) علی الخالق سبحانه الذي هو أعرف بوجوه الحكمة”.