بين الحين والآخر، يكثر الحديث عمّا يجري في منبر جدة ، ويخلط الناس بين المفاوضات التي تجري فيه بين القوات المسلحة والمتمردين، والتي هي حتى الآن شأن عسكري وإنساني، وبين الحوار الذي هو شأن سياسي. سأحاول هنا أن أزيل بعض ذلك الخلط والالتباس استناداً على ما توفر لي من معلومات مصادرها حسنة الاطلاع، ومن قراءات لِما وراء ما يتم تداوله من أخبار .
الشيء المؤكد أنه حتى الآن لم يتم تفاوض مباشر بين ممثلي القوات المسلحة وممثلي التمرد في جدة، كل التفاوض كان يتم بشكل غير مباشر، عبر الوسطاء، والمغزى السياسي لهذا هو أن القوات المسلحة لا تعترف ب “الدعم السريع” كجسم له أية شرعية وإنما تتعامل معه كقوة متمردة، ولعل الناس قد لاحظوا أنه يوم تمّ التوقيع على إتفاقية جدة، لم يتصافح الذين وقعوا من الطرفين، برغم ما يمكن أن يكون قد حدث من إلحاح الوسطاء على ذلك!!
والثابت أيضاً أن القوات المسلحة ظلت تؤكد، عبر مصادر قريبة منها، أن تفويض وفدها في جدة محصور في الشأنين العسكري والإنساني وأن الوفد لن يتفاوض بشأن القضايا السياسية. إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تثور ثائرة داعمي القوات المسلحة عندما يتجدد الحديث عن منبر جدة، ويُقال إن “الطرفين” سيستأنفان التفاوض من خلاله؟ الإجابة بتقديري عائدة لسببين:
السبب الأول، وهو الأهم، هو التشويش المُتَعَمَّد الذي يقوم به سياسيون موالون للتمرد، وقوى خارجية تدعمهم، قبل بدء التفاوض وخلاله، بقصد الترويج لأمرٍ ليس موجوداً، وهو الإبقاء على ما يسمى بالاتفاق الإطاري حياً، وهادياً لكل خطوة قادمة ذات طبيعة سياسية، وكأنهم يريدون أن يقولوا إن ما كان ينقص إتمام ذلك الإتفاق هو عدم الإتفاق على موضوع كيفية دمج القوات، وهو الآن – باعتبار ما سيكون – قد تحقق، من خلال منبر جدة، وبالتالي على أطراف الإطاري أن تتقدم لتشكيل حكومتهم المدنية !!.
أما السبب الثاني، فهو ما أرى أنه عدم اهتمام من قيادة القوات المسلحة للرد على ما يثار بشأن منبر جدة، وعدم الحرص الكافي لوضع النقاط على الحروف كلما تجدد الحديث عن جولة مفاوضات، إذ أن الرأي العام ظل يتلقى أخبار المفاوضات من مصادر أخرى ذات أغراض و مشكوك في حيادها. وكيفما يكون الأمر، فالثابت حتى الآن – وهو ما أكدته تصريحات نائب القائد العام الفريق أول كباشي لقناة الجزيرة – هو أن الجيش منفتح على حوار سياسي شامل لا يقصي أو يستثنى أحداً، مما يعني أن التفاوض الذي يجري من خلال منبر جدة شيئ والحوار شئ آخر. يُفهم من حديث نائب القائد العام للقوات المسلحة، والذي رحبت به مختلف القوى السياسية، أن المؤسسة العسكرية حريصة على تحول ديمقراطي وعلى قيادة مدنية لحكومة الفترة الإنتقالية القادمة، لكن هذه الخطوة مرتبطة بإنهاء التمرد العسكري، وأن منبر جدة هو الذي سيضع الصيغة النهائية لكيفية إنهاء التمرد وكيفية التعامل مع مَن استسلم أو تبقى من قواته، ومن المهم أن يعرف الجميع أن هذه الخطوة ستأتي بغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها الحرب، لأنها – الخطوة – تتصل بكيفية إبراء الجراح وضمان وفاء القوات المسلحة بعهدها لشعبها، بحيث لا يتسبب أي طرف مستقبلاً بإشعال حرب. بصيغة أخرى لا بد من الوصول إلى إتفاق ترعاه وتضمن تنفيذه الوساطة السعودية الأمريكية حتى لو كان هذا الإتفاق هو إتفاق استسلام قوات التمرد واعتراف قيادتها بالهزيمة العسكرية، وهذا هو ما يفترض أن ينتهي إليه التفاوض ومنبر جدة !!.
إذا كان هذا عن التفاوض فماذا عن الحوار، وهل صحيح أنه هو سدرة المنتهى التي يريد أن يستظل بظلها جماعة المجلس المركزي منفردين، ثم يختاروا هم مَن يحق له الوصول ومَن يبقى بعيداً ؟الحقيقة الثابتة هي أن الحوار بصيغته التي كانت تتحدث عنها مجموعة المجلس المركزي (قحت)، ذهب مع انطلاق الرصاصات الأولى للتمرد في الخامس عشر من أبريل، وأن ما بعد هذا التاريخ لن يكون كما قبله، بمعنى آخر، ينبغي لكل حوار قادم أن يغوص في جذور الأزمات والمشكلات، ويؤسس لسودان مختلف، يقطع مع الفوضى التي كانت سائدة خلال الأعوام الأربعة الماضية، ومع الحروب ومسبباتها، ولا بُد لحوار كهذا أن يكون سودانياً خالصاً وشاملاً وعميقاً، وأن يتم وضع أجندته وتحديد مدته وأسلوب إدارته، بواسطة السودانيين وحدهم وعلى روية ومَهل، وأن تتشارك في ذلك القوى المدنية والعسكرية كون مخرجاته ينبغي أن ترسم ملامح المستقبل وتحدد شكل العلاقات بين جميع المكونات السودانية.
إن الحوار المطلوب، والذي أرجح أن نائب القائد العام للقوات المسلحة يتحدث عنه، لا علاقة له بما يجري في منبر جدة التفاوضي، إذ ليس مطلوباً من منبر جدة سوى الإشارة إلى ذلك والإلتزام بقيامه متى ما توفرت الظروف الموضوعية. هذا بطبيعة الحال لا يتناقض مع التزام القوات المسلحة بقيام حكومة إنتقالية بقيادة مدنية، وينبغي هنا أن يتم التأكيد على أهمية أن يتم استصحاب آراء مختلف القوى السياسية في قضايا الإنتقال التي ستشكل أولويات عمل الحكومة المدنية الإنتقالية، واستشارتها متى ما ما وُجد من بين هذه القضايا ما له أثر ممتد لما بعد الفترة الإنتقالية، كالدستور الإنتقالي وقانون تنظيم الحياة السياسية وقانون الإنتخابات وغيرها، لكن هذا يجب ألاّ يعني أن تشارك القوى السياسية الحزبية في الإدارة المباشرة للفترة الإنتقالية، بل عليها أن تنصرف بكلياتها لإنجاح الحوار ولمعالجة أزماتها المتراكمة، وتستجمع شتاتها، وتجدد الدماء في صفوفها القيادية، وتُعد برامجها التي تريد أن تحكم وفقها، وتتهيأ لاختبار المقبولية والحكم الذي يصدره الناخبون عليها عبر صناديق الاقتراع.