وكالات : كواليس
منذ قرون طويلة، يتحدّث بعض مسيحيي العراق اللغة السريانية بلهجاتها المختلفة في بيوتهم ومدارسهم. وتحت وطأة عقود من الحروب والاضطرابات التي شهدتها بلاد الرافدين، باتت اللغة في خطر، لكن قناة عامة جديدة ناطقة بالسريانية تسعى للحفاظ على هذا الإرث الضارب بالقدم.
والسريانية لغة سامية عاربة قديمة، قريبة من اللهجات العربية القديمة، وكانت سائدة في شمال بلاد الرافدين وحول حوض نهر الفرات الذي فصل بين لهجتيها الشرقية والغربية، وتراجعت السريانية إلى لغةٍ كنسية محلية بعد سيادة العربية -التي تتشارك معها نفس العائلة اللغوية- في مناطقها، ويقول مؤرخون ولغويون إن تحول سكان شمال بلاد الرافدين من السريانية للعربية زمن الأمويين يشبه تبدل اللهجة لا أكثر.
قناة ونشرة سريانية
حين تقدّم الصحفية مريم ألبرت البالغة 35 عاما نشرة الأخبار على القناة السريانية الحكومية، التي هي جزء من شبكة الإعلام العراقي، تتكلّم بلغة سريانية “أكاديمية”، اللغة الأم التي منها تفرعت اللهجات المتعددة للطوائف الكلدانية والسريانية والآشورية، والتي قد تختلف من قرية إلى أخرى.
وترى الأمّ لطفلة تبلغ 9 سنوات في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية أن وجود “برامج لإيصال هذه اللغة أمر مهم جدا”.
وتعرض القناة برامج عن السينما والثقافة والتاريخ، بعضها باللهجات المحلية، أما نشرات الأخبار فتتلى بلغة سريانية “أكاديمية”، لكن “ربما هناك الكثير من المستمعين المسيحيين…لا يفهمون هذه الكلمات التي نقولها”، وفق مريم.
وتضيف “أشعر بالأسف كون لغتنا تندثر تدريجيا، صحيح أننا نستخدمها في بيوتنا، لكن وجود قناة توصل هذا الصوت أفضل”.
واليوم، تغيب الإحصاءات الدقيقة لأعداد المسيحيين في البلاد. لكن تقديرات تشير إلى أن عددهم لا يتخطى 400 ألف نسمة، من نحو مليون ونصف مليون قبل عقدين، هاجروا بفعل 20 عاما من الحروب والنزاعات في العراق.
وتضمّ القناة السريانية التي أُطلقت تجريبا قبل 3 سنوات ورسميا مطلع أبريل/نيسان الماضي، نحو 40 موظفا، بينهم 10 مقدمي برامج، هم 5 نساء و5 رجال.
ويقول جاك أنويا مدير القناة السريانية إن “القناة مهمة جدا في الحفاظ على اللغة السريانية”، وذلك عبر “تقديم برامج ترفيهية بلغتنا”.
لغة عريقة
ويضيف الشاب البالغ 30 عاما “اللغة السريانية كانت يوما ما لغة الشرق الأوسط وعلى الحكومة الحفاظ عليها من الاندثار”، ويقول إن “العراق جميل بهذه الثقافات والتنوع الذي فيه… من طوائف وأديان متعددة”.
وبالنسبة لكوثر نجيب عسكر رئيس قسم اللغة السريانية في جامعة صلاح الدين الحكومية في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، فإنّ “اللغة السريانية” التي استخدمت لآلاف السنين في كنائس العراق وسوريا وجنوب تركيا ولبنان، هي اليوم “لغة مركونة نوعا ما”.
ويضيف “لا نقول لغة ميتة، إذ لا يزال المتحدثون باللهجات يعتمدون عليها، ولا يزال بعض الكتاب ورجال الدين يهتمون بها، لكن الخطر عليها وارد”.
ويضمّ قسم السريانية الذي يديره عسكر نحو 40 طالبا، في موازاة قسم آخر في الجامعة الحكومية في بغداد. وتدرّس اللغة أيضا في حوالي 265 مدرسة عامة متوزعة بين العراق وإقليم كردستان العراق، وفق عماد سالم ججو المدير العام للدراسة السريانية في وزارة التربية العراقية.
وفي حديث سابق للجزيرة نت قال مدير المتحف السرياني في أربيل بكردستان العراق كلدو رمزي إن السريانية هي عمق التاريخ الذي لا يمكن لشخص أو فئة -صغرت أو كبرت- التجرد منها، فهي نَسب من نوع آخر، فموسيقى أبجدية حروفها هي عزف حضارة سبقت الكثير منذ نشأة البشرية، وتفرد شعبها بها كلغة تخاطب وحيدة في الهلال الخصيب.
وتابع أن السريانية إحدى اللغات السامية، ولها أهمية دينية؛ إذ ما زالت الطقوس في الكنائس تُقام بها رغم وجود سريانية جديدة، مشيرا إلى أن عمر اللغة (الشفهية) يمتد لـ7 آلاف سنة، وأنها مستمرة ولن تموت.
وتعود أولى الكتابات السريانية المدونة إلى القرن الأول والثاني قبل الميلاد، وفق عسكر، لكن اللغة السريانية “بلغت ذروتها بين القرنين الخامس والسابع” بعد الميلاد.
لغة الإدارة والآداب
ولم تقتصر على الكتب الدينية، بل كانت لغة التعاملات الحكومية والفلسفة والعلوم والأدب. وفي ظل تقدّم اللغة العربية في المنطقة، تراجع استخدام السريانية منذ القرن الـ11، لكنها لم تندثر تماما.
ويرى عسكر أن “الهجرة سبب قوي” يهدد استمرار اللغة. ويضيف “عندما يسافر أبناء هذه المنطقة أو المتحدثون باللهجات (السريانية) إلى الخارج سواء أوروبا أو أميركا”، قد تبقى اللغة عند الجيلين الأولين، لكن “الجيل الثالث ربما لن يعرف هذه اللغة”.
وفي صيف العام 2014، قبل 10 أيام من وصول تنظيم الدول الإسلامية، أخرج رئيس أساقفة الموصل وعقرة الكلدان المطران ميخائيل نجيب كنزا لا يقدّر بثمن من المدينة، وهو مخطوطات سريانية عمرها مئات السنين.
ويحفظ اليوم 1700 مخطوط ونحو 1400 كتاب في مركز المخطوطات الشرقية الرقمي في أربيل. ويشرح المطران نجيب لوكالة الصحافة الفرنسية أن المركز يجمع هذا “التراث، سواء كان مخطوطا أو مطبوعا أو مكتوبا. ويتم تنظيفه وتهيئته للتصوير الرقمي”، فضلا عن ترميم المخطوطات القديمة وحفظها.
وهناك “أكثر من 8500 من المخطوطات الرقمية، وقد صُوّرت وأعيدت إلى أصحابها”، غالبيتها سريانية.
وتعود بعض هذه الكتب والمخطوطات إلى القرنين الـ11 والـ12، وفق نجيب. ويحظى المركز بدعم من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) ومن “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” (USAID) والرهبنة الدومينيكانية.
ويهدف المركز إلى “حفظ التراث وديمومته” ووضعه “بين أيدي الباحثين ليستفيدوا منه في بحوثهم وأطروحاتهم”، وفق نجيب.
وفي قرقوش، أقدم البلدات المسيحية الواقعة في سهل نينوى في شمال العراق، يجلس تلاميذ ثانوية مار أفرام السريانية قبالة أستاذهم صلاح سركيس باكوس محدقين بلوح أبيض كُتبت عليه الأحرف السريانية.
ويدرّس باكوس البالغ 59 عاما اللغة منذ أن أدخلت إلى المناهج الدراسية قبل 18 عاما، ويرى أن تعليمها أمر “ضروري جدا ليس فقط للأطفال بل لبقية فئات المجتمع كذلك”؛ لأن “هذه اللغة تمثل تاريخنا، لغتنا الأم في بلاد ما بين النهرين”.
لكن باكوس الذي أحرق تنظيم الدولة الإسلامية مكتبته التي كانت تضم نحو ألف كتاب نصفها سريانية، يبدي قلقه من كون “جيل اليوم لا يبالي بتعلم لغته”.