جاءت مجموعة من الأحاديث الصحيحة في فضل العشر الأواخر من رمضان والتي منها ليلة القدر وهي تبين دقائق هدي النبي صلى الله عليه وسلم الخاص بهذه الليالي المباركة، ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب ليلة القدر في العشر الأواخر، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، صبيحة عشرين من رمضان، فقال: (من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع، فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها وإنها في العشر الأواخر، وفي وتر)[1]. ربط هذا الحديث ليلة القدر بفضل ليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، لأن ليلة القدر جزء منها، ولعل الأجر لحق بقية ليالي العشر الأواخر لأن ليلة القدر تقع في واحدة منهن، وهي ليلة غير محددة بعينها.
وورد حديث آخر عن ابن عمر رضي الله عنهما وهي يحكي قصص رؤيا الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة بليلة القدر، قال: وكانوا لا يزالون يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا: أنها في الليلة السابعة من العشر الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطت في العشر الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها من العشر الأواخر)[2].
وهذان الحديثان يكشفان حرص النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الصحابة رضوان الله عليهم في تحري ليلة القدر خلال ليالي العشر الأواخر، وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التحري خير الهدي وأكمله وأحسنه، وهو من أمر الصحابة رضوان الله عليهم أن يقتدوا بسنته في تحري ليلة القدر، قالت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر، من العشر الأواخر من رمضان)[3].
وهناك رواية أخرى عن ابن عمر فيها الأمر بالتماس ليلة القدر في السبع الأواخر، وإن السبع داخلة في العشر ومعدودة منها، وبهذا ينتفي الإشكال بين الروايات.
ما المقصود بتحري ليلة القدر؟
معنى قوله (تحروا ليلة القدر) يريد ابحثوا عن ليلة القدر واطلبوها بالاجتهاد في الصلاة والدعاء، رجاء موافاة الليلة للفضل العظيم الذي يناله الموفق لها، وبما أن الأحاديث الواردة في تحديد أي ليلة كثيرة، بين الأوتار من ليالي العشر الأواخر، أو ليالي العشر الأواخر كلها، فإن المسلم بالتحري وعدم التقيد بليلة دون أخرى يجتهد في جميعها بالصلاة والدعاء، ويحتاط من أن يفوت أو يفرط بهذا الخير، لعله يصادف إحداهن ليلة القدر فيصيب فضلها ورحمتها وأجرها وخصوصيتها، فيكون من المقبولين.
وإن تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان من سنن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث حين جادل الناس في تعيين ليلة القدر، خرج النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها فى التاسعة والسابعة والخامسة).
فقوله صلى الله عليه وسلم (وعسى أن يكون خيرا لكم) يريد أن البحث عنها والطلب لها بكثير من العمل، هو خير من هذه الجهة.
ويظهر لنا حكمة تحري ليلة القدر في العشر الأواخر وتغييبها من الناس من خلال ما اختاره الإمام الطبري، فقال: والآثار المروية في ذلك عن النبى عليه السلام صحاح، وهي متفقة غير مختلفة، وذلك أن جميعها ينبئ عنه عليه السلام أنها فى العشر الأواخر، وغير منكر أن تتجول في كل سنة فى ليلة من ليالى العشر كما قال أبو قلابة، وكان معلوما أنه عليه السلام إنما قال في كل ليلة من الليالي التي أمر أصحابه بطلبتها فيها أنها كانت عنده في ذلك العام في تلك اليلة، فالصواب أنها في شهر رمضان دون شهور السنة؛ لإجماع الجميع وراثة عن النبى عليه السلام أنه قال: (هي في العشر الأواخر في وتر منها) ثم لا حد فى ذلك خاص لليلة بعينها لا يعدوها إلى غيرها؛ لأن ذلك لو كان محصورا على ليلة بعينها لكان أولى الناس بمعرفتها النبي عليه السلام مع جده فى أمرها ليعرفها أمته.
زاد ابن عثيمين فقال: وإنما أخفي عين ليلة القدر لفائدتين عظيمتين:
الفائدة الأولى: بيان الصادق في طلبها من المتكاسل، لأن الصادق في طلبها لا يهمه أن يتعب عشر ليالي من أجل أن يدركها ، والمتكاسل يكسل أن يقوم عشر ليالي من أجل ليلة واحدة.
الفائدة الثانية: كثرة ثواب المسلمين بكثرة الأعمال، لأنه كلما كثر العمل كثر الثواب.
سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر
ما سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم؟
سميت ليلة القدر بما تقدر فيها من الأقدار، وما يكون فى تلك السنة من الأرزاق والآجال بقوله: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ [القدر: 4] أي تهبط الملائكة وجبريل من السموات إلى الأرض بكل أمر، ومن أجل كل أمر قدر في تلك الليلة إلى قابل، ولا يفعلون شيئا إلا بإذن الله؛ ولقوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].
هدي النبي صلى الله عليه ووسلم في ليلة القدر
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
وفي المسند عن عبادة: «من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». وللنسائي في حديث قتيبة بن سعيد عن سفيان: «غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» قال الحافظ: وإسناده على شرط الصحيح.
وقيام ليلة القدر: إنما هو بالتهجد فيها والصلاة. وقد أمر صلى الله عليه وسلم عائشة بالدعاء فيها. قال سفيان: الدعاء في الليلة أحب إلي من الصلاة. وإذا كان يقرأ ويدعو، ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها، وكان يخص لياليها بأعمال لا يقوم بها إلا في هذا الوقت، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره) مسلم.
وكان من الأعمال الخاصة بالعشر الأواخر أنه عليه الصلاة والسلام كان يعتزل نساءه للعبادة والاعتكاف، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره) متفق عليه.
وقولها (شد مئزره): كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة عن المعتاد، أو كناية عن اعتزال النساء.
ومن هذه الأعمال أنه صلى الله عليه وسلم (أحيا ليلها) يشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم كان يستغرقه بالسهر في الصلاة وغيرها، وهو محمول على أنه يقوم أغلب الليل لقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى الصباح، وما صام شهرا متتابعا إلا رمضان. رواه مسلم
ومن هذه الأعمال الخاصة بالعشر الأواخر ومنها ليلة القدر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله لقيام الليل، وذلك في قولها (وأيقظ أهله): أي أيقظ زوجاته للقيام.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان». رواه الترمذي فقال: حسن صحيح.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال: (سبحان الله ماذا أنزل الله الليلة من الفتنة! ماذا أنزل من الخزائن! من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) البخاري.
ولكن إيقاظه صلى الله عليه وسلم لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أبرز منه في سائر السنة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتلة، لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ. فجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها.
قال الشعبي في ليلة القدر: ليلها كنهارها. وقال الشافعي: أستحب أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بين الأذانين أي: بين أذان المغرب والعشاء، في العشر الأواخر
قالت عائشة رضي الله عنها: إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحورا].
وقد روي عن السلف كذلك فعل هذا فقد قال ابن جرير – رحمه الله -: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر، وكان النخعي يغتسل في العشر الأواخر كل ليلة.
ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر زر ابن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان.
وروي عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار ورداء فإذا أصبح طواها فلم يلبسها إلى مثلها من قبل.
وهذا يدخل في قوله تعالى (خذوا زينتكم عند كل مسجد) {الأعراف:31}
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم علم من أدرك ليلة القدر أن يقول دعاء خاصا، قالت عائشة رضي الله عنها «يا رسول الله، إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر؛ والمعتكف ممنوع من قربان النساء بالنص والإجماع. قال عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان. وقال نافع: وقد أراني عبد الله بن عمر المكان الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد.
جاء في كتاب الموطأ: عن سعيد بن العسيب، وعروة بن الزبير، أنهما سمعا عائشة تقول: السنة في المعتكف ألا يمس امرأته ولا يباشرها، ولا يعود مريضا، ولا يتبع جنازة، ولا يخرج الا لحاجة الانسان، ولا اعتكاف الا في مسجد جماعة، ومن اعتكف فقد وجب عليه الصيام.