وكالات : كواليس
باريس- يحفل تاريخ الأدب العربي والمخيال الشعبي بالقصص النثرية والقصائد الشعرية التي تتغنى بشهر رمضان وتذكر فوائده وتعدد فضائله وطرائفه. ومن الجاحظ إلى الصاحب ابن عباد، ومرورا بابن الرومي وأبي العتاهية، ووصولا إلى عباس محمود العقاد وأحمد أمين ومحمد مهدي الجواهري وطه حسين ونجيب محفوظ؛ لكل كاتب وشاعر قصصه وقصائده وذكرياته وطقوسه في الشهر الفضيل.
تختلف أحوال الكتاب في هذا الشهر بين الدخول في حالة عزلة وتأمل، أو التفرغ إلى التهجد وتدبر الذكر الحكيم، أو إدمان القراءة والكتابة، أو الانغماس في السهرات الرمضانية العائلية الجميلة، أو التفكر في معاني الصوم العميقة ومقاصده، أو الغوص داخل الذات واكتشاف حالاتها الروحية الصوفية.
نحاول في هذا الاستطلاع طرق أبواب مجموعة من الكتاب والمبدعين العرب ليبوحوا لنا بذكرياتهم ونظراتهم وطقوسهم وعاداتهم في هذا الشهر الفضيل، وتحدثنا معهم عن علاقة كل ذلك بالإبداع والكتابة والقراءة.
الصوم شكل فريد من الحرية
يرى الكاتب الأردني جلال برجس أن الجسد حين يصفو من كل أشكال ملذاته، فإن العقل يصفو والروح أيضا، ويصبح الإنسان حرا من كل ما يمكن تسميته الاستعبادات اليومية؛ كالجوع، والعطش، والرغبة في التدخين عند المدخنين.
ويقول إن هذا الشكل الفريد من الحرية الروحية والجسدية الذي يتيحه رمضان يميط اللثام عن طاقة مخبوءة تمكن الإنسان من رؤية نفسه ورؤية ما حوله عبر مساحة وافرة من التأمل.
وأضاف “وجد الصوم للإحساس بالفقير، ولتطويع الجسد ليبتعد عن الارتهان لأي سلطة يومية. إن الإحساس بمن يهزمهم الجوع، وبحريتنا مما ننغمس فيه لمدة عام، ينميان فينا صفة العطاء؛ هذا ما تفعله بنا هذه الشعيرة المهمة”.
وتابع أنه يمضي شهر رمضان المبارك مع عائلتيه الصغرى والكبرى، لأنه يعدّ هذا الاجتماع اليومي حول مائدة الإفطار وقوفا في وجه كل ما يمكن أن يفتت بنية العائلة في هذا الزمن الملتبس. مضيفا أن هذا اللقاء الذي يمتد إلى ما بعد الإفطار بساعات فيه ألفة وتقارب مهمان، أما ما تبقى من الليل حتى وقت السحور فإنه وقت الكتابة بالنسبة إليه.
وأكد الروائي الحاصل على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2021 أنه عادة ما يأخذه الحنين في رمضان إلى الماضي، وإلى الطفولة خاصة، مرجعا ذلك إلى عدم قدرة الواقع على موازاة الذاكرة، “لهذا نلتفت دومًا إلى الوراء”.
وجد الصوم للإحساس بالفقير، ولتطويع الجسد ليبتعد عن الارتهان لأي سلطة يومية. إن الإحساس بمن يهزمهم الجوع، وبحريتنا مما ننغمس فيه لمدة عام، ينميان فينا صفة العطاء؛ هذا ما تفعله بنا هذه الشعيرة المهمة
ويقول إنه حين يفعل ذلك فإنه يتذكر تلك الأيام من شهر رمضان حين كانت القرية نقية، وبكرًا، وهادئة، ولم تطلها يد التكنولوجيا، ولا كل ما نلمسه اليوم من تغول الهندسة على العمران.
وأضاف “عادة أستعيد تلك اللحظات التي كنت أجلس فيها على ربوة يقع عليها بيتنا، وأحدق في منارة جامع مأدبا الكبير، التي ما إن تضاء حتى يتهادى إلى مسمعي صوت انطلاق مدفع رمضان، حينها تأتي أصوات الصبية من جهات القرية متفاوتة، بريئة، ومصابة بفرح غامر وهم يرددون “دب المدفع، دب، دب”. ويعم السكون في تلك اللحظات، ولا يتبقى إلا صوت نباح الكلاب، وثغاء الماعز، وخوار الأبقار، وتهليلات من هنا وهناك”.
وهو يسترجع هذه البساطة الغنية والعميقة في الطعام والعيش بكثير من الشوق والحنين في ليل هذا الشهر الذي يلقي بظلاله المباركة على الجميع، يؤكد أنه في تلك المرحلة الأهم من حياته كان منحازًا ككثير من الأطفال إلى جده وجدته، لأن كل شيء بمعيتهما كان لذيذا وهانئا.
وخلص صاحب رائعة “دفاتر الوراق”، إلى أن “رمضان زمان” كان شهرًا منتظرًا طوال العام، لا زحام فيه، ولا عراك ولا تخمة تصيب البطون، بل كان شهرًا يرفد الأرواح ببهجة استثنائية.
رمضان جسر للعزلة والتأمل الداخلي
من جانبه، أشار الكاتب المغربي عبد النور مزين إلى أنه كلما جرى الحديث عن الكتابة الإبداعية تحضر تلقائيا تلك الحالة من الطقوس اللصيقة بالكتابة، التي تشكل العزلة جزءا مهما وأساسيا منها، لما تتيحه للكاتب من هامش ضروري للتأمل والخوض في دهاليز النفس والفكر والمحيط وعلاقة الكائن المبدع بهذا الكون.
مزيج من النزوع نحو العزلة والغوص في الداخل والانغماس في تلك الحالة الروحية الصوفية التي يلقيها الشهر الفضيل في نفوس أكثر من مليار مسلم؛ حالة شبيهة بالرجوع إلى تلك الأسئلة البديهية الأولى والمؤسِّسة لعلاقة الإنسان بكينونته في هذا الكون
وأضاف “العملية الإبداعية خلال شهر رمضان بالنسبة لي هي مزيج من النزوع نحو العزلة والغوص في الداخل، وكذلك الانغماس في تلك الحالة الروحية الصوفية التي يلقيها الشهر الفضيل في نفوس أكثر من مليار مسلم؛ حالة شبيهة بالرجوع إلى تلك الأسئلة البديهية الأولى والمؤسِّسة لعلاقة الإنسان بكينونته في هذا الكون”.
ورأى مزين أن هذه الأبعاد الروحية التي تزداد تركيزا خلال شهر رمضان تمارس تأثيرا قويا على الحالة الإبداعية لديه من جهة التأمل في ماهية الفرد وعلاقته بالمحيط، وكذلك بدواخل النفس مع نزوع ملحوظ إلى ضبط الأولويات وترتيبها، ومن ضمنها ترتيب الأولويات الإبداعية.
ويوضح أنه في شهر رمضان ينزع أكثر إلى القراءة، بالإضافة إلى محاولة استكمال ما تم البدء فيه من تلك النصوص غير المنتهية. ويرى أن هذه العملية تساعده في محاولة استكمال تلك الدورة الإبداعية السنوية، وترتيب ذلك الإيقاع الذي لا مناص منه لانطلاقة جديدة.
وشدد مزين في الأخير على أن من بين هذه المتغيرات التي ترافق أجواء هذا الشهر الفضيل، تبقي تلك الحالة من النزوع إلى العزلة والتأمل شكلا مهما بالنسبة له لأنها تعدّ جسرا مهما لبلورة مشاريع إبداعية جديدة، وكذلك فهم أعمق، وغالبا ما يفضي إلى تعديلات أو تعميق وتجويد المشاريع الإبداعية التي هي قيد الإنجاز.
أما الشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري فيكشف عن أنه لا يزال وفيا لركنه القصيّ في بيته، ولا يسمح لأحد بأن يقتحم عزلته ويربك طقوسه التي تعود لنحو 40 سنة. ويرى أن رمضان زمن الكتابة والقراءة المقدس منذ شُغف بهذا الطقس المعرفي، ولا أحد يمكن أن يفرض عليه نمطا آخر للحياة، إلا الشهر الفضيل الذي يجعله يزداد التصاقا بعاداته وذاته وكتبه وأوراقه، مع بعض الانفتاح على العائلة.
يمكن القول إن شهر الرحمة والمودة يزيدني إدمانا على القراءة، خاصة الكتب الجديدة الروائية والمجاميع القصصية، ومنها الشعرية
وأضاف “يمكن القول إن شهر الرحمة والمودة يزيدني إدمانا على القراءة، خاصة الكتب الجديدة الروائية والمجاميع القصصية، ومنها الشعرية، رغم صعوبة قراءة نصّ كبير في ظلّ ما يتخبّط من ثرثارين لا يحترمون الشعر ولا يقفون عند حدّ. أنا منذ يومين أقرأ رواية محمد بن سيف الحلبي بعنوان “ناجم السادس عشر”، وهذا الكاتب العُماني أدهشني بأسلوبه الخاص جدّا في صياغة هذه الرواية، وقد كتبت عنها”.
وكشف عن أنه بصدد إتمام مجموعته الشعرية التي اختار لها اسم “بعضُ ما قال لي”، وسينشرها قريبا بعد أن يراجعها مراجعة أخيرة مع ناشره.
وقال الجزيري إنه يخرج عادة للنزهة قبل الإفطار، ثم يجلس مع العائلة ويستمتع معهم بالسهرات الرمضانية، وسرعان ما يعود إلى ركنه المحبّب إلى نفسه، حيث مشاريعه الإبداعية المؤجلة والكتب الكثيرة التي عليه قراءتها وتقديمها.
أحب قراءة القرآن بتدبر وتمعن
أما الكاتب الليبي جابر نور سلطان، فيرى أن رمضان حاليا بالتأكيد ليس مثل رمضان قبل نصف قرن، لأن الزمان تغير والضغوط التي تحاصر المبدع اليوم لم يكن لها وجود في عصر السكينة والإيقاع الهادئ وسلاسة العيش.
ويشير سلطان إلى أن الكاتب في عصرنا هذا لا يستطيع أن يتخلص من التزاماته التي تفرضها عليه ظروف الحياة القاسية ولا ظروف الأوطان التي تتقاذفها الرياح.
وأضاف “على الصعيد الشخصي، فإن لرمضان مذاقا خاصا في ليبيا؛ فالليبيون يحبون رمضان ويتعاملون معه بود وكرم ويحسنون ضيافته. وهذه الحالة المبهجة يصبح الكاتب جزءا منها. عن نفسي في رمضان أحب قراءة القرآن، ليس قراءة عابرة، بل قراءة تدبر وتمعن، وأحيانا أذهب لسور بعينها أعيد تلاوتها أكثر من مرة، وقد أدعو من في البيت لتأمل معانيها ومحاولة فهمها بعيدا عن بعض التفاسير النمطية”.
وتابع أنه يحاول أن يسحب نفسه من “ماراثون” الفضائيات والالتزامات الاجتماعية لينتقي من مكتبته ما يناسب روحانيات هذا الشهر. وهو من أول أيام رمضان بصدد مطالعة كتاب “الفكَه في الإسلام للكاتبة ليلى العبيدي”.
وأشار إلى أن روايته “الحارة السد” بدأ كتابتها في رمضان، حيث دون سابق تمهيد اندلعت أمامه ذكريات طفولته في رمضان في الإسكندرية قبل نصف قرن لتتداعى بعدها أحداث لا حصر لها.
وأضاف أن وميض رمضان وذكرياته كانا الشحنة الأولى لتكتمل الرواية في ما بعد، وتتداعى الأحداث بشكل مذهل، كأنها مدد صوفي روحاني قد أحاطها، والفضل في ذلك يرجع إلى الأجواء الرمضانية التي فاضت في الذهن والوجدان وأتت بجلها يافعةً نضرة.
الشعائر الجماعية لها وقع خاص، وشهر رمضان عبادة متصلة لساعات طويلة، وإحساس الإنسان بأنه متماهٍ في عبادة تجعله قريبا من الله بخطوات أكثر من المعتاد لا يضاهيه أي إحساس
وخلص نور سلطان إلى أن “الشعائر الجماعية لها وقع خاص”، وأن “شهر رمضان عبادة متصلة لساعات طويلة، وإحساس الإنسان بأنه متماهٍ في عبادة تجعله قريبا من الله بخطوات أكثر من المعتاد لا يضاهيه أي إحساس”.
فرصة لامتحان الذات جسدا وروحا
في حين ترى الكاتبة التونسية -المقيمة في فرنسا- فتحية دبش أن رمضان له طقوسه الخاصة عندما يصادف فترة الإجازات الطويلة التي تمكنها من العودة إلى حضن الوطن الأم تونس، ومشاركة أسرتها الموسعة روائح وعادات واحتفالات الشهر الفضيل.
وتؤكد أنها في هذه الحال لا تعتزل الناس والمطبخ، ولكنها بالضرورة تعتزل الكتابة والقراءة أيضا لتستمتع بمساءات الصحبة العائلية والطبخ والإفطار الجماعي حيث تكون صلة الرحم فيها صلاة وعبادة.
رمضان ليس فرصة لتشريع الكسل والتواكل بل هو فرصة لامتحان الذات جسدا وروحا ومدى قدرتها على تحدي هشاشتها من دون السقوط في الإفراط ولا التفريط
وأضافت “في الحالة الثانية وهي الأكثر شيوعا، عندما يصادف شهر رمضان فترات العمل، وبالضرورة استمرار الخضوع إلى جداول العمل التي لا تضع في حسبانها أي اعتبار لرمضان في فرنسا حيث أقطن؛ سيكون من الغريب أن أصرح بأنني لا أغيّر نمط نهاراتي ولا ليالي في هذه الحالة؛ إذ لا أطلب إجازة خاصة ولا تتغير مواقيتي إلا في نهاية الأسبوع، حيث أسمح لنفسي بما لا أسمح به في بقية الأيام من فوضى. وأرى أن هذا هو الوضع الطبيعي؛ فرمضان ليس فرصة لتشريع الكسل والتواكل، بل هو فرصة لامتحان الذات جسدا وروحا ومدى قدرتها على تحدي هشاشتها من دون السقوط في الإفراط ولا التفريط”.
وقالت إن رمضان بفرنسا في بيتها أقل صخبا منه في تونس، وهذا ما يمنحها القدرة على مواصلة طقوسها في الكتابة والقراءة والحياة بصفة عامة من دون تغيير كبير، مشددة في الوقت ذاته على أن ارتباطها بشهر رمضان في حقيقة الأمر لا يتعلق بالطقوس بقدر ما يتعلق بهذا الاتصال الروحي الذي يملؤها.
وتابعت -الحائزة على جائزة كتارا للرواية عام 2020 عن روايتها “ميلانين”- “في واقع الأمر، لا أحتاج إلى العزلة لأكتب أو أقرأ كما أسلفت، وإنما أحتاج إلى صفاء الذهن. وفي هذه الأوقات -وغالبا ما تكون في أعقاب الليالي والساعات الأولى من نهار رمضان- أكتب كثيرا وأقرأ كثيرا أيضا كما أفعل الآن، فأنا بصدد تدقيق كتاب تراسلي أنجزته مع أديب صديق، إضافة إلى أعمال أخرى في الترجمة والرواية وجملة من العناوين التي أود قراءتها وربما الكتابة عنها”.
وختمت دبش بالقول إنها في رمضان حين تتخيل أن هناك شيئا ما يجمع شتات الناس صياما كانوا أو مفطرين ينبت في قلبها أمل صغير بأن الحياة ممكنة وكامنة في بساطة الأشياء، فرمضان فرصة لا للتقرب من الله فحسب بل للتقرب من الذات ومن الإنسان فينا؛ فالموائد تذهب كما يذهب الجوع والعطش، ولكن الشعور بالرضا وتنقية النفس من شوائبها هو الأبقى، ويجب أن يستمر.