د. محمد حسن فضل الله يكتب الأزمة السياسية السودانية … خد الشيفران .. والخبراء الإستراتيجيون


(١)
تقول الطرفه أن أحد دعاة مهنة الخبراء فى السودان حينما سئل عن مجال خبرته أجاب أنه (يعمل خبير لتجلية الرقائق الزجاجيه والأسطح المعدنية بمواد كيماوية مركبة تحت ظروف مقيدة).. فلما أمعن القوم في مهنته وجدوه يعمل مستخدما لغسيل (أواني المطبخ) في أحد المطاعم المشهورة .. وعلى نسج هذه الرواية يذهب بعض المشغلين بعلم الحديث أن الصفات الواردة في حديث رسول الله.ﷺ عن رواية ابي ثعلبه ، وإثبات المنذرى في الترغيب والترهيب (إنَّ أحبَّكم إليَّ وأقربَكم منِّي في الآخرةِ محاسِنُكم أخلاقًا، وإنَّ أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم منِّي في الآخرةِ أسوَؤُكم أخلاقًا الثَّرثارون المُتفيهِقون المتشدِّقون) ما هي إلا صفات الكثيرين ممن يظهرون في القنوات الفضائية تسبقها صفة (خبير)… وفي معني المتفيقهون قال ابن الاثير هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم، واللفظ مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع. وتفيهق في كلامه توسع وتنطع..
(٢)
على أن تعريف (الخبير) في المعاجم يوصف بأنه شخص ذو دراية عالية، وله إلمام بموضوع فنى أو علمى أو عملى، يستعان به فى أمور تدخل فى اختصاصه .. وكلمة (خبير) تعني في اللغة الأدبية العالم البارع في الشيء والترجمة العصرية لها تتمثل في الشخص الدارس والمدارس لمجال ما والحاصل على الشهادات الأكاديمية العليا فيه، ليس هذا فحسب بل إنه من يجمع بين دراسة المجال دراسة نظرية وتطبيق الدراسات عمليا. ومع تشعب العلوم وكثرة التخصصات ومع التداخلات الموجودة بين الاختصاصات العلمية المختلفة أصبح هذا كله يأخذ من سنوات الإنسان الكثير ليتمرس ويتمرن ويتعلم ثم يكتسب الخبرة اللازمة التي ترافق باسمه تلك الكلمة المكونة من أربعة حروف والتي تسمح له بالخوض في مجال تخصصه وتحليله وتشخيصه لعلاجه،
(٣)
بيد أننا في زمان الإعلام المفتوح نستمع يوميا الي القنوات الفضائية التى تقدم طائفة من الخبراء يتم استضافتهم في الردهات والأستوديوهات، وتنشر مقالاتهم في أعمدة الصحف، وتطبع كتبهم دون أي نقد ، ويتم تسويقهم على أنهم العباقرة المتميزون .. والعلماء المجتهدون ، والخبراء المجددون ، الواحد منهم فريد عصره ،ويتيم دهره، معلم علامه ، وحبر فهامة، ومحدث دراكه .. أما الالفاظ التي يقدم بها الواحد منهم انه (محلل سياسي)، واحيانا (كاتب صحفي) وتارة (ناقد ) وتارة أخرى (خبير استراتيجي ) ومرات (المختص ) وأكثرها تكرارا (الخبير) …وعلى ذكر الرواية تجدر الاشارة الى تنوع ووفرة الخبراء عندنا في السودان الذين تذدحم لهم افضية القنوات الفضائية ، وتضيق بهم أروقتها، وتمتليء بهم ساحاتها .. ومن ثم اصبحت لهم سمعه ، وصارت لهم شهرة ،ونبتت لهم أسنمة ، واستطالت لهم قامة ، وارتفع لهم شأن .
(٤)
بيد أننا عند إمعان النظر، ومقايسة الاشباه، ومعادلة النظائر، ومقايسة الطرائق، ومجاوزة الفرائد، ندرك ان صفة الخبير هذه صفة مطاطية ، ولفظة خداعية .. فلا توجد جهة علمية اكاديميه تمنح صفة (الخبير ) ، ولا مرجعيه تعتمد مؤهلاتهم ،أو هيئة تسبر غور فكرهم ،أو مؤسسة تعاير رؤاهم ، أو مدرسة تمتحن قدراتهم … ولا تسمع بأحدهم قد فاق أقرانه في درجة علمية، أو سبق رفقائه في إنجاز اكاديمي ، أو تمكن من إعداد نظرية جديدة ، بل لو تتبعت سيرته لوجدته (الطيش) في دفعته العسكرية أو الأكاديمية ، وتعثر في الدراسة مرات ومرات، وكان أقرب إلى الفشل الأكاديمي منه إلى النجاح .
(٥)
المراقب بوضوح يلمح كثافة الذين تستضيفهم القنوات الفضائية لاسيما قناة الجزيرة الفضائية حيال الأزمة السياسية في السودان تحت مسمى (خبير) دون أن تقدم للمشاهدين سيرته الذاتية أو مجال خبرته ته ، أو محددات معارفه الفكرية أو حتي مجال تخصصه . فالمؤهلات لشغل صفة الخبير في بلادنا لدى القنوات الفضائية هي أن ترتدي بدلة انيقه بربطه عنق تتدلى لتخفي (الكرش) المنتفخ ، أو الزى الوطني المعد بعناية، ثم تتمشدق بالعديد من المصطلحات التى قد تكون لا علاقة لها بموضوع الحديث ولكن لها دونما شك تأكيد على خبرة الخبير، واتساع علمه وامتداد خبرته على شاكلة (الانثروبولوجيا _ الأيديولوجيا الأوتوقراطية البراغماتية _ للبروليتاريا _ البورجوازية _ الراديكاليه _ الرأسمالية الشوفينية_ البيروقراطية _ التعددية _ الليبراليه التكنوقراطية _ الثيوقراطية_ الدكتاتورية _ الديماغوجية).. وغيرها من المصطلحات التي تندر عليهه أهل العلم القديم وأسموها بلغة (كشاجم) ، ولفظة (كشاجم) منحوتة، من علوم شتى.. فالكاف للكتابة، والشين للشعر، والألف للإنشاء، والجيم للجدل، والميم للمراء .. المهم أن هذه العبارات تؤكد خبرة الخبير ونبوغه تماما مثل عبارة (خد الشيفران) عند بشار بن برد في قصة حماره المشهوره ..فلما سأله الشعراء عن معنى (الشيفران) … قال ما يدريني هذا من غريب الحمار فإذا لقيته فاسأله لكم .
(٦)
في كتابه ذائع الصيت (المثقفون المزيفون) تطرق المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس بإطناب عن ما أسماه ظاهرة (صناعة خبراء الكذب) في أروقة الإعلام بطرق ممنهجة، وعن استحواذ هؤلاء، المدعومين بلوبيات مؤسسات الإعلام، على كافة المنابر لعرض آراء معينة مخطط لها من قبل.. وقد قسم باسكال بونيفاس مثل هؤلاء الخبراء الى ثلاثة أقسام:
أولهم : المنخدعون، وهم الخبراء الذين يرتكبون أخطاء كارثية في تحليلاتهم دون قصد.
وثانيهم الخادعون، وهم من يؤمنون بتوجهات ما لكنهم يلفقون لها حجج مزيفة لحشد الناس ورائهم.
وثالثهم : الفئة الأخطر وهم المرتزقة، وهم من يدافعون عن شيء لا يؤمنون به ولكن فقط لأن الدفاع عنه يخدم مصالحهم.
(٧)
عل وجه العموم يبدو أن لدى المؤسسات الإعلامية قاموس آخر يعطي الكلمة تعريفا مغايرا ومخالفا فلا تتوانى في توظيف الأمر لخدمة أجندتها بلا ضمير أو محاسبة.وبغض النظر عن معيار الكفاءة لأولئك الأشخاص الذين تأتي بهم القنوات، وتلبسهم ثوب المجال الذي تريد هي توجيه الرأي العام فيه وتطلق لهم العنان بلا مقاطعة أو تضييق فالعجيب أن جل هؤلاء الذين تتم استضافتهم ، دائما ما تتفق أطروحاتهم وحلولهم مع الخلفيات السياسية أو الدينية التي تتبناها وسيلة الإعلام المستضيفة لهم، فلا أذكر أنني وجدت مختصا يقول بعكس قول القناة التي يتحدث عبرها ولا كاتبا يكتب بعكس المواقف التي تبطنها جريدته فلا المعارض السياسي يظهر في التلفزيونات الحكومية ولا الداعية السني في القنوات الشيعية ولا الإسلامي في المنابر العلمانية والحديث قياس.
(٨)
مرة أخرى الطرفة تقول: (في إحدى الحظائر تم فصل الابقار عن الثيران بسور من الاسلاك الشائكة لغرض التلقيح في وقت معين .. وعندها جاء احد الثيران وقد ثارت غريزته ولم يستطيع الصبر حتى اليوم المحدد فسأل عن كيفية عبور الاسلاك الشائكة فدلوه على ثور كبير يجلس بعيدآ إسمه (الخبير الاستراتيجي.. فجاء إليه وسأله عن كيفية إجتياز السور؟ فأجاب الخبير .. إبتعد عن السور مالا يقل عن 100متر وتجري بسرعةلا تقل عن60 كم في الساعة وتقفز من على السور بزاوية لا تقل عن 60 درجة عندها ستجتاز السور وتحصل على غايتك وعند قضاء حاجتك ترجع بنفس الطريقه فقال الثور: ماذا لو أنني أخطأت الحسبات كالسرعة أو الزاوية!! سأعلق في الاسلاك وأخسر أعضائي التناسلية فماذا أفمل حينها؟فقال الثور الجالس: تجلس بجانبي وتصبح خبير استراتيجي على القنوات الفضائية .)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *