تداولت قناة بي بي سي الفضائية العربية وبعض مواقع التواصل الاجتماعي، خبر مجالسة الملك تشارلز الثالث ملك المملكة المتحدة، مع بعض رموز منظومات وروابط جاليات سودانية في تلكم البلاد. وناقش معهم أوضاع اللاجئين السودانيين في بريطانيا، معرباً عن ضرورة تحقيق الأمن والأمان لهم في هذه البلاد. ووصف اللقاء، بأنه زيارة خاصة، قائلاً: “إنه سعيد جداً لأنكم بأمانٍ هنا، سيتعين علينا فقط أن نجعلكم أكثر أماناً يوماً ما”.
ودعت راشيل سنشري نائب الرئيس التنفيذي لمنظمة “ويغن بيس” التي نظمت لقاء بعض قيادات جمعيات وروابط من الجالية السودانية مع الملك تشارلز الثالث، إلى ضرورة تحقيق السلامة لأسرهم ومجتمعاتهم، وإعادة بناء حياتهم، في المملكة المتحدة، وتقديم مساهماتٍ كبيرةٍ للمجتمع البريطاني.
وقدمت الدكتورة داليا سعدابي تنويراً عن أوضاع اللاجئين السودانيين في بريطانيا، إلى حضرة الملك تشارلز الثالث، مؤكدة أن الملك مُدركٌ تماماً، لما تقوم به الجالية السودانية من أدوارٍ كبيرةٍ في المجتمع البريطاني. ولم تخفِ الدكتورة داليا سعدابي سعادتها بأن الجالية السودانية من أكثر الجاليات المقيمة في المملكة المتحدة، حفظاً للقوانين والتزاماً بها، متمنيةً أن تتواصل مثل هذه اللقاءات.
وكانت السفارة البريطانية في الخرطوم، ذكرت أن الزيارة جاءت استجابة لدعوة وجهتها إلى الملك إحدى الناجيات من النزاع في دارفور، مشيرة إلى أن الملك استمع خلال تلكم الزيارة إلى شهادات الناجين، والتعرف عن كثبٍ على مجتمع الجالية السودانية في المملكة المتحدة.
ولفت انتباهي في ذاكم الخبر، اسم الأخ المهندس عبد الله يحى إدريس أبو قردة الأمين العام لرابطة أبناء الزغاوة في بريطانيا، فسارعتُ إلى الاتصال بالأخ بحر إدريس أبو قردة رئيس تحالف سودان العدالة (تسع)، وأعلمته أنني في لندن، وأرغب في الحصول على رقم هاتف الأخ عبد الله إدريس أبو قردة، لمعرفة تفاصيل لقائهم بالملك تشارلز الثالث. وكما توقعت سارع الأخ بحر إدريس أبو قردة بإرسال رقم الهاتف وتقديمي لابن أخيه، مما جعل الحديث إليه سهلاً ميسوراً.
عُرف الملك تشارلز الثالث منذ أن كان ولياً للعهد، بتواضعه الجم، وهدوئه المعلوم، وصبره على الملمات والمصائب، وحرصه على أداء المسؤولية المجتمعية للعائلة المالكة البريطانية، إذ درج على لقاء العديد من المنظومات الاجتماعية والأقليات المسلمة وغيرها، وشهود مناسباتها واحتفالاتها. ولقد التقيته عندما كنتُ عضواً مؤسساً في جمعية العلماء الاجتماعيين المسلمين في بريطانيا، في تسعينات القرن الماضي. وتحدث إلينا في ذلكم اللقاء، عن أهمية الإسلام ودوره في تطور ورُقي الإنسانية. وحضرتُ محاضرته الشهيرة عن الإسلام في جامعة أُكسفورد البريطانية، لتغطية هذا الحدث المهم لصحيفة “الشرق الأوسط”، إبان عملي فيها بلندن لثلاثة عقود، إذ أظهر الأمير تشارلز في تلكم المحاضرة المهمة، معرفةً واسعةً، وفهماً دقيقاً، عن الإسلام، مما أثار الأمر لغطاً واسعاً، وإدعاءً غريباً، في الوسائط الصحافية والإعلامية آنذاك، بأن الأمير تشارلز أسلم وأخفى إسلامه. وأثار هذا الموضوع جدلاً مُثيراً عن أهليته لولاية العهد، ومن ثم تسنم المُلك بعد وفاة الملكة والدته، ولكن مرت العاصفة دون أن تؤثر على أهليته في ولاية العهد ولا المُلك، وها هو الآن الملك المتوج! كما حظي بإعجاب الكثيرين في المملكة المتحدة، لا سيما الأقليات، وذلكم لما يتبعه من أخلاقيات في أسلوب عمله، وعطفه على رعيته. وكان وما يزال حريصاً على إنفاذ مشاريع وبرامج المسؤولية المجتمعية للعائلة المالكة البريطانية داخل المملكة المتحدة وخارجها إلى يوم الناس هذا.
وحجاجي في أمر تواضعه، ما أوضحته صحيفة ” الديلي ميل” البريطانية -صحيفة تابلويد، فيها قدرٌ معلومٌ من الرزانة والاتزان- أن الملك تشارلز الثالث يتعامل مع مرؤوسيه بتواضعٍ واحترامٍ وتقديرٍ، إذ أنه انزعج من الصرخات العالية الصوت التي يرددها الحُراس خلال المارش (المسير العسكري”، حيثُ تتعالى فيه الصرخات والأصوات العالية، وضربات أقدامهم، فطلب مراعاة تخفيض هذه الصرخات العالية! ونقلت الصحيفة عن مصادر ملكية قولها إن مقترح الملك نُقل إلى الحُراس “بلطفٍ وأدبٍ”، وليس بـ”نوبةٍ عصبيةٍ”.
كان محدثي الأخ المهندس عبد الله يحى إدريس أبو قردة الأمين العام لرابطة أبناء الزغاوة في المملكة المتحدة، التي تأسست في عام 1996، وكانت في بادئ أمرها مسجلة في لندن، ومن ثم سُجلت في عموم المملكة المتحدة في عام 2004، تستهدف أبناء الزغاوة، ومعالجة مشاكلهم، ودمج القادمون الجدد في مجتمعهم البريطاني، والعمل على معالجة المضاغطات الحياتية التي يتعرضون لها، منها أمراض نفسية وعصبية!
لم تكن مجالسة المليك البريطاني لهم وآخرون، إلا بعد أن حدث لهم حادثٌ أليمٌ قبل قرابة الأربع سنوات، إذ حصل حادثٌ مُفجع من أحد الأطباء السودانيين الذي تعرف على أحد أعضاء الرابطة، فبدت على هذا الطبيب بعض الأعراض النفسية والعصبية، فما كان من هذا العضو إلا أن نقله إلى إحدى المستشفيات في منطقة برمنغهام التي يُقيمون بها. ولمَّا كان هذا الطبيب المريض من المتقدمين بطلبٍ للجوءٍ إلى بريطانيا، ويبدو أن طلبه قد رُفض، فانتابته نوبة عصبية، نُقل على إثرها إلى تلك المستشفى، فصرفوه دون علاج، بحسبان أنه يُرِيد أن يتحايل على القوانين بإدعاء أنه حالة مرضية نفسية عصبية! بعد يومين من مغادرته المستشفى، ارتكب جريمةً بشعةً، حيثُ قتل عضو رابطة أبناء الزغاوة في بريطانيا، والذي أحضره للرابطة، وذهب بها إلى تلك المستشفى، بعد أن بدت منه تلك الأعراض. وكانت عملية القتل بشعة للغاية، إذ قطع رأسه وشرحه. فرفعت الرابطة دعوى قانونية ضد المستشفى، بحجة أنها تسببت في مقتل ابنها، لسماحها بخروج المريض دون التأكد من سلامة حالته النفسية والعصبية!
وفِي بادئ الأمر، خسرت الرابطة القضية في المحكمة الأولى، نتيجة حجب المستشفى للمعلومات عن الرابطة، فتقدمت الرابطة باستئناف، فأمرت المحكمة المستشفى بالإفصاح عن المعلومات المطلوبة في هذه القضية. فكسبت الرابطة القضية. وطلبت المحكمة من المستشفى معالجة هذه المشكلة، وهذا يعني أن تدفع المستشفى تعويضاً مالياً مُجزياً للرابطة، لمعالجة القضية خارج المحكمة! كما أن أحد أبناء الرابطة ذهب إلى المستشفى في حالة نفسية وعصبية، فخرجوه دون علاجه، فذهب إلى المنزل الذي يسكن فيه مع آخرين، واستل سكيناً وهجم على رفقته، ولكن تمكنوا منه، وطلبوا الشرطة، التي قبضت عليه واقتادته إلى السجن، فمات في السجن! وأرسلت الرابطة خطاباً إلى المستشفى وال بي بي سي BBC. وبعد وفاة هذا الشاب في السجن تحركت ال بي بي سي! وأجرت ال بي بي سي، لقاءً مع قيادات الرابطة وأسرة الراحلين خالد سنين وأحمد عُمدة. ومن هنا، تم نقل الموضوع إلى الإعلام، لأن تعامل تلكم المستشفى مع المرضى، خطرٌ على أعضاء الرابطة وعلى المجتمع كله.
وكان من أبرز الحضور في لقاء الملك تشارلز الثالث، المهندس عبد الله يحى إدريس أبو قردة،
الذي قدم تنويراً للملك، شارحاً من خلاله أوضاع عضوية منظومته، ودورهم في الالتزام بالقوانين.
وتطرق إلى الحادثتين المآساويتين اللتين شهدتهما الرابطة أخيراً، مُشيراً إلى سعيهم في الرابطة إلى الجلوس مع السلطات الصحية في المنطقة لمعالجة قضية الراحل خالد سنين، في إطار التفاوض حول قيمة التعويض بعد أن حملتها المحكمة مسؤولية ما حدث لعضو الرابطة.
وطالبت الرابطة في بيانها الوسائط الصحافية والإعلامية تسليط الضوء حول قضية الراحل خالد سنين، باعتبارها واحدة من أبشع جرائم القتل في بريطانيا، مُشيرة إلى أنها تفاجأت بتكرار الخطأ نفسه، على الراحل محمد عُمدة أحمد!
أخلص إلى أن مُجالسة الملك تشارلز الثالث مع جمعيات ومنظومات من الجالية السودانية في بريطانيا، لم تكن مُجالسة عادية، لكنها جاءت بعد جريمةٍ بشعةٍ وسط الجالية السودانية في منطقة برمنغهام البريطانية، أقلقت أهالي تلكم المنطقة والذين سمعوا بها في بريطانيا، لا سيما وأن الحكومة البريطانية شرعت في إنفاذ سياساتها الجديدة تجاه اللاجئين، فحاصرتهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما العودة إلى بلادهم أو الذهاب إلى رواندا! بينما حُلم الذين جاءوا إلى بريطانيا بقوارب الموت أو عابري الأنفاق أو قابضي أسافل الشاحنات! ففكر بعضهم في خيارٍ ثالثٍ لتحقيق هذا الْحُلْم المستحيل في بريطانيا اليوم! وهو إدعاء الإصابة بحالاتٍ نفسيةٍ ونوباتٍ عصبيةٍ، تُبقيهم إلى حين! وحينٌ في اللغة العربية تعني وقت من الدّهر طال أم قصُر “{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} – {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} – {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ} “. وإن قولنا حين إسم جمع أوقات” متناهيةً سواء كان سنةً أو شهوراً أو أياماً أو ساعاتٍ، ولهذا جاء في القرآن لمعانٍ مختلفةٍ. وفِي مجالستي لبعض الأصدقاء من الأطباء في بريطانيا، أشاروا إلى أن هذه ظاهرة خطيرة يُعاني منها شباب اللاجئين الذين يركبون المخاطر للوصول إلى بريطانيا، فيجدون قوانين لجوءٍ قاسيةٍ، فيتبدد حُلمهم هباءً منثوراً، إذ أن إدعاء الحالات النفسية والعصبية لا يعصمهم من المجهول!
لم يكن غريباً، أن يهتم الملك تشارلز الثالث بالقضايا المحلية، فهو معروفٌ عنه اهتمامه بالقضايا المحلية. فلا غروّ أن أكد لمجالسيه من السودانيين، أن مهمة حكومته توفير الأمن والأمان في بريطانيا. وأنه يُرِيد أن تكون بريطانيا مأمن لكل المواطنين والمقيمين والزائرين. ولم يفتْ عليه أن يُذكرهم بتاريخ العلائق البريطانية السودانية، ووعدهم بلقاءاتٍ أُخرٍ.
i.imam@outlook.com