بحسب الصيغة التي يقترحها ما يسمّى الاتفاق الإطاري في السودان، بين النظام القائم وفصيل من قوى الحرية والتغيير (قحت)، فإن مهام الفترة التي يغطّيها الاتفاق (عامان) ستركّز على إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية والعدلية والإدارية، وإعادة هيكلتها، وتشكيل حكومةٍ مدنيةٍ ومجلس تشريعي وإصلاح الاقتصاد، وتفكيك ما تبقى من نظام الإنقاذ، وسن قوانين انتخابات وإنشاء مفوضية انتخابات، وإجراء انتخاباتٍ ديمقراطية. ذلك كله في عامين.
يشمل هذا دمج المليشيات، وفي مقدمتها قوات الدعم السريع، في القوات المسلحة، لإنشاء جيش وطني مهني موحّد، وهذا تحدٍ كبير. وبحسب الآليات المقترحة، سيجرى اختيار الحكومة الجديدة من الجهات الموقعة على الاتفاق الإطاري، وهي قطاع صغير من قوى الحرية والتغيير، يتمتع بسندٍ شعبيٍّ محدود جداً، ولا يمثل الشعب السوداني بأي مقياس. ستتولّى هذه الجهات نفسها تعيين المجلس الأعلى للقضاء، وآليات (وإجراءات) فصل القضاة وتعيينهم، وتتولّى تعيين المجلس التشريعي، وحكّام الأقاليم، وتعيد بناء الجهات الأمنية والعسكرية والمدنية. كذلك، ستفكّك ما بقي من النظام السابق وتفصل من ترى من العاملين في الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وتصادر الأموال وتلاحق المتهمين بجرائم ضد المدنيين، أو ضد الأموال العامة… إلخ. ولهذا الغرض، ستُسنّ قوانين تحصّن هذه الملاحقات من أي قيود قانونية أو قضائية، وتجرّم انتقادها أو “عرقلة” عملها. بالرغم من أن استقلال القضاء سيصبح على كل حالٍ في خبر كان، فالسلطة التنفيذية هي من سيسنّ القوانين ويعيّن القضاة على أسس سياسية.
المفارقة أن الاتفاق ينصّ على احترام حقوق الإنسان وسلطة الشعب وحقوق المواطنة المتساوية، وحرية العمل المدني والسياسي، وأسس العدالة. ويُكثر الاتفاق من الدعوة إلى احترام الدستور، في حين أن الجهات التي ستتولّى الحكم ستكون هي من يكتب الدستور، في غياب معظم القوى السياسية في البلاد. وهذا يعني أن الدستور هو من سيحترم الإرادة السياسية للحاكمين، وليس العكس.
التحالف المدني الموقع على الاتفاق مع المكون العسكري يفتقد السند الشعبي
هناك أكثر من إشكالية في هذا المخطّط، بداية من ازدحام الفترة الانتقالية بمهامّ تنوء بها الجبال، فكل مهمة من التي وضعها الموقّعون على عاتقهم تحتاج عقودا لإتمامها، إذا خلصت النيات وتوفرت الكفاءات اللازمة، والالتفاف الشعبي حول هذه الأهداف. فكيف يتم إصلاح الاقتصاد المنهار وإصلاح المؤسسات الأمنية، وإنهاء وجود المليشيات وإعادة تشكيل المؤسسات القضائية والعدلية، وصياغة دستور للبلاد، ثم الإعداد لانتخاباتٍ وإجراؤها في عامين؟ هذا كله في ظل استقطاب سياسي حاد وحالة أمنية متدهورة، وفقر في الكوادر ذات الكفاءة والخبرة.
ومعروفٌ أن التحالف المدني الموقع على الاتفاق مع المكون العسكري يفتقد السند الشعبي، ولا يجرؤ أيٌّ من أحزابه على التظاهر في الشارع. وفي آخر مرّة خرجوا فيها للتظاهر في قضيةٍ لا خلاف عليها، نجوا بأعجوبةٍ من فتك الجماهير. وهناك قطاعاتٌ واسعة تشمل الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، وقوى مهمة في الشرق والشمال والوسط، وقوى راديكالية يسارية، وما تسمّى لجان المقاومة، إضافة إلى قطاعات كبيرة من القوى الإسلامية، تقف ضد هذه المجموعة ولا ترى أنها تمثلها.
وعليه، لن يكون اضطلاع هذه المجموعة بعملية إعادة صياغة كل مؤسسات الدولة، من قضاء وجيش ومجالس تشريعية وخدمة مدنية وقطاع اقتصادي… إلخ، سوى عملية تمكين جديدة لأقلية سياسية ومناطقية، فهي أشبه بثورةٍ لينينية تقوم بعملية “تطهير” لخصومها وتمكين لمناصريها. الفرق أن لينين قام بثورته حينما كان لديه سند شعبي، وقام بتأسيس السوفييتات كإطار سياسي -إداري لتنفيذ مشروعه، وذلك بعد انهيار الجيش الروسي وتفككه وانهيار النظام الملكي ومؤسّسات الدولة. وبالمقارنة، يتصف الوضع في السودان بضعف المجموعة “المدنية” وعزلتها، وفقدانها قيادة سياسية دينامية، وكفاءات إدارية وسياسية ذات وزن، مع وجود جيشيْن مدجّجين بالسلاح حتى الأسنان، وعشرات المليشيات المتمركزة في الخرطوم وخارجها. وأي وهم بأن رئيس وزراء (غير معروف) سيصل إلى القصر الجمهوري ثم يبدأ في تفكيك الجيش وإلغاء المليشيات وإعادة هيكلة الدولة بجرّة قلم من الأوهام التي تبعث على السخرية.
الكل يعلم أن أصل قوات الدعم السريع هو مليشيا قبلية، وأنها مؤسّسة شبه خاصة تديرها أسرة واحدة
الأرجح أن مثل هذه “الثورة اللينينية” ستحتاج سندا عسكريا قويا لفرض الإرادة السياسية الثورية على القوى المناوئة وعلى الجيش والمليشيات معاً. ذلك أن الاتفاق نصّ على استقلالية الجيش عن السلطة في مقابل المدنية الكاملة للحكومة. وعليه، أي مقترحات لإعادة هيكلة الجيش ستتطلب موافقة الجيش. وبالقدر نفسه، ستحتاج أي قرارات بدمج مليشيا الدعم السريع في الجيش موافقة هذه المليشيا. وكلاهما أقرب إلى الاستحالة.
ويبدو من قراءة وراء السطور أن المجموعة المدنية قرّرت التحالف مع مليشيا الدعم السريع ضد الجيش، وهي الاستراتيجية الكارثية نفسها التي كانت قد اتخذتها قوى الحرية والتغيير (قحت) في الفترة الانتقالية المنهارة. وكنا حذّرنا وقتها من مخاطرها، وصدق تحذيرنا، فقوات الدعم السريع هي التي فضّت الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم (يونيو/ حزيران 2019) ثم انحازت إلى انقلاب أكتوبر 2021. وأي اعتقاد بأن هذه القوات ستتعاون في مشروع دمجها في الجيش محض خيال.
يصف الاتفاق الإطاري قوات الدعم السريع بأنها “قوات عسكرية تتبع للقوات المسلحة، ويحدّد القانون أهدافها ومهامها”. وهذا التعريف غير دقيق، إذا لم نقل إنه مخالف تماماً للواقع، فالكل يعلم أن أصل قوات الدعم السريع هو مليشيا قبلية، وأنها مؤسّسة شبه خاصة تديرها أسرة واحدة، على غرار قوات فاغنر أو بلاك ووتر، سوى أن تلك مؤسّسات قامت في دول عظمى لديها جيوش تسد الأفق، ولا تسمح أوضاعها بأن يكون لمليشيات من هذا النوع نفوذ سياسي، أو صفة فوق القانون. إلا أن قوات الدعم السريع أصبحت موازية للجيش، وتتحدّاه. ولم يجرؤ الجيش على وضعها في مكانها الصحيح.
لم نسمع بجيشٍ وطنيٍّ يتفاوض مع وحدة تابعة له بشأن أمور عملياتية، تتعلق بدورها وكيفية تنظيم عناصرها
والسؤال هو، أولاً، لو كانت قوات الدعم السريع أصلاً تابعة للقوات المسلحة، فما هي الحاجة إلى “دمجها في الجيش”؟ كان يكفي فقط أن يُصدر القائد العام للجيش قراراتٍ بإعادة هيكلة القوات، ودمجها في القطاعات المناسبة، وتسريح من يلزم تسريحُه منها. فلم نسمع بجيشٍ وطنيٍّ يتفاوض مع وحدة تابعة له بشأن أمور عملياتية، تتعلق بدورها وكيفية تنظيم عناصرها، فضلاً عن التفاوص مع مليشيا خاصة بشأن كيفية تغلغلها في الجيش على شروطها، بل وتحكّمها في شروط هذا الانضمام، فأهم خاصية من خصائص الجيوش الوطنية أن الانضمام إليها فردي، ووفق شروط متساوية، فكيف يصبح لمليشيا قبلية فجأة حق الانضمام بالجملة إلى الجيش القومي، وبحسب رتب عشوائية ما نزل بها من سلطان؟ وكيف يستقيم هذا مع قومية الجيش المزعومة ومهنيته.
هذا بالطبع إذا قبلت المليشيا الاندماج، وهي لن تقبل، لأن الاندماج يعني إنهاء وجودها، وبالتالي إنهاء النفوذ غير المشروع لقادتها. ولكن يبدو أن هناك صفقة بين “قحت” والمليشيا على أن تصبح المليشيا هي الجناح العسكري لـ”قحت”، بحيث تشرف معه على تفكيك الجيش الوطني، وإحلال مليشيا “قحتية” محلّه، بإشراف الدعم السريع. وكنا قد تحدّثنا أكثر من مرّة عن إشكالية هذا الوهم، وحينما كان لا يزال لـ”قحت” سند شعبي وإقليمي ودولي، فقد سعت “قحت” حينها إلى الاحتماء بـ”الدعم السريع” ضد الجيش والقوى السياسية المنافسة، فذاقت وبال أمرها. فإذا كانت المليشيا لا تقبل أن تتبع للجيش، فكيف تصبح أداةً في يد فصيل سياسي غاية في الضعف والتفكّك، سيضعها في مواجهة الجيش وقوى سياسية كثيرة؟ وقد صدقَ المتنبي في ملاحظته الثاقبة في هذا المقام “ومن يجعل الضرغام بازاً لصيده/ تصيده الضرغام فيمن تصيدا”.
نحن، إذاً، أمام تجربة كارثية أخرى، لا تحتاج إليها البلاد، بدايتها طموحاتٌ غير مشروعة، ووسائلها ملتوية ومتناقضة، ووعودها كبيرة ومستحيلة، ومتناقضة أيضاً. هذا إذا افترضنا صدق النّيات لدى أطراف الاتفاق، وهو موضع تساؤل كبير، فمن المستبعد أن تكون الجهات العسكرية، سواء مجموعة عبد الفتاح البرهان أو مجموعة الدعم السريع، صادقة في دعم مرحلةٍ يسودها حكم القانون ومحاكمة مرتكبي جرائم الحرب، حيث إن للطرفين سجلا طويلا وموثّقا حول ارتكاب جرائم في دارفور، ثم فض الاعتصام وقمع التظاهرات. كذلك، فإن وهم انصياع الجيش وقوات الدعم السريع لتعليمات فئةٍ سياسيةٍ معزولة لتفكيك نفسها، ثم الخضوع إلى المحاكمة والمساءلة، هراءٌ لا يقبله عقل.
الطريق إلى الديمقراطية لن يكون عبر خطّة انقلابية، تمارس عبرها فئةٌ معزولةٌ وغير منتخبة سلطات وصلاحيات مطلقة بحماية مليشيا
كذلك، لا يزال موضوع “تفكيك التمكين” إشكالياً، ليس فقط لما شاب التجربة السابقة من مخالفات للقانون وحقوق الإنسان، وشبهات فساد، بل كذلك لأن الحديث عن “تمكينٍ” بعد أربعة أعوام من سقوط النظام السابق وحل الحزب الحاكم وتقديم قيادات النظام إلى المحاكمة يثير عدّة تساؤلات عن سند مثل هذه المزاعم. وإذا كان هذا “التفكيك” فشل رغم كل ما جرى، فإن من المستبعد أن تكون النتيجة هذه المرّة أفضل.
ما يمكن أن يقال هنا هو العودة إلى بدهيات أن الطريق إلى الديمقراطية لن يكون عبر خطّة انقلابية، تمارس عبرها فئةٌ معزولةٌ وغير منتخبة سلطات وصلاحيات مطلقة بحماية مليشيا ذات طبيعة وتاريخ إشكاليين، في ظل فقدان حكم القانون واستقلال القضاء. كذلك، يقول العقل إن التحرّك نحو الديمقراطية غير ممكن بدون إجماع وطني على أساسياتٍ، مثل مبادئ دستورية متفق عليها، وعدالة في توزيع السلطة، واستيعاب لكل القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة.
ولا يمكن بأي حال أن يحدّد مستقبل البلاد على أساس اتفاقٍ رتّب في الغرف المغلقة بين مغتصبي السلطة وفئة بالكاد تمثّل نفسها، وفي غياب نقاش شعبي واسع.
ولا بديل، في ظل الخلافات القائمة، عن إعلان حكومة وحدة وطنية تدعمها كل ألوان الطيف السياسي ومناطق السودان، مهمتها فقط العمل على إصلاح الاقتصاد، وتقوية مؤسّسات الدولة من إدارية وعدلية، وضمان فاعليتها وحياديتها ونزاهتها، وأن تمارس أقلّ قدر من التدمير للمؤسسات ولاقتصاد البلاد، في حين تركّز على التحضير لانتخابات ديمقراطية تكون لبنة لبناء دولة ديمقراطية توافقية… كل ما عدا ذلك تضييع للوقت والجهد، ومزيد من تدمير ما بقي من البلاد، ووصفة لانهيار الدولة.
وكل رمضان وإبريل وأنتم بألف خير.