من البديهيات المعروفة أن البشر في هذا العالم ظلوا عبر التاريخ في حالة تنافس يحكمه القوي، وامتداداً لهذا الإرث البشري ظهر في القرن الماضي النظام العالمي المعروف بنظام القطبية الثنائية، حيث انقسم العالم ما بين السوفيت والولايات المتحدة، هذا الوضع قاد لحدوث شيء من التوازن دولياً انعكس في تحقيق قدر من الاستقرار والسلام الدولي، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي تبلور نظام القطبية الأحادية المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن حينها دخل العالم في حالة من عدم الاستقرار، فحدثت الفوضى المالية والفوضى الثقافية والفوضى الأخلاقية مع دمار هائل في البيئة واستنزاف حاد للموارد، ولم يهدأ العالم خاصة في الشرق الأقصى والأوسط حيث تم تطبيق منهج الفوضى الخلاقة، لنشهد تبعاً لذلك موجات من الحروب التي قادت لتدمير دول بأكملها تحت ذرائع وهمية مع إحداث دمار نفسي هائل وعمليات واسعة لتحقيق الهيمنة، كان من أدواتها المهمة صناعة الأنظمة الموالية والحروب الإعلامية وتأسيس التنظيمات المتطرفة والتنظيمات المسلحة بجانب استخدام نظام العقوبات الآحادية. وقد وقع السودان ضحية هذه العقوبات التي مثلت نوعاً من أنواع الإرهاب حيث تم استخدام مبدأ تطبيق عقوبات جماعية على السكان المدنيين، حيث تجاوزت العقوبات الحكومة وأثرت على المواطن السوداني في مناحي الحياة كافة، كما أدت لإضعاف الأداء الكلي للدولة ومهدت بالتالي لوضع الدولة في دائرة الابتزاز والامتثال للشروط الغربية، وهو المغزى الأساسي لمبدأ العقوبات.
نفهم من هذا أن سياسة العقوبات تمثل وسيلة تستخدم في إطار عمليات إدارة التنافس الدولي تؤدي للإضعاف ومن ثم الهيمنة والابتزاز، وكنت قد أنتجت فيديو قبل ثلاثة أعوام حقق انتشاراً واسعاً تنبأت فيه بتعرض السودان للابتزاز ومحاولات إعادة توجيهه وفق حيثيات التنافس الدولي، ولعل المتابع للشأن السوداني عقب ثورة ديسمبر 2018، يلاحظ أن المسرح السياسي يدار بمنهج يؤسس لإكمال ما أنجزته العقوبات الآحادية ولا زال الاستهبال السياسي الخارجي مستمراً تارة باستخدام سياسة الوعود وتارة أخرى بالتهديد وفرض الاشتراطات التي لا حد لها.
تحولات دولية حاسمة:
لكن من حسن حظ السودان أن العالم يشهد حالياً مخاض لميلاد نظام عالمي جديد يسعى لإنهاء الهيمنة الآحادية وتأسيس نظام عالمي جديد بأدوات جديدة، ولعل دخول روسيا إلى أوكرانيا لم يكن حرباً بالمعنى وإنما إشارة لدخول العالم لمرحلة توازن استراتيجي جديد، فيما بدأت الولايات المتحدة تفقد أهم أدواتها في السيطرة، ولا أعني الآلة الحربية فحسب، وإن كانت المؤشرات تميل لصالح حدوث توازن عسكري بين الأطراف الجديدة، لكن ما أعنيه هو بعض الوسائل الذكية التي ظلت تستخدمها الولايات المتحدة خلال عقود مضت، على رأسها السيطرة على المواقع الجيوستراتيجية وعلى مصادر الموارد الطبيعية بجانب فلسفة السيطرة على العالم عبر الدولار وما يتصل بذلك من سياسات وقواعد واتفاقيات دولية مثل نظام التحويلات المالية المعروف بال ( SWIFT ) الذي أعطى قدراً عظيماً من التحكم الأمريكي على حركة المال، فضلاً عن اتفاقية البترودولار وغيرها من الاتفاقيات التي تفرض بيع السلع الاستراتيجية بالعملة الأمريكية، الشئ الذي أعطى الولايات المتحدة نفوذاً دولياً عظيماً مكنها من تحقيق مصالح اقتصادية ضخمة، وأصبح جانب كبير من التجارة الدولية يتم بعملة تفتقد للغطاء الكافي من الذهب، وتحت ذريعة “الديمقراطية” سيطرت الأقلية من سكان الأرض من الدول الغربية على موارد الأغلبية وتحت ذريعة “الديمقراطية” سيطرت الأقلية من سكان الأرض على القرار الدولي.
وعي سياسي عالمي :
في هذه الأثناء وتحت مظلة وعي سياسي عالمي جديد، تجري محاولات جادة لتأسيس نظام عالمي بواسطة تحالف يضم نصف سكان الأرض ( روسيا والصين والهند)، بدأت معالمه تظهر بشروط روسيا لبيع الغاز وبعض السلع الاستراتيجية بالروبل، وهو ذات المنحى الصيني، مع ترتيبات متعددة تجريها الدبلوماسية لإلحاق آخرين لنظام التعامل النقدي البديل مع إطلاق نظام بديل للـ( SWIFT )، مع اهتمام واضح بتكوين احتياطيات ضخمة من الذهب بواسطة الصين وروسيا وكثير من دول العالم، بدأت منذ ثلاثة عقود، يتم هذا في وقت تتسيد فيه الصين القارة الإفريقية من حيث الاستثمارات بينما بدأ الدخول الجاد للروس، في تحول اقتصادي كبير يشهده العالم سيتراجع فيه دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
في هذه الأثناء باتت الدول الغربية التي ظلت تقف خلف المشهد السوداني تعاني آثار الأزمة المالية وتواجه إشكالات حقيقية مثل نقص إمدادات الطاقة والمعادن الصناعية بجانب الأزمة الديمغرافية، مع تناقص كميات المياه العذبة وخروج دول كبيرة عن إنتاج الغذاء بسبب الجفاف والتصحر، فضلاً عن خروج مساحات واسعة من أراضي الاتحاد الأوربي بسبب الشيخوخة، هذا بجانب العجز العالمي من المعادن الصناعية النادرة والذي بات يعطي سيطرة للصين على السوق العالمي، مقابل ضعف للدول الغربية، هذا فضلاً عن الضربات المتوالية لبريطانيا والتي تفاقمت أكثر بخروجها من الاتحاد الأوربي.، بينما تعيش فرنسا أصعب لحظاتها في إفريقيا بعد تنامي الوعي الإفريقي وظهور بدائل لشركاء دوليين آخرين وربما يكون خروجها من مالي هو مجرد بداية وليس حدثاً معزولاً.
كل ذلك يحدث في ظل وضع اقتصادي أمريكي حرج تمثلت أهم مؤشراته فيما ذكرته أعلاه بجانب تنامي العجز بين الناتج الإجمالي والدين، والذي وصل لعشرة تريليون دولار، وبدأت حملات واسعة للتخلص من سندات الخزانة الأمريكية حيث تقلصت حصة الصين من 1.3 تريليون العام الماضي، إلى حوالي 850 بليون في يناير الماضي، وهو نفس الإجراء الذي تم من اليابان ودول أخرى، وبذات المنحى نستطيع أن نفهم صفقة شراء طائرات البوينج التي جرت مؤخراً بأنها ترتيب سعودي لاستبدال كوم الدولارات الورقية بسلعة ذات قيمة، وهو ما يبرر رفض صفقة الـ ( Airbus) الأوربية التي تبدو أفضل من عرض البوينج.. إن التخوف العالمي من العملة الأمريكية واللجوء لتبادل تجاري آمن ربما يكون سمة سائدة قريباً.
كل تلك الأوضاع تعني صعوبة ممارسة الهيمنة الخارجية كما كان سابقاً، كما أن هذه التطورات لا تعني التمحور بالضرورة مع طرف دون آخر وإنما تعني إمكانية تحقيق مصالح مشتركة بشروط عادلة دون هيمنة، تعني فرصة أكبر لشراكة دولية عادلة ما بين جنوب العالم وشماله، تراعي أمن الإنسان وسلامة البيئة وحقوق الأجيال القادمة، كما تعني تلك التطورات توجه العالم إلى إفريقيا بقوة، إفريقيا الواعدة بكتلتها السكانية الفتية ومواردها المتنوعة ووعيها المتنامي، لقد دخل العالم فعلياً مرحلة الصراع العلني المكشوف حول إفريقيا، الشئ الذي يؤهل السودان ليصبح مسرحاً لشراكة إقليمية ودولية، تؤسس لمصالح الطرفين ولإرادة الشعب السوداني، يمكن أن تجعل السودان منصة ليس فقط في المصالح الاقتصادية وإنما كذلك منصة لتحقيق السلام المستدام والاستقرار على الصعيد المحلي والإقليمي.
فإذا كان العالم يتحدث عن الذهب، والسودان هو أرض الذهب بما له من احتياطات ضخمة، فيمكن حينئذ تبين ضخامة الفرصة المتاحة للسودان، كما يمكن تبين خطورة غياب الرؤية والعقل والوعي الاستراتيجي والسلوك السياسي السلبي.
فرصة ماسية لتلافي الابتزاز :
رغم وضوح المشهد العالمي ووضوح الفرصة الماسية التي تتيح للسودان تلافي مخطط الابتزاز وإعادة التوجيه وفق مرجعيات خارجية، والقفز بالزانة لتحقيق مصالح استراتيجية كبيرة للسودان تعوضه خسارات الماضي، إلا أن الواقع يشير لسلوك وفعل سياسي منقاد لعملية الابتزاز رغم التغيرات الديناميكية التي تجري على المسرح الدولي والتي أضعفت فعالية استراتيجية التمهيد للابتزاز وبشكل كبير، وكأنما نحن في كوكب آخر.
ما يهزم السودان ويضيع عليه الفرص المتتالية هو غياب الوعي الاستراتيجي لمعظم من هم في قيادة المسرح السياسي، وغياب الإرادة لدى البعض واستلابها من البعض الآخر، مع أنانية للبعض هنا وهناك ممن يرجحون مصالحهم الذاتية الضيقة على مصلحة وطن وشعب فاض به الكيل، وقبل كل ذلك غياب الرؤية الاستراتيجية التي تستوعب تطورات المشهد الدولي، وتدرك مكامن قوتنا الوطنية وما يقابلها من فرص وتهديد وما يقابلها كذلك من أوضاع ونقاط ضعف لدى خصومنا، لتستوفي ترتيبات ذكية تنطلق من هذا الإطار.
لقد تجسد أكبر تحدي للسودان مؤخراً عندما تمت سرقة الثورة السودانية بدعم من جهات خارجية ظلت تقف خلف المشهد السوداني، لتتحول وبشكل درامي غريب كل أدوات السيطرة على المسرح السياسي لجهات عسكرية وسياسية غير مفوضة من الشعب السوداني، حيث لم ولن تستطيع أي جهة من تلك الجهات أن تقدم دليل علمي وعملي يثبت التفويض ويفيد بإجراء دراسة ميدانية أو استفتاء وفق مناهج علم الإحصاء المعروفة عالمياً، للملايين التي خرجت في السادس من أبريل والثلاثين من يونيو، وهي الجماهير التي غيرت المشهد السياسي وفرضت التغيير، وهذا يعني أنه من غير المنطقي ولا المقبول أن يتم تقرير مصير السودان عبر جهات غير مخولة من الشعب السوداني ولا حتى من الثوار، وليس من المقبول كذلك أن نكون رهن الابتزاز رغم كل المتغيرات الكبيرة التي تحدث حولنا.
لحظة فارقة:
على الساسة والعسكر والشباب إدراك طبيعة المشهد الدولي وتطوراته وطبيعة المسرح السوداني والانتباه إلى أن الموطن الآن ليس موطن اجتهادات عشوائية ولا موطن لتحقيق مكاسب شخصية ولا موطن لفرض الرأي بالقوة ولا موطن للتنازل على حساب الوطن والخضوع للابتزاز، وإنما موطن حساب يؤسس لمصلحة الوطن يدرك اللحظة التاريخية، يعتمد على المعرفة والتفكير الاستراتيجي، يؤسس للسيادة الوطنية لا استلابها، يؤسس للتنازل لمصلحة الوطن لا عليه، نرتقي فيه فوق الأنا نحو رحاب الوطن.. نحن أمام لحظة مفصلية فارقة أساسها صحوة الضمير السياسي ورقي الوعي وسلامة منهج التفكير.
أستاذ التخطيط الاستراتيجي 4 أبريل 2023