بينما تتعثر العملية السياسية في الفناء المحرم للقوات المسلحة ، وربما تسقط بالكامل بعد اصطدامها بعقبة دمج قوات الدعم السريع ، يصبح الحديث عن تجاوز الأزمة الحالية وطي الصفحة بسرعة هو ضرب من الخيال المجنح ، ستكون الكلفة عالية في كلا المسارين الظاهرين بالنسبة لقيادة الجيش ، في حال تمت تسوية الخلاف بحل توافقي علي الحد الأدني كما تسعى إليه الآلية الثلاثية و اللجنة الرباعية ، أو اتجهت الأطراف الأخرى الموقعة علي الاتفاق الإطاري بمساندة القوى الخارجية بالضغط على قيادة الجيش لقبول مسألة التوقيع على مسودة الاتفاق السياسي النهائي وتأجيل البت في قضية الدمج و النقاط الأخرى في ملف الإصلاح الأمني والعسكري .
كان واضحاً منذ البداية أن تحالف الدعم السريع مع (قحت- المجلس المركزي ) ، يسعى إلي نبش مقبرة لفكرة قديمة طرحت في أبريل 2019 بعد إسبوع من خيانة الرئيس البشير و الإنقلاب عليه ، عندما حط في الخرطوم وفداً سياسياً وحمل معه مقترحاً عُد على عجل ، تمت مناقشة المقترح في إطار ضيق لدي أصحاب المصلحة منه ، كان هدفه تكوين جيش مواز للجيش السوداني ، بجانب قائمة طويلة لإحالة عدد من ضباط الجيش والأمن والشرطة إلي التقاعد تحت ذريعة تصفية هذه المؤسسات من عناصر النظام السابق ، لتمهيد الطريق وافساح المجال لتنفيذ المقترح .
طُرحت فكرة الجيش المواز الوافدة من الخارج ، وهي تقوم على نموذجين تمت دراستهما بدقة ، هما النموذج الأول الذي يقوم على صيغتين متشابهتين هما ( الحرس الوطني السعودي – الحرس الثوري الإيراني ) و النموذج الثاني هو صيغة ( حزب الله اللبناني ) ، في النموذج الأول للحرس السعودي والإيراني ، أشير إليها بأنها قوات موازية للجيشين السعودي والايراني لها تسليحها الخاص ومهامها ودورها لكنها خاضعة لسلطة الدولة و تحت إمرتها رغم صلاحياتها شبه المستقلة ، أما النموذج الثاني : (قوات حزب الله اللبناني) ، فهو دولة داخل دولة له جيشه الخاص ومؤسساته المالية و بنوكه و سلطته السياسية و ظهيره السياسي ، مع عدم خضوعه لأي سلطة أخرى ، وتتأسس مشروعيته من مهامه التي يحددها قادة الحزب بنفسه ، و كما يتحدد التشغيل العملياتي وفقاً لا مسارات ومتغيرات الأوضاع في البلاد .
من خلال النقاشات المحدودة جداً التي دارت فإن الصيغة الأقرب هي نموذج حزب الله ، وقيل يومها أن التجربة إذا ما طبقت ستكون أكثر إحكاماً وتأثيرياً على الدولة و مؤسساتها لجمعها العوامل المشار إليها في نموذج حزب الله بالإضافة للأفضلية بوجود سلطة القرار السياسي و التحكم في قيادة الدولة خلال الفترة الإنتقالية .
لربما أرادت أبوظبي أن تنتهج نهج إيران بأن يكون لها جيشها ، و دولتها الموالية داخل الدولة السودانية ، و صناعة نسخة الأفروعربية من قوات فاغنر الروسية في المنطقة ، ظلت الفكرة وتصوراتها تختمر و تتفاعل بعيداً عن مساقط الأضواء ، و يتم التهامس بها همساً ، وخضعت لمدارسة روسية من فريق مختص أوفدته شركة فاغنر ، و كانت الفجوة التي ينبغي تجسيرها ، هي إيجاد و تجهيز الوقود السياسي الحيوي لانطلاق و تنفيذ الفكرة و حيث لم يكن الوقت آنئذ مناسباً لطرحها علناً والمضي بها إلى الأمام دون توليد الحاضن السياسي .
أحيلت الفكرة و التصور إلي دهليز خافت الضوء ، تخبو في حالة الشد و الجذب السياسي خلال حكومتي حمدوك ، ثم تبرق إذا إقترب أصحابها من المجال المغنطيسي لأحزاب وجماعات الإستوزار و الهرولة السياسية وتنظيمات البترودولار التي تأكل بأثدائها وتتزلف ندي الراح الخليجي و رزقه المبسوط، مع ذلك تواصلت عملية صناعة الوقود الحيوي و مع إبقاء الفكرة في حالة الإنعاش ، جرت عديد المحاولات في إتجاهات داخلية وخارجية ، لتسويق عملية صناعة الجيش المواز وشرعنة وجوده ، ولم تتوقف التحضيرات علي الإطلاق ولم تتأثر بما يطرأ في الطقس السياسي العام .
قبيل الإعلان عن التسوية السياسية ، في الأسابيع التي سبقت خطاب برهان يوم 4 يوليو 2022م الذي حدد بموجبه خروج الجيش من العمل السياسي ، نُسج الرداء المزركش الزلِق للتحالف بين قحت المجلس المركزي و قيادة الدعم السريع ، و راق هذا التحالف لرئيس البعثة الاممية بالسودان والشركاء العرب الخليجيين ، و بعض الأطراف الغربية التي كان لها قراءتها وتقديراتها الخاصة للإستفادة من هذا التحالف في تمرير الأجندة الغربية وصياغة الأوضاع في السودان من جديد، و ليس بالضرورة أن تكون الاجندة الغربية متطابقة بالكامل مع الطموح السياسي و المعطيات الظرفية الأخرى ،الغربيون يريدون استخدام كلا الطرفين المتحالفين للوصول لأهدافهم المعلنة والمستترة في السودان …. ثم لكل حادث حديث .
بعد أن تم إحياء فكرة الجيش الموازي من جديد خلال جلسات التنسيق والتحالف ، كانت الاشتراطات حاضرة … هذه بتلك ، فتم التعبير عنها في مقترح دستور ما تسمى بلجنة تسييرية نقابة المحامين المحلولة ، ثم في الاتفاق الاطاري ، و سبقتها جميعا زيارات ورحلات مكوكية بين الخرطوم و أبوظبي لشخصيات سياسية ورموز حزبية وناشطين من ذوي الحلاقيم المشروخة والطبول عالية الضجيج .
فمحاولة نفخ الروح في تلك الفكرة لصناعة جيش مواز ، عملية شديدة اللزوجة ، لا يمكن تمريرها بسهولة ، فقد اجتهد التحالف القحتوي مع أصحابها وعرابهم في الخليج والغرب ، في استنبات شعارات وعبارات براقة عن ( الجيش المهني والإصلاح العسكري ) ، خلافاً في الوثائق و النصوص المقترحة في الدستور التي تقر ضمنياً بفكرة الجيشين ، فقد تم التفريق بين القوات المسلحة والقوات الأخرى و أُفرد لها وضع خاص ، مع وضع العراقيل اللازمة وإثارة الصعوبات والتعقيدات عند الحديث عن الدمج .
ترافق مع ذلك حدوث إبتزاز سياسي لقيادة الجيش من الداخل والضغط الخارجي من الدول الغربية والخليج ، بغية تقبل الجيش لأية تفاهمات مؤداها القبول بما تخرج به النقاشات الجارية وورشة الإصلاح الأمني والعسكري ، واتضح من خلال هذه الورشة أن الحديث عن الجيش المهني الواحد ما هي إلا فقاعات ملونة و تعمية ساذجة ، لأن نتاجات الورشة وحديثها عن ذلك تمخضت عن إحياء فكرة الجيش المواز .. فما الذي يحدث خلال الايام القادمة ..؟