سلسة مراجعات فى ذكرى ٤ رمضان رغم تطاول السنوات …هل لا تزال الجريمه مستمرة ؟؟ بقلم د. محمد حسن فضل الله


(١)
الدنيا رمضان، ورمضان السودان يعني شدة القيظ، وهلاك حمارته بفعل الحرارة والحالة مسغبة، والمزاج عكر ..شأن سنوات السودان كلها سبع عجاف ،وسبع سنبلات يابسات من سنوات تربو على العشرين بالتحديد من لدن عام التسعات المتواليه ١٩٩٩م .. لتطل كل عام ذكرى الرابع من رمضان تاريخ فاصل في مسيرة حركة الإسلام، مثل أحداث الفتنة التي اغتالت الخليفة ذو النورين شهيداً في مدينة رسول الله.ﷺ ومن ثم مضت مشاهدها كأنها فليم روائي أعد على عجل فيتقاتل (علي معاوية) ، وتخرج أم المؤمنين (عائشة) على الهودج فتسمى المعركة باسم ناقتها ، ويقتل (الزبير)ومثله (طلحه) .. تتباين الرؤي، ووتبعثر الصفوف ، ويعتزل جمهور الصحابه ومقدمهم وفقيههم وناسكهم (عبد الله ابن عمر) (تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منهاالستنا) .. ومثلما ابتدعت عقلية (القحاطة) عند محاكمة رموز الانقاذ فكرة (الجريمة المستمرة) استحداثاً في مفاهيم العدالة والعقاب تستمر احداث الفتنة فيُرمي (مصعب ابن الزبير) بالمنجنيق فى الكعبة وكلب يلوط في دم رسول الله.ﷺ فيكون تحقيق الرؤيا مقتلة عظيمة من أهل البيت في سهول كربلاء و(الحسين الشهيد) مضرجا بدماءه .. والحركة الاسلاميه مثله تعتقلها السجون، وتأكلها المنافي، ويموت كهولها من المرض في سجون كوبركما يموت (سعيد ابن جبير) على نطع الحجاج بن يوسف .. وأحداث الرابع من رمضان ماتزال مستمرة .. ولئن ارخ أهل صدر الإسلام لتلك الحقبة (بأحداث الفتنة الكبرى).. فإن مؤرخوا حركة الإسلام مازالت العقلية عندهم تعاني من حالة الصدمة في التوثيق لأحداث الرابع من رمضان ، ولازالت اقلامهم تمارس دور الإنكار والهروب .
(٢)
دراما احداث الفتنة رغم تعدد الروايات .. تعود إلى العام 1998 بعد ان تسرب ان (شيخ حسن) الذي كان يشغل منصب رئيس البرلمان سيستقيل من منصبه ليتولى أمانة المؤتمر الوطني وسط إشارات بتصدعات هنا وهناك في الجسم الحاكم في البلاد.. وبعد أيام من هذه الخطوة ينشأ فراغ في منصب النائب الأول للرئيس إثر استشهاد الزبير محمد صالح في الناصر ، قرر الحزب الحاكم سده بدفع ثلاثة أسماء من بينهم د. الترابي للرئيس لاختيار واحد منهم للمنصب ،وقام البشير باختيار (علي عثمان) نائباً لمنصب النائب الأول، لكن (شيخ حسن) استقبل الخطوة في نطاق انها تشكل بداية رفض ترشيحه بشكل أو آخر من قبل الرئيس البشير .. واحترس على اثرها زعيم الاسلاميين عن خطوة التخلي عن البرلمان والتفرع للأمانة العامة للحزب، وبدأ يتحرك لإعادة سطوته التي بدأت تخبو …. في العاشر من ديسمبر 1998 كانت مذكرة العشرة التى طالبت بتقليص صلاحيات الأمين العام للحزب، وتخويل بعض سلطاته للرئيس.. والتي شكلت ضربة مؤلمة للأمين العام من قبل تلامذته وحيرانه ..وإثر هذه التطورات آثر الترابي العودة الى كرسي رئاسة البرلمان معداً نفسه لمعركة جديدة مع البشير عبر زيارات إلى ولايات البلاد خصصها لاستقطاب أنصاره في المعركة المقبلة التى قدر أن تكون ساحتها المؤتمر العام للحزب في اكتوبر 1999، وبالفعل وجه هذا المؤتمر ضربة قوية للرئيس البشير واستعاد مركزه بصفة أساسية، كما جرى إبعاد الموقعين على مذكرة العشرة عن المكتب القيادي وهيئة الشوري .. لم يتوقف الترابي الموصوف بالعناد عند ذلك الحد إذ اصدر من خلال البرلمان توصية بانتخاب الولاة بدلاً عن الانتخاب عبر كليات بواسطة رئيس الجمهورية، وألحق الترابي التوصية بمقترح للبرلمان بتعديلات دستورية تحمل الى جانب المقترح مقترحاً آخر بإستحداث منصب لرئيس الوزراء وهو المنصب الذي يقوده الرئيس البشير…. النهاية كانت معلومه اذ إشتعلت أوار المعركة بين الرجلين القويين في الانقاذ، وتدخل البشير بالقوة في 12 ديسمبر 1999 فاصدر قرارات عرفت باسم قرارات الرابع من رمضان حل بموجبها البرلمان وبالتالي أقصى الترابي من منصبه، وجمد مواد في الدستور تتعلق باختيار الولاة عبر كليات انتخابية مما يعني تعيينهم من قبل الرئيس البشير.
ومن هنا بدأت الحركة الاسلاميه تسير تحت لافتتين باسم الشعبي والوطني . وتفجرت الصراعات ، وانفتحت الزنازين .. وسألت الدماء وتفرقت العضوية شذر مذر والبشير في القصر رئيساً والشيخ في السجن حبيساً
(٣)
هل صحيح أن المدخل لدراسة وتحليل احداث الرابع من رمضان ١٩٩٩وامتداداته حتى ابريل ٢٠١٩ تنبثق من دراسة تاريخ الحركة وتطورها وتمظهراتها المختلفة عبر الحقب السياسية السودانية… اذ أن أكثر ما ميز الحركة طيلة تلك الحقب فاعلية القيادة وجماعية الأجهزة ،وقوة شوراها، وروافدها المتعلمة والمثقفة خاصة من الجامعات والمدارس الثانونية…. ظلت تلك أهم عوامل نجاح الحركة قائداً فذ ذا رؤية ثاقبة مع بسطة فى العلم الشرعى والسياسى وإلمام بالواقع المعاصر. تسانده قيادة لا تقل فهماً وعلماً وتقف وراء ذلك شورى تجمع طوائف الناس بمختلف التباينات المعرفيه والإمكانات العلمية ويرفد كل ذلك مكاتب متخصصة تحرس ما اوكل إليها باحترافية وإخلاص. وبفضل الله تعالى، وثم فاعلية القائد واهلية القيادة العليا والشورى والترتيب التنظيمى المؤهل والمخلص قاد ذاك الحركة من نجاح وتطور من حركة صغيرة لا يؤبه لأثرها فى الحياة العامة إلى انفتاح واستقطاب لعامة أهل السودان، وطرح الدستور الإسلامي كهدف يحرك أشواق جماعة المسلمين، الي المصالحة الوطنية والتى مكنت الحركة من أدارة برنامجها الخاص بتعريف كوادرها على الدولة ومهامها ومصاعبها وفتحت كوة لعلاقتها الخارجية والتعريف بها كذلك سعت إلى بذر بذور برامجها فى الاقتصاد بإنشاء البنوك الإسلامية والتشريعات المستمدة من الأصول الشرعية… وعندما جاء العهد الديمقراطى كانت الحركة فى أعلى جاهزيتها فنالت نصيبا معتبرا من التمثيل البرلمانى وصارت حزبا سياسيا يملأ الساحة السياسية.
(٤)
هل صحيح أيضاً أن احداث الرابع من رمضان ابتدأت باكرا من الملمح الأساسى بعد الانقلاب العسكرى وهو اختفاء الجسم الشورى فى الحركة وتغييب القيادة الجماعية ، واستبداد الامين العام بأمر القيادة ،وظهور الفقه الشيعى” الإمام المرشد” وتحول (الشيخ حسن) الى (المرشد المؤتمن) و(الوصى الأمين) المعصوم من الجرح، المقدس من التعديل و صاحب القول الفصل ،والحديث الآمر ..استبدادا بأمر القيادة جعلته يتعمد تغييب الشورى وحقيقة حاكميتها في الحركة مرواغا في مباحث فلسفيه لم تحسمها جدليات التأصيل من لدن ابي يوسف وابي حنيفه عن حتمية الشورى مابين الإعلام والإلزام .
(٥)

غياب الشورى، ووأد أجهزتها ،وخنق أنفاسها، وتشريد رموزها لم يكن اختيار (المرشد المؤتمن) حصراً بل كان الأمر يروق كذلك للقيادة التنفيذية من حوله (اللجنة الأمنية) .. التى كانت هى المحرك والفاعل الأساسى فى عمل الدولة فقد وضعوا يدهم في يد (الإمام المرشد) وبذلوا أقصى ما عندهم من امكانيات وطاقة لتشتيت وتبديد ذاك المد الشورى وصوروه بمثابة خطر داهم يتربص بالدولة الوليدة ،ويسعى لاحداث فتنة داخل التنظيم وكانت المحصلة النهائية تشتيت طاقات الشورى الهائلة والياتها الحاكمة وقرارات الضابطه…
بيد أن (من ترك شيئا من الشرع أحوجه الله إليه) فسرعان ماظهر انفراد الإمام المرشد بالأمر واستبداده بالرأي وضيقه بالخلاف على من اعانوه علي ذبح الشورى وكتم اصواتها.. ومن ثم جاءت مذكرة العشرة لتمثل أعلى تجليات الصراع والذي يسعي لاعادة الشورى المؤوودة وتقييد صلاحيات الامين العام .
(٦)
ام هل أن من أقوى أسباب الرابع من رمضان هو مخالفة القيادة التنفيذية للأمرة التنظيمية، واستهانتها بها ،وغياب أدب الرمزية عندها، من لدن محاولة إغتيال الرئيس المصرى، والتى كان من آثارها المباشرة تحريك بعض أعضاء اللجنة الأمنية من مواقعهم الحساسة ربما توطئة لمغادرة كابينة القيادة، ثم تسليم قادة الجماعات الإسلامية الذين آوتهم الخرطوم ذات يوم نصرة في الدين ، وصارت لهم دار هجرة وأمان فأرادوا أن يخرجو عن طوق المحاسبه والمراجعه… فرفعوا راية الشورى مثل (قميص عثمان): على أسنة رماح مذكرة العشرة لتدور معركة صفين من جديد وعندها بدأ البعض عن البحث عن آليات الحركة الإسلامية المغيبة طيلة عقد من الزمان لعها تمثل عاصمة من قاصمة الخلاف ….لكن الغياب وعدم الفاعلية والتموضعات وفقا للمعلب السياسى وقتها لم تثمر إلا عن لجنة سميت لجنة راب الصدع وكانت اللجنة بحق أكبر دليل على موت الحركة الإسلامية وهياكلها وتغييبها عن الساحة التى صنعتها عبر مجاهدات السنين.. ثم جاءت المفاصلة ليسقط( الإمام المرشد) ويخلو الجو للجنة الامنية التى ستدير المشهد لحين من الوقت حتى يندلع النزاع بين اعضائها ويستفرد الرئيس بها فيصبح هو الحاكم بأمره والناهي برأيه ، والآمر بسلطانه ويؤول القول الفصل للرئيس وتبحث هذه العصبة عن إنشاء حركة إسلامية تعزز بها شرعيتها فى مواجهة (الإمام المرشد )الذى استقل بحزبه وبدأ كان الشرعية التاريخية بجانبه…اما الحركة الإسلامية المصنوعة بغرض منح الشرعية مالبست أن أسلمت وفق لوائحها إلى مكتب قيادى يرأسه الرئيس. فبات الرئيس هو الحزب والحركة والدولة وصانع الحكومة، ومركز الشورى ومقر الحكم .ثم بدأ صراع النفوذ بين ذات أعضاء اللجنة الأمنية نفسه ليحال جل اعضائها إلى الصفوف الخلفيه أعضاء خبرة في الهياكل التنظيميه ، وغياباً عن كل الأماكن التنفيذيه ، وضيوف شرف وقيادات فخريه في المؤتمرات والأنشطة الحركيه والحزبيه.. وهنا في هذا المنعطف التاريخي انفتح باب الحركة الصفوي لدهماء الاحزاب ودهاقنة السياسة من الفاقد السياسيى وأهل السوابق الحزبيه من سواقط الأحزاب وجماعات للنطيحة والمتردية وما أكل السبع
(٧)
ام هل صحيح ان اقوي اسباب الرابع من رمضان هو حالة الإختراق من أوسع ابوابه في كل المستويات وعلى رأسها كل الاجهزة ووسط القيادات والقواعد والطاعات الأمنية والتنظمية والتنفيذية والسياسية وهو ما ادي الى شلل في الاجهزة وضعف في الفعاليه وموت في الحيوية الطبيعية التى عرفت بها المؤسسات التنظيميه .. وليس أدل على ذلك من تحول كل أجهزة الحركة وقياداتها وعضويتها الى متفرجين في فيلم المصارعة الطويل بين الشيخ والرئيس دون ان تتمكن الاجهزة من اصدار قرارات حاسمة بفض النزاع ولو أدى الى ذهاب الطرفين.. فارتكس فريق من الحركة الى ذهب الرئيس وسيفه .. واعتصم الفريق الاخر بالشيخ وماضيه ومجاهداته .
(٨)
ام أن أهم اسباب الرابع من رمضان هو غياب روح التحدي وسط عضوية الجماعه والقعود عن مغالبة التحديات الكبري، والغياب عن الشهود الحضارى ، والافتتان بحب الدنيا، وغياب روح الدين وتزايد حالات الفساد ،والاغترار بالسلطة والقعود عن واجب الدعوه والنصيحة ، وفساد البطانه، والتنافس على المناصب ،والكيدالسياسيى وظهور علل وادواء العنصرية والقبيلة والجهوية، واستحرار أزمات الهوية والمناطقيه، والنزوع إلى التمرد والعصيان.
(٩)
واليوم وبعد مرور ما يقارب من اربعة وعشرين عاماً يبقى السؤال هل مثلت المفاصلة الشهيرة نهاية احداث الرابع من رمضان واغلقت كتابه وختمت على صفحاته ؟؟.. أم أن فصول المسرحية لاتزال مستمرة حتى يومنا هذا … ونحن بين يدي المؤتمر العاشر للحركة الاسلاميه والمشهد كما هو ليلة الرابع من رمضان.١٩٩٩ ،تبعثرا في الصفوف ، وخيانة في الأمانة واختراقا في القياده، وتغيبا للشورى. وتنافساً في المناصب ، وضعفاً في التدين والكسب، وفقرا في التجديد والإبداع، وشحاً في القدرات والأفكار وابتعاداً من العضوية ،وقعودا عن حالة الشهود الحضارى للاسلام وحركته … وهل صحيح ان احداث الرابع من رمضان لم تنتهى بعد ؟؟.. وهل صحيح من خلال رصد المشهد انه لاتزال أحداث (الجريمه مستمرة)؟؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *