في الأيام الماضية وعلى شرف المؤتمر العام للعدالة الانتقالية الذي تنظمه الآلية الثلاثية للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد ناقشنا قضايا العدالة والمصالحات والعدالة الانتقالية ووقفنا على تجارب عدد من الدول والشعوب في العالم منها تجربة جنوب أفريقيا وتجربة كولمبيا وتجربة كينيا وتجربة المملكة العربية المغربية من أجل التعرف عليها والتوصل إلى أنموذج سوداني من العدالة الانتقالية والمصالحات المجتمعية، وبعد تمحيص كل التجارب الملهمة تأكد لي أننا في السودان بحاجة إلى أنموذج سوداني سواني مختلف عن كل تلك التجارب لتلك الدول يقوم وينبغي أن يقوم الأنموذج السوداني على ثلاثة أسس قاعدية تبدأ في مستواها الأول من المحليات لمعالجة الصراعات والحروب التي وقعت بين جميع المجموعات والمكونات القبيلة ويتكوين هذا في شكل مجلس أو مجالس من الفاعلين المؤمنين على تحقيق المصالحات الاجتماعية بكل محليات الولايات لإصلاح ما تم إفساده في الولايات والأقاليم من صراعات ومن ثم تكوين المفوَّضية القومية للعدالة والمصالحات الاجتماعية الوطنية تعمل على وضع أسس النظرية الخاصة بالمصالحات القومية الوطنية المرتبطة بالقوى السياسية وحركات الكفاح المسلَّح ومنظومات المجتمع المدني والعمل على تنظيف الجرح وبناء علاقات تصالحية تزيل كل أنواع الاحتقان وإبعاد كل أنواع التباعد والتباعد وتأهيل جميع المكوِّنات السياسية وتكون قادرة لإدارة الحكم المدني والدولة المدنية.
وواضح من خلال العصف الذهني الذي تقدَّم به المشاركون في المؤتمر القومي للعدالة الانتقالية أن الساحة السودانية شهدت أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية متنوِّعة ومتعدِّدة في معظم مناطق وأقاليم البلاد المختلفة نتج عنها أزمة سياسية وجهوية بين معظم مكونات الشعب السوداني وصلت إلى درجة ذروتها في عام 2023، فأخذت أزمة أشكال متعددة الأبعاد سياسياً واجتماعياً وأمنياً تغذيها ومخلفات الماضي فإذا أردنا شراء المستقبل وحاضراً، يتوجب علينا أن تُقدَّم التنازلات الممكنة للتخلص من الأزمة والتداعيات الكبيرة التي أثرت على كل مكوِّنات الشعب السوداني وبدون تجاوز هذه العقبة الأساسية التي تقف أمام كل مسعًى لا يتسنى لنا بناء دولة المؤسسات والمواطنة في السودان، هنا تأتي الحاجة للمصالحة الوطنية كأحد أهم السياسات المناسبة لمعالجة الصراعات السياسية والعنف الذي تعانيه الحياة السياسية في السودان وهنا تبرز أهمية الارتكاز على المشتركات التي تجمع بين الشعب السوداني وعدم التأثير والتباكي والتأثير والتأثر بمشاكل الماضي الأليمة، وهذا يتطلب من كل السودانيين تحقيق السلام والسلام الاجتماعي وضرورة التعايش وقبول الآخر ونبذ أنواع العنصرية والتمييز وإشاعة المحبة عبر المصالحة السياسية والمجتمعية الشاملة.
وهنا يتوجب علينا أن نعرف الناس بمفاهيم “المصالحة” الوطنية ومصطلحاتها الواسعة فالمصالحة الوطنية والمجتمعية وجبر الضرر لها العديد من المعاني والمرادفات وهي التوفيق والتسوية والجودية بين الأطراف أو وإعادة العلاقات فبمثلما لكل هذه المفاهيم من صلة بعدد من المفاهيم خلونا ننشد القيم “الاعتذار” و “التسامح” و”العفو” و”بناء السلام” و”التعايش السلمي” و”العدالة التصالحية” وجبر الضرر، والمصالحة التي يمكن أن تطبَّق في بلدنا وما أظن يصعب علينا تطبيق مفاهيم العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية بنفس الشكل في بلادنا لمعالجة الظروف التي حدثت وعقدت المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات في بلادنا.
وعلى حسب معطيات الواقع في بلدنا فإنني اتفق مع التعريف الذي يلخص المصالحة الوطنية والمجتمعية وجبر الضرر على أن المصالحة الوطنية تُعرف بشكل مُبسَّط على أنها هي عملية للتوافق الوطني تنشأ وتقوم على أساسها علاقات جديدة بين الأطراف السياسية المجتمعية تكون قائمة على التسامح والعدل وإزالة آثار الغبن وصراعات الماضي لتحقيق التعايش السلمي بين كل أطياف المجتمع كافة، بما يضمن الانتقال السلس والصحيح للديموقراطية، من خلال آليات محدَّدة ووفق مجموعة من الإجراءات وهذا مانريده أن يتحقق في السودان ويبنى عليه الأنموذج الجديد في العالم .
ولكي نحقق ذلك يجب أن يبنى الأنموذج السوداني للعدالة والمصالحة المجتمعية والوطنية في السودان بشكل مختلف عن نماذج كل من: جنوب أفريقيا وكولمبيا وكينينا والمملكة المغربية العربية، لأنه نحن في السودان تراكمت ظلاماتنا منذ الاستقلال والأعوام اللاحقة وكل الحقب هذا لا يمكن أن تتم معالجته إلا إذا طرحت العديد من المبادرات على ثلاثة مستويات التي ذكرتها في صدر المقابر ويشارك فيها العديد من الشخصيات السياسية الدينية والطوائف والأقليات والإدارة الأهلية والشباب والمرأة والمجموعات المتضررة والمتأثرة وكل الأحزاب وحركات الكفاح المسلحة السياسية.