بكلِّ الشغف؛ تابعتُ -لأوَّل مرَّة- بالأمس حفلَ توزيع جوائز الكرة الذهبيَّة، وسبب متابعتي حبِّي للاعب الفرنسي ذوي الأصول الجزائرية كريم بنزيما، ورغم هجري متابعة الكرة من سنوات بعيدة، إلا أنَّ هذا اللاعب استطاع سحري وجذبي لمتابعته، بسبب تكامله الكروي، فلم أرَ لاعبًا يقدِّم المجموعة على نفسه مثله.
أعطانا بنزيما بالأمس دروسًا عدَّة، تمثَّلت في إصراره على تحقيق حُلمِ طفولته، ولم ينسَ الذين وقفوا معه في محنته، وقد تعرَّض لتمييزٍ عنصريٍ بغيضٍ من قبل الفرنسيين وإعلامهم، ولكنه صَمَد وصَبَر، ولم ينسَ -بوفاءٍ كبيرٍ- الذين وقفوا معه بالأمس، وهو يتسلَّم أرفع جائزة تُمنح للاعب كرة القدم.
قال بنزيما:” إنها واحدةٌ من أكثر ليالي حياتي إثارة، هذا حُلمُ طفلٍ، هذه الكرة الذهبية للشعب، لكل الأشخاص الذين كانوا معي في الأوقات الصعبة، أفكر عندما وصلت إلى ريال مدريد في 21 عامًا، ودائمًا ما كان ذلك في رأسي. أنا فخورٌ بعملي.”
وضعَ أمامه حلمًا، ومرَّ بما لم يمرَّ به أيَّ لاعب، واستطاع تحقيق حلمه بصبرٍ مريرٍ، وهمَّةٍ قعساء.
من المعروف أنه إذا تقدَّم اللاعب في العمر؛ يقلُّ عطاؤه، لذلك ما حقَّقه كريمٌ بفوزه بالجائزة يُعدُّ انجازًا كبيرًا وهو بعمر ال34، وهنا يعطينا اللاعب درسًا، إذ قال: “ليس هناك عمرٌ محدَّدٌ للفوز بأيِّ جائزة، هذا بفضلِ العملِ المستمرِّ، أنا أتدرَّب أكثر من اللاعبين الاخرين، بعد عمرِ الثلاثين عليك الاهتمام بنفسك أكثر.”
من المواقف ليلة أمس والتي تأثَّرتُ بها، أن بنزيما لم ينسَ والدته في أروعِ لحظةٍ له كلاعب، وطلب منها أن تصعد المنصَّة أمام تصفيق القاعة كلها، وأهداها الجائزة، وقال: “أودَّ أن أقول أشياءَ كثيرة لأمي. لا أستطيع أن أخبرك عن الحبِّ الذي أحمله لها. شكرًا جزيلًا لها، الكرة الذهبية هدية لها.”
يُعلِّمنا بنزيما ألا يتوقَّف الانسانُ عن حلمه، فما زالت لديه أحلام، حيث أبان عن هدفه التالي: “لقد أوفيتُ بكل الوعود التي قلتها لأمي، لكني أرغب في الفوز بكأس العالم مع فرنسا. أتمنى أن أكون في قطر. إنه هدفٌ آخر، لديَّ الكثير من الطموح. أريد حقًا أن أذهب إلى كأس العالم.”
من دروس الوفاء التي قدَّمها بنزيما بالأمس، وقفة مدربه وقدوته زين الدين زيدان معه، والذي عبَّر عن سعادته الكبيرة أن من قدَّم له الجائزة أحد أفضل من لعب كرة القدم عبر التأريخ، فقال: “أنا سعيدٌ جدًا بالفوز بهذه الجائزة، وأن زين الدين زيدان قدَّمها لي، أهمَّ عاملٍ ليس العمر، إنه الطموح للمزيد، السرُّ في العمل أكثر.”
ويتذكر بنزيما وقفة زيدان معه، وقال: “في سن الثلاثين أصبحت كلمة الطموح في رأسي. لقد مررتُ بأوقاتٍ صعبة للغاية، مثل عندما كنت وحدي في (فالديبيباس) وذهب الآخرون مع المنتخب الوطني الفرنسي. كان زيدان هناك لدعمي دائمًا.”
مواقف المروءة والشهامة لا تذهب عند الرجال، لذلك حفظ بنزيما موقف زيدان معه.
كما لم ينس بنزيما رجلًا آخرًا وقف معه في محنته، ولا تستهينوا بالوضع النفسي الذي كان عليه، إذ في عزِّ تألقه، واعتباره أحد أفضل من لعب في مركز الرقم 9؛ يُستبعد من المنتخب الفرنسي لأسباب عنصرية، ظاهرها مشكلة الابتزاز مع زميله، ولو كان لاعبًا آخرًا لسُحق وانتهى، ولكن بنزيما صَمَد، وثابر، وكان يُصوِّر نفسه وهو يتدرَّب في الصالات، غير آبهٍ لحملاتِ الشماتة فيه.
الرجل الذي تحدَّث عنه كان “القرش” فلورنتينو بيريز، أحد أفضل وأدهى رؤساء الأندية العالمية على الاطلاق، حيث وقف رئيس نادي ريال مدريد معه، ولم يتركه في محنته، فتذكَّر بنزيما الموقف النبيل له بالأمس، وخاطبه وهو على المنصَّة، وشكره، وقال: “شكرًا فلورنتينو، لقد منحتني الفرصة للتوقيع لريال مدريد، ومنذ ذلك اليوم وثقتَ بي ودعمتني دائمًا”.
بيريز كان يقول له وهو في أسوأ مراحله النفسية، وقد وقف الاعلام الفرنسي ضده، بل حتى الاعلام المدريدي الذي طالبَ الرئيس بطرد بنزيما لانخفاض مستواه، أنه سيحقق الكرة الذهبية، قال كريم أمس: “فلورنتينو كان دائمًا بجانبي، لقد أخبرني دائمًا أنني سأفوز في يوم من الأيام بالكرة الذهبية”.
• من أعجب ما قاله بنزيما، عندما أخبروه أن الرئيس الفرنسي ماكرون يهنئه شخصيًّا، فشكر له ذلك، ولكنه قال: “هذه الكرة الذهبيَّة للشعب”، وسألوه لاحقًا ماذا يقصد بالشعب، فقال: “زملائي في الحارة التي نشأت، وأولئك الذين آمنوا بي، ووثقوا بي وشجعوني، هم الجماهير الذي ساندوني”.
يختم بنزيما دروسه، عندما قالوا له: “هل ستحتفل الآن بشرب الشمبانيا؟”. أجابهم: “لا.. سأشرب الماء فقط”. والحقيقة أنه أنموذجٌ للاعب المسلم المعتدل، وقدَّم قبله اللاعبون يايا توريه ونقولا كانتي وساديو ماني ومحمد صلاح نماذج للإسلام المعتدل في أوروبا، وصحَّحوا كثيرًا من الصورة المغلوطة عن الإسلام.
كريم بنزيما، كان ينشر صور إفطاره في رمضان، وصوره بالإحرام أثناء تأديته العمرة، ولا يتحدَّث عن الدين كثيرًا، ولكنه بهذه الطريقة كان يُري ملايين الجماهير من متابعيه الإسلام، وأنه دينٌ سماويٌ معتدلٌ، لا متطرف بما يروَّج له في أوروبا والغرب.
شكرًا بنزيما، وسجَّلت اسمك بأحرفٍ من نورٍ في تأريخ الكرة العالمية، وأعطيتنا البارحة دروسًا في الوفاء والمثابرة.