“رجل بأسره يمشي وحيدا”.. مفتاح العماري أب روحي للقصيدة الليبية رغم الوجع والانكسارات | ثقافة

وكالات : كواليس

طرابلس- مفتاح العماري (67 عاما) شاعر وأديب ليبي، عضو برابطة الأدباء والكتاب الليبيين، وصاحب مكانة متميزة في تاريخ الشعر المعاصر، يعُده عدد من النقاد أبًا روحيا للقصيدة الليبية الحديثة، ومن أبرز مجددي ما عرف اصطلاحا بقصيدة النثر، زود المكتبة الليبية والعربية بما يقرب من عشرين كتابا، يعنى معظمها بالشعر إلى جانب النصوص المسرحية والمقالات النقدية.

ولد العماري يوليو/تموز 1956 بمدينة بنغازي، التي شهدت أكبر التحولات في حياته حين غادر حجرات الدراسة مبكرا بعد وفاة والده، والتحق بعدها بالجيش الليبي، ليخوض مرغما واحدة من أقسى التجارب حين زُج به سنوات رفقة الآلاف من أبناء جيله في حرب تشاد سنة 1987، التي عاش خلالها صراعاته الداخلية القاسية لينتصر فيها للإنسان والشاعر ويركن إلى خطوته الأولى الواثقة المتمثلة في ديوان “قيامة الرمل”.

شملت مسيرة العماري التي بدأت منتصف سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى الشعر، المقالة والقصة والرواية أيضا، وكذلك النقد والمسرح والدراما التلفزيونية، وأدب الطفل، ونشر نتاجه الإبداعي في كثير من الصحف المحلية والدولية، وشارك في عديد من الأمسيات والمهرجانات العربية والعالمية قبل أن يسجل شبه انقطاع عن الساحة الثقافية خلال العقد الأخير بسبب ظروفه الصحية الصعبة.

العماري الذي يلقب بـ”حطاب الأرض الوعرة” آثر العيش في طرابلس على الهجرة إلى الضفة الأخرى للمتوسط كما فعل معظم مثقفي ليبيا بعد 2011، وهو الذي يعاني ظروفا صحية صعبة يطوف بسببها في رحلات علاج لا تنتهي داخل ليبيا وخارجها منذ فترة طويلة، في ظل تنكُرٍ من حكومة بلاده ومسؤوليها، كما يرى المثقفون الموقعون على عريضة تطالب الحكومة الليبية بالتكفل بعلاج العماري كونه أحد أهم الرموز الثقافية في البلاد.

في صدر الشاعر مآتم، فتراه يعزي نفسه شعرا، ويشيع أوجاعه كلَ قصيدة، ومن ورائه جيش من الأسطر، متجاسرا على العيش مهما تكدر يتما وحربا وفقدا ومرضا، حتى صفت له حكمة البصير، وفي هذه المقابلة سألناه فأجابنا متأخرا أياما شغلته عنا فيها أسرة المرض، وتعاقب الأطباء، وقبل سرد الحوار نقف على عدة أبيات من أشهر نثرياته، “رجل بأسره يمشي وحيدا”.

  • وإن بدا الجدال قديما، لكنه مستمر حول “قصيدة النثر” التي يعد العماري من أهم كتّابها عربيا، فما تعريفك للشعر من هذا المنطلق؟

منذ منتصف القرن العشرين، بدأت أولى المقدمات المؤسِّسة لصعود “قصيدة النثر” في الإبداع الشعري العربي ممارسة وتنظيرا. ولعل أهم الأسباب المحرضة على هذا التأسيس نشأت عن تفسخ البنى التقليدية للشعر العربي. بالطبع، سبقتها ثورة تجديد تلخصت في “الشعر الحر”، التي بحكم التسارع في تحولاتها مهدت الطريق لقصيدة النثر، قبل أن تحسم معركتها.

ودونما إسهاب سألخص هنا تاريخية النشأة وتسلسل سياقها الزمني بالإشارة إلى تصريحات جماعة مجلة شعر ممثلة في بيان أنسي الحاج، كتقدمة لمجموعته الشعرية (لن).

كذلك شكلت نصوص الشاعر محمد الماغوط المحطة الأبرز والعلامة الأكثر تأثيرا ورسوخا. صحيح قد ذهب كل من التنظير والممارسة الإبداعية مذاهب شتى؛ تعدد فيها المرجعُ وربكة المفاهيم، كهيمنة المدرسة الفرانكفونية من جهة حسبا لتأثير الفرنسية سوزان بيرنار -على سبيل المثال- في كتابها “قصيدة النثر من بودلير حتى يومنا هذا”.

ومن جهة أخرى، انطلقت تنظيرات لا تخلو من الهشاشة والغلو، تسعى من جانبها لتأصيل قصيدة النثر العربية، استئناسا بما يزخر به تراثنا العربي من كتابات شذرية جسدتها بامتياز شطحات الشعر الصوفي (الحلاج، النفري، البسطامي، والشيخ ابن عربي) وغيرهم.

مكتب الشاعر مفتاح العماري
مكتب الشاعر مفتاح العماري (مواقع التواصل)

لكن، وخلافا لأوهام كهذه، ثمة من عد “قصيدة النثر العربية” بوصفها نوعا مستقلا، مع الاعتراف في الآن نفسه بكونها جنسا وافدا، شأنه شأن أجناس أدبية وفنية أخرى، كالمسرحية والقصة والرواية والسيناريو. أنا -شخصيا- أكثر ميلا للتوصيف الأخير باعتبار قصيدة النثر في تجربة الإبداع الكتابي بلغة الضاد تمثل نوعا مستقلا، لا فرعا من سلالة كلاسيكيات الشعر العربي.

في لحظتنا الراهنة، دخلت قصيدة النثر العربية منعطفا رماديا، حالة من الحياد والبرود واللامبالاة فقدت معاركها وصخبها وصولات فرسانها؛ طالما خصومها قد حولوا المعركة إلى حرب باردة من العيار الثقيل، لتواجه أسوأ وأقسى صنوف الإهمال والازدراء. معظم الورثة المنكبين على كتابتها الآن بطريقة عشواء اقتحموها دونما ذاكرة شعرية.

في لحظتنا الراهنة، دخلت قصيدة النثر العربية منعطفا رماديا، حالة من الحياد والبرود واللامبالاة فقدت معاركها وصخبها وصولات فرسانها؛ طالما خصومها قد حولوا المعركة إلى حرب باردة من العيار الثقيل، لتواجه أسوأ وأقسى صنوف الإهمال والازدراء. معظم الورثة المنكبين على كتابتها الآن بطريقة عشواء اقتحموها دونما ذاكرة شعرية.

  • ما أجمل شيء يقدمه الشعر للشاعر؟

بالنسبة لي، لا يخلو الأمر من الغرابة. فأنا والشعر تربينا ردحا، وبقساوة لا نظير لها داخل ثكنات الجيش، لقرابة عقدين من الزمن قضيتهما مرغما كجندي مشاة.

الشعر معجزتي الصغيرة ومنقذي من الهلاك. وحسبا لهذه الفضيلة، تواصل انشغالي به كضرب من حوار الذات، مما وسم قصيدتي بطابع اعترافي ينصب على توثيق لحظاتي بشكل صيروي؛ فعبر الشعر حاولت الاقتراب أكثر من نفسي والتعرف على أحلامي وتربيتها دونما إثارة أيما ضجة.

كنت إلى حد بعيد مكتفيا بعلاقة حميمة كهذه أحصنها بأسوار عزلتي. فأنا -كما قلت- قضيت حياتي الشابة بالكامل جندي مشاة صغيرا، وانقطعت مبكرا عن المدرسة بعد الابتدائية، وربما عن الواقع خارج ثكنات الجيش. وبذا، لست من صنف الشعراء الكبار أصحاب النظريات غير المسبوقة والمشاريع العملاقة التي تعتزم خلق عالم حضاري جديد بثقافة إنسانية بديلة.

لأن طموحي بسيط جدا؛ لربما ينحصر تحديدا في استعانتي بالشعر لإعادة اعتباري الشخصي، وتربية نفسي على صداقة الطبيعة، ومزاولة عديد من الهوايات الموزاية كالرسم والموسيقى.

ولعل قصيدتي كانت داخل ذلك القبح العظيم مثل مغامرة لتهذيب النفس، بالقدر الذي يجعلها جديرة بهضم فكرة إنسانيتها. وليقيني بأنني قد حققت حدا أدنى من هذا الطموح، أصبحت كثير الشغف بقصيدتي وتفاصيلها، كتجربة حياة، وذائقة لها حساسيتها وحدسها.

صحيح كانت تغمرني بهجة لا حدود لها كلما حظِيتْ كتاباتي شعرا ونثرا بأي اعتراف بقيمتها وجدواها فنيا وموضوعيا. وإن كانت هذه المسألة لا تشغلني كثيرا. فقط أنا سعيد كوني أؤثث بطريقتي هذا الصنف من معرفة الوجدان.

ويكفي أن قدرا كبيرا من التحقق المرتبط بتاريخي الشخصي استمد يقينه من فضائل الشعر، كما عرفته وربيته وعايشته على مدى نصف قرن. وخارج أي استعارات سيظل الشعر -كحدث شخصي- عائلتي الأكثر رحما وقربا ومودة، ومعلمي الذي أعانني على محو أميتي.

  • الخلفية العلمية والثقافية، والمخيّلة وعنصر الابتكار، أيهما أكثر أهمية في بناء أي نتاج فني؟

لا ريب أن الخلق الإبداعي يُعول فيه أولا وأخيرا على خصوبة المخيلة وعنصر الابتكار؛ وإن كان نسيجه يقتضي بالضرورة الإحاطة بحقيبة أدوات الكتابة التي ينبغي استخدامها بقدر من الدراية والعمق المعرفي كمرجعية ثقافية واجتماعية لها نصيبها من العلم.

وعلى سبيل المثال، سيُعد من الحمق في الإبداع الكتابي التعامل مع اللغة كضرب من المادة الخام، أو كشكل خالص؛ في حين أنها البدن والروح اللذان يتعذر فصلهما.

  • التجارب هي من تصنع الإنسان، فكيف بشاعر وأديب يخوض تجربة قاسية كتلك الحرب على الجارة تشاد التي وجدت نفسك في أتونها، كيف تجاوزت ذلك؟

لعل انحيازي للشاعر لا الجندي شكّل اليقين الآمن للظفر بقدر وافر من التوازن النفسي، والسلام الداخلي؛ فعِوض التزود بالتموين الشخصي الذي شكل هاجسا لرفاقي في الكتيبة، انطوت حقيبة الظهر الخاصة بي وكذلك الكت (حقيبة أسطوانية من قماش يستعملها أفراد الجيش لحفظ الملابس) على مجلد صغير لأعمال محمد الماغوط الكاملة حتى ذلك الحين (1980).

كما تحايلت في إيجاد حيز آخر لرائعة باسترناك “الدكتور زيفاكو”، وبضعة كاسيتات (أشرطة سمعية) لفيروز وفرقة “بنيك فلويد”. كانت أشعار الماغوط تعويذتي لمقاومة ذلك الكابوس المرعب. ولعل إحساسي بتجاوز تلك المكابدة ترجمته محاولاتي المتكررة لاحقا في العمل على تدوير جحيم الحرب وحياة الثكنات عبر آلتي المخيلة واللغة.

حينها تفوقتُ كثيرا على هزائمي وأزماتي وعقدي الشخصية. سواء أكان ذلك شعرا أو سردا، أو ما تضمنته مغامرتي في الكتابة المسرحية، والدراما التلفزيونية، التي -على محدوديتها- شكلت فتحا بوصفها المغامرة الأكثر تكريسا لفضاء الجنود.

تدوير السيرة بهيئة قصائد وسرديات أسهمت بالطبيعة -كما قلت- في انتصار الشاعر، ليس على جريمة الحرب وحسب، بل على المؤسسة العسكرية بقضها وقضيضها.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
بعض كتب الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

حينئذ تغلبت المخيلةُ على الواقع، عبر توثيقها حياة كاملة قائمة على التعنيف وتجفيف الأحلام والخوف وسلب الإرادة. أقدمتُ على هذا الفعل بوعي استثنائي، تمحور فيه الجندي باعتباره معيارا قاعديا لتوصيف الشخصية الليبية؛ الذي يستمد نقطة تمركزه من كونه يجسد حقبا من تاريخ الليبيين الذين تحولت حواضرهم إلى أربطة وثكنات عسكرية وخطوط نار.

في ليبيا الصحراء، وليبيا العطش الطويل، وليبيا ذاكرة الدم، سيتقلص دورُ الراعي والفلاح والعامل والمعلم، إزاء هيمنة شخص المقاتل، سواء كفارس من فرسان القبيلة، أو كجندي يتبع مؤسسة عسكرية نظامية، أو كمليشياوي في نظام الفوضى.

في ليبيا الصحراء، وليبيا العطش الطويل، وليبيا ذاكرة الدم، سيتقلص دورُ الراعي والفلاح والعامل والمعلم، إزاء هيمنة شخص المقاتل، سواء كفارس من فرسان القبيلة، أو كجندي يتبع مؤسسة عسكرية نظامية، أو كمليشياوي في نظام الفوضى.

التاريخ الليبي عبر حولياته، من شيشنق الأول إلى معمر القذافي، مرورا بسيبتموس سيفروس، والريس مراد، وغومه المحمودي وعمر المختار، وغيرهم من فرسان الوغى، تكمن مأثرته اليتيمة في الطابع الفروسي ورموزه من قادة حرب وحملة سلاح.

  • تجربة المرض أيضا التي تخوضها منذ سنوات، ماذا أضافت للشاعر مفتاح العماري على مستوى التجربة الشعرية والحياتية؟

في بداية الإصابة بالسرطان ارتبكت أحوالي كثيرا؛ لا سيما أنني خلال السنوات الثلاثة الأولى خضعت لفترات إيواء طويلة بالمشافي. ومع دوام العِشْرة، توصلتُ إلى ضرورة إبرام مصالحة (ربما شعرية) للتعايش مع علل جسدي بطريقة تنطوي على قدر كبير من التفهم والعقلانية. طالما لا مناص من تقليص نشاطي الأدبي ضمن سويعات محدودة داخل البيت قراءة وكتابة.

هذا السلوك ظفرنا به بعد محاولات عسيرة لتنظيم دورات الألم بكثير من هبات الصبر الرحيم. ومن واقع معايشة يومية ناهزت 16 عاما، أعترف أن المرض حكمة. وكلما طالت رفقته أصبح لزاما تقبله بقدر من الإيمان والرضا، لأنك ستُوهب بسخاء البصيرة التي تجعلك أكثر إحاطة ورفقا وتسامحا مع نفسك والآخرين.

وأيضا ستظفر بشيء من الدربة لتكتشف مع مرور الأيام بأنه ما من عروة يوثق بها، سواء ما تعلق بانقطاع الرحم، أو ما تصرم من الطيبين، وقد انفض من حولك رهط الدراويش، ليجفل الصاحب والخل الوفي.

جميعا تلاشت صورهم وأخبارهم وانطفأت أصواتهم في رفة جفن، لتمسي كما تنبأت لمصائرك قبل 30 عاما “رجل بأسره يمشي وحيدا”، حيث لا أثر لمحب إلا الندرة من “خلان الصفا”، وخلاصة بيت الرحم، وفلذة الكبد، ولا سيما رفيقة العمر، وما تأنث من النسل المبارك: الكريمات الحنونات، إحداهن أسميها “أمي الصغيرة”، وشقيقة وحيدة هدها الربو المزمن، وأخريات لم تلدهن أمي.

وهكذا سيكون التغاضي والتلطف مع الغائبين أكثر إنصافا طالما ستتكفل القصيدة بإيواء المرض وتحويله إلى كائن من سلالة الجمال. وهكذا ظفرتُ بشيء من الرضا؛ جعل حضور عزلتي غاية في الثراء الذي لا عهد لي به، وقد تحررت دونما كراهة أو بغض من قيود الآخرين وجعجعتهم، منتظرا خاتمتي بهدوء، مكتفيا بخبزي الطيب، تحت سقف لم يعد بفعل الفوضى بيتا آمنا ما دام ثمة مليشيات مارقة، وثمة الملايين من قطع السلاح خارج سلطة الدولة.

  • انفتحت مؤخرا على فضاءات التواصل الاجتماعي، وهو ما جعلك أكثر قربا من جمهورك، فإلى أي مدى أثر القارئ في تجربة مفتاح العماري الشعرية؟

بقدر تفهمي نظريا لضرورة استثمار هذا البراح الافتراضي في خلق حالة من التفاعل والقرابات الأكثر جدوى لإنماء وتطوير مستويات التلقي، وتربية تلك الحساسية الجديدة للتعامل مع المقروء وهضمه وتأويله، وتعاطفي غير المحدود مع التبسط في انتشار الشعر وتداوله بين أكبر عدد ممكن من القراء، لكني -وبكل أسف- ما زلت على الصعيد العملي مرتبكا مع شيء من الريبة والتهيب في تطويع مثل هذه الآلة لخدمة التفاعل مع تجربتي في الكتابة شعرا ونثرا.

لربما حسب وجهة نظري أن وسائط التواصل الاجتماعي -في حيزها الاجتماعي ثقافيا- قد تورطت أو تواطأت مع تكريس ظاهرة السيولة على مستويات الخلق والتلقي بدرجة قصوى سيتعذر معها التوق لإبرام عقد اجتماعي يكفل تنظيم علاقة أخلاقية تحترم حياة الكتابة وخصوصيتها، عبر إتاحة مناخ أكثر رصانة وثقة في تداول المعلومة.

كذلك، من بين المساوئ الأبرز لمواقع التواصل أنها كرست مظاهر الشعبوية والمشاع، وشخصنة التفاعل (في الغالب) حسبا لجاذبية التملق لا جودة النص، فضلا عن استنساخ الأشكال وتكرارها، وتفشي الرياء والنفاق والميوعة، خاصة أن معظم التعليقات -بوصفها تعبيرا عن التفاعل مع المقروء- تشي في حيز كبير منها بمدى محدودية مستويات القراءة.

كما لاحظت حسب التقاليد السائدة والمكرسة في هذا الفضاء الافتراضي، لكأنه يُنتظر من الشاعر أن يتمتع بمهارات أخرى غير الكتابة الإبداعية، تبرز تجلياتها في صناعة العلاقات العامة، ليتعين عليه تمتين الأواصر الشخصية كأولوية تسبق حضور منجزه الإبداعي. كأننا قمنا بعملية نقل للعديد من آفاتنا السلوكية من الواقع المعيش إلى الافتراضي.

وبذا، سأعترف من دون مراوغة بأنه قد كان لطبعي الانطوائي تأثيره السلبي في الانفتاح على منصات التواصل بطريقة أكثر أريحية، بسبب إهمالي لاستخدام الحد الأدنى من مفردات “الإتيكيت” في استدراج الآخرين لمتابعتي.

وبالنظر لهذا الفشل الذي منيت به، ظلت علاقتي مع هذا الفضاء محدودة جدا، أي محض إطلالة عشواء وشبه موسمية. في السياق نفسه، أشير أيضا إلى أنني قد اعتدت على عدم نشر نصوصي إلا بعد مرور فترة زمنية لا تقل في الغالب عن 6 أشهر، إن لم تمتد إلى ما هو أطول بكثير.

ولذلك أسباب جوهرية، من بينها أن الشعر قد فقد تماما علاقته النسيجية مع مجتمعه. وكقارئ مخلص لما أكتبه، تعين علي الاحتفاظ بملكية نصوصي لفترة وجيزة، قبل أن تتحول إلى مشاع بهيئة مستنسخات مشوهة.

ولكم تبدو مسألة النشر هنا باعثة على الاستياء لحظة أن يروم الشاعر تقديم الشكر والمديح بكثير من الغزل لمن يتطوع أو يبادر بنشر نصوصه أو الكتابة حولها وعنها.

هذا الصنف من التهافت على تفاعل هش ممثلا في تعليقات هزيلة ونقر أيقونات الإعجاب يعكس المدى المؤسف لما وصلت إليه مستويات السخرية من زهو غريب الأطوار، لتبدو الحالة “في غاية الفساد والأبهة”.

  • التجربة الشعرية لجيلك تميزت بمغامرة التجريب، والانقطاعات، ووصفت بأنها تجارب شعرية منفردة ومنعزلة. هل أثرت هذه الملامح على حتمية ظهور تجارب شعرية ليبية ذات أهداف مشتركة؟

لعل صفة شتات ستختزل الجزء المؤلم من حيث تشخيص انطلاقة قصيدة النثر في ليبيا، مع مطلع ثمانينيات القرن العشرين، كنشاط فردي جسّد منجزه بضعةُ شعراء، حتى وإن بدوا في الظاهر ملمومين لكن مسيرة كل منهم ستختلف بعد قليل في ما يتعلق بأهمية الخصوصية الشخصية ودرجة المثابرة ومستويات الاختلاف وجموح المغامرة وروح النص.

صحيح ثمة تقاطع ربما في الرؤى وشراكة الشغف بقراءة الكتب نفسها التي وهبتهم لفترة محدودة ملمحا شبيها. لكن، سيبرهن العقد التالي (التسعينيات) في رحلة هؤلاء أن ثمة فرقا شاسعا من حيث الإخلاص للشعر، بين الجندي، ومعلم المدرسة، وطالب الثانوية العامة.

أشير هنا إلى تدشين قصيدة النثر في ليبيا، ممارسة وتنظيرا عبر جماعة (البيضاء) ممثلة في الثلاثي: (مفتاح العماري، فرج العشة، وفرج العربي). لكن وبالعودة لتيمة الشتات، ما من أثر يمكن التدليل من خلاله على وجود جيل يعكسُ حياة شعرية كاملة تمور بصراع التيارات والمفاهيم والأيديولوجيات والأسئلة القلقة.

إن المسألة برمتها تكونت هنا كمحض طفرة خارج دورتها التاريخية وتراكمها المعرفي. وبالرغم من ذلك، فإن الإنصاف يقتضي تاريخيا ضرورة الإشارة وبيقين: أن العلامة الأبرز كنقطة تحول في مسيرة التجربة الشعرية بليبيا بدأت من قصيدة الثمانينيات، بوصفها المغامرة الرصينة التي ظفرنا من خلالها بشيء من التشكل والبلورة والصقل لكتابة قصيدة نثر ذات خصوصية ووضوح، جاءت كمحصلة لتجربة ليبية خالصة في مكابدتها، ومخاضها، وصراعها الحقيقي مع الحياة؛ تلخص ميراثها في منجز شعري سيُعد استثناء في مسيرة التجربة الليبية.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
بعض كتب الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

ولمزيد من التوضيح في ما يتعلق بالتشرذم الذي اعتور شعراء الثمانينيات على ندرتهم، يلزم التأكيد هنا على تلك الضراوة غير المسبوقة لآلة القمع التي كان لها تأثيرها المجحف، ولا سيما خلال العقد السابع، فكان من أبرز مظاهرها الشرسة اعتقال عديد من الأدباء الشباب من شعراء وقصاصين ومسرحيين ومثقفين ونشطاء، بينهم كتاب جريدة الأسبوع الثقافي.

بالتالي، ليس من الإنصاف إطلاق مصطلح الجيل (عقديا) لينطبق على ما تبقى، أي بضعة نفر بعدد أصابع اليد الواحدة، لا يشكلون عصبة أو كتلة أو حتى مجرد شلة أو رهط صغير يمكنه أن يتمتع بحد أدنى من الشراكة في حساسية متجانسة، وأهداف محددة، سواء أكانت موضوعية أو فنية.

بالعودة لتاريخي الشخصي بوصفي شاعرا، أسوغ جزءا من انهماكي بالكتابة بأنه رد فعل لغياب العدالة؛ فعندما ألفيت نفسي مكرها لقضاء قرابة 18 عاما في الجيش من دون حد أدنى لاحترام إنسانيتي وإرادتي لحظة أن يُزج بي أكثر من مرة في جبهات حرب غامضة، كجندي سخرة، أقل شأنا من المرتزق؛ وقد تعرضت كتيبتي لإبادة شبه كاملة، ولم يبق منها سوى نفر قليل حالفهم حظ العيش بعاهات وأمراض نفسية مزمنة؛ حينئذ كان كل شيء يحدث بمشيئة عسكرية مريبة، وفوضوية وطائشة، محكومة بنزوات وأهواء شخص الأخ القائد.

وحسبا لتقلبات سيرتي الأولى كجندي في الجيش التي أعقبت فترة يتمي اختزنتُ كثيرا من صور القهر والظلم. وهكذا وجدت في الكتابة الشعرية، فضلا عن هوس القراءة، داعما معنويا خفف من ضراوة حياة ظالمة.

المفارقة هنا: كيف يتسنى لك كشاعر أن تفرض فردانيتك في مجتمع يسحق بقوة أي محاولة للخروج عن القطيع؛ فلا الذهنية الجماعية (لنمط التفكير القبلي)، ولا التوجه العقائدي المثقل بشعارات اشتراكية مزيفة لنظام شمولي مختل، ولا عجرفة التقاليد العسكرية التي حولت المدن إلى ثكنات كبيرة، ومربعات أمنية، ستسمح لك بهذا الصنف من المروق.

دولة من دون دستور وقوانين تحمي الحريات وتكفل للفرد حقوقه المدنية، من دون صحافة وتشريعات لحماية الرأي العام، حيث يشنق المشتبه بولائهم في الميادين، وتحرق في ساحاته العامة الكتب وآلات الموسيقى، وتقفل المسارح ودور العرض، ناهيك عن سياسات التجهيل والفقر الثقافي وتلك الخصومة التاريخية ضد الكتاب والمثقفين، ولا سيما شعراء الفصحى المجددين؛ كل هذه المعوقات وغيرها تضافرت بقوة للحد من طموح الشاعر، وهذا ما حدث.

كتب الشاعر الليبي مفتاح العمّاري ليبيا/مواقع التواصل
من أعمال الشاعر الليبي مفتاح العماري (مواقع التواصل)

 

  • التجارب الشعرية الجديدة، تحديدا بعد عام 2011، كيف تراها بعين الشاعر؟ وهل توجد تجارب جديرة بالمتابعة والنقد في ليبيا؟

بالاحتكام للمنجز الشعري لبعض الأصوات التي برزت في المشهد الشعري الليبي، بدءا من عام 2011، ومن خلال ما أتيح لي الاطلاع عليه من نصوص، سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي أو ما وصل إلي من مخطوطات ودواوين شعرية، توقفتُ بكثير من الدهشة إزاء تجارب بالغة الخصوبة والتنوع والثراء، من حيث اختزال الصورة عبر اقتناص وتتبع سياق اللقطة البصرية وإيجاز مشهدها بدرجة عالية من الكثافة واللمح والإيحاء، كما تشي به قصائد الشاعرة هناء قاباج حين ترصد بشاعة الحرب من الزاوية الأكثر إغرابا: “الرؤوس تتدحرج من كراسات الرسم مثل حبات البرتقال!”.

كذلك ثمة حيز للتهكم الشعري، بصيغة الكوميديا السوداء؛ بوصفها كتابة مضادة كما هي الحال لدى الشاعر جمعة الموفق، الذي يكتب بلغة شديدة التقشف “أضم صوتي للبؤساء، وأصرخ إننا في الخندق الأخير وخلفنا أبراج من الجماجم”.

وبالمثل، سوف تستدرجنا فتنة الشذرة السريالية بدهشتها العالية، وعفوية التداعي الاعترافي لدى الشاعر سراج الدين الورفلي، الذي يناوش الحرب على طريقته بإيماءة ساخرة: “أخاف أن أنسى ميتتي في هذه الحرب”. وتظل قراءتنا لنصوصه التي يُحتفى بطموحها ناقصة وغير منصفة بحكم افتقارنا لمصنفاته الشعرية.

وبالمثل، سوف تستدرجنا قصائد الشاعر مفتاح العلواني بسلاسة جملتها الشعرية، وذلك الاعتناء بتنضيد لقطاتها بهيئة مشهد، حيث “يوجد الشعر في كل شيء؛ حتى في ملمس جثة لا تزال ساخنة”.

ومن بين الأصوات اللافتة، نشير أيضا إلى قصيدة الشاعرة صفية العايش باعتبارها تجربة شابة أكثر تميزا من حيث القدرة على تكثيف المعنى، والصدمة الشعرية. تقول في إحدى قصائدها “الصباح يبدأ من قدمي التي تجد صعوبة في الرقص”.

بينما ستأخذنا فتنة أخرى لحظة أن يتفنن شاعر بموهبة محمد عبد الله في تحويل تأملاته إلى صنف بارع من الشعر الشذري بفيض من الدهشة “لكثرة ما انطفأت بداخلي أشياء، أخشى أن أصلكِ مظلما”.

أشير أيضا إلى أصوات أخرى على قدر كبير من الأهمية في تشكيل الملمح الشعري لجيل ما بعد 2011، مثل علي حورية، فيروز العوكلي، أكرم اليسير، نورهان عبد الحق، حمزة الفلاح، نجاح المبروك. وأعزو أي تقصير هنا في إحاطتي غير المنصفة بالتجارب الجديدة في الشعر الليبي لانقطاعي عن التواصل والحضور المستمر والمنتظم لحراك الإبداع الشعري في ليبيا خلال عقد ونيف لأسباب صحية، فأرجو المعذرة.

وأخيرا سأكتفي بهذا القدر، متخليا عن شأن “الجدارة” -في الشق الثاني من السؤال- للعدائين المهرة في العلاقات العامة، ريثما يحين الزمن الأكثر تسامحا وإنصافا للاعتراف بالشعر والكيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *