وكالات : كواليس
في هذا الحوار، يفتح لنا الناقد والروائي السوري الكردي هيثم حسين نافذة نطل منها على ذاته المبدعة، مقتربين من عالمه الذي أثثه حرفا حرفا.. ونكتشف معه كيف يمكن للكلمات أن تنشئ عالما جديدا مفعما بالأمل، حيث يتصالح الإنسان مع ذاته أولا، ومع محيطه مهما كانت درجة الاختلاف.
-
هل يمكن القول إن هذا العصر الأدبي العربي عصر رواية بامتياز، إذ غطى هذا الأسلوب على أنماط الأدب الأخرى النثرية والشعرية من حيث الإنتاج؟
صحيح أن الفن الروائي يطغى في هذا العصر على ما عداه من الأجناس الأدبية الأخرى، لكن هذا لا يعني أنه وسم العصر ليكون في صدارة فنونه، فالأمر لا يتعلق بالكم والتركيز الإعلامي والجوائز المخصصة فقط، لأن هناك كما كبيرا من الشعر والقصة ينتج في العالم العربي، وهذا الكم، وإن لم يكن يحظى بما تحظى الرواية به، إلا أنه يعبر بدوره عن حركية ويرسم جوانب من لوحته التي تثرى بالفنون والآداب جميعها.
لا تستقيم كتابة الرواية عبر أي خارطة أو معيار مفروض، لأن ذلك يناقض الشرط الأساسي للإبداع؛ ألا وهو الحرية التي هي أساس كل عمل إبداعي، بالإضافة إلى التجريب المفترض الذي من شأنه الخروج من دائرة الفرض والتقييد.
-
هناك من يضع “خارطة طريق” ودفتر شروط لكتابة الرواية، وينتقد موجة الكتابة الروائية الجديدة. ما رأيك بوصفك روائيا أولا وناقدا ثانيا؟
معرفة القواعد مهمة في العملية الإبداعية، لكن ما هو أهم منها -أو فلنقل إنه لا يقل أهمية عنها- الفعل الإبداعي بحد ذاته، عملية الخلق والابتكار التي تسم الإبداع وتمنحه الخصوصية والجمالية وتبعده عن إطار التقييد بالشروط والمناهج. الإبداع يختط لنفسه خطه الخاص به، من دون أن يغفل عن الإرث الأدبي أو يتجاهله، إنما يبني عليه وينطلق منه ليبحث لنفسه عن مسار متفرد وخاص به.
لا تستقيم كتابة الرواية عبر أي خارطة أو معيار مفروض، لأن ذلك يناقض الشرط الأساسي للإبداع؛ ألا وهو الحرية التي هي أساس كل عمل إبداعي، بالإضافة إلى التجريب المفترض الذي من شأنه الخروج من دائرة الفرض والتقييد.
لا أعتقد أن انتقاد موجة الكتابة الروائية بشكل عام مجدٍ، لأن تيار الرواية الجديدة يجتاح المشهد الأدبي بقوة، ولا يمكن منع أحد من الكتابة والنشر، ولا فرض وصاية عليه، ولعل أجمل ما في عالم الرواية والأدب هو ذاك الانفتاح على المطلق، على الجديد، على المبتكر، على التجارب الحالمة التي تغامر بالولوج في ميدان رحب يستوعب الجميع ولا يذعن لأي وصاية أو توصية. الكتابة حق للجميع، والزمن يغربل التجارب ويفرزها عن بعضها بعضا.
-
كونك كاتبا قطع شوطا في الكتابتين الروائية والنقدية: بم تنصح الجيل الجديد من الروائيين الشباب؟
لعلي لا آتي بجديد حين أكرر النصيحة التي أنصح بها نفسي قبل غيري، والتي تشدد على أهمية القراءة، وعدم الركون لمزاعم أولئك الذين ينصبون أنفسهم سدنة للكتابة والإبداع ويحجرونها في حجرة محدودة وفي حيز يناسب مقاس أوهامهم المعظمة.
الكتابة تحتاج لصبر ودأب ومثابرة، والعجلة لا تجدي في عالم الرواية، وعلى من يرغب في اقتحام هذا العالم الفسيح التسلح بذخيرة لغوية وفلسفية وأدبية تأخذ بيده وتواسيه حين يداهمه اليأس أو يقع في فخ العبثية أو اللاجدوى.
الرواية من أعظم أسلحة الإنسان في التنوير واكتشاف الذات والآخر والمحيط الاجتماعي الذي يحيا فيه
-
هناك صنف آخر يرى أن الكتابة الروائية لا جدوى منها أصلا، ولا يمكن أن تضيف شيئا للرصيد المعرفي العربي. ما الذي تقدمه الرواية من إضافة للإنسان العربي؟
دوما، هناك اليائسون المحبطون العدميون الذين يفرغون كل شيء قيم ومعتبر من معناه، وليس لديهم بديل سوى السواد، سوى القنوط والعدمية، ولكن يجب ألا نستمع لمثل هذه المثبطات التي تترصد لنا في كثير من المنعطفات والتفاصيل في مساراتنا الكتابية والحياتية.
عبر التاريخ تحتفظ الحكايات بأثرها وتأثيرها، ولا يمكن أن تحل حكاية أحد محل حكاية الآخر، الحكايات هويات أصحابها، وهي مثل بصماتنا الشخصية في عالمنا، ولا يمكن أن تستعيض بحكاية عن أخرى لأن لكل منها خصوصيتها وفرادتها وتمايزها. والرواية من أعظم أسلحة الإنسان في التنوير واكتشاف الذات والآخر والمحيط الاجتماعي الذي يحيا فيه، وهناك دوما إضافات في الروايات المبدعة والمغامرة، وهي نسبية تختلف من امرئ لآخر، ذلك أن مستويات التلقي أيضا ليست واحدة أو ثابتة لدى القراء.
انتشلتني القراءات والروايات من عالم الوحشة واليأس والقلق والشعور باللاجدوى أكثر من مرة إلى عالم أرحب، عالم الأمل والعمل، وأعرف كثيرا ممن أنقذتهم القراءات في حياتهم وأنارت لهم سبلا جديدة لخوضها وتجريبها، وهي بذلك تلعب دورا سحريا في تفكيك العلل المستوطنة في الدواخل عبر مواجهتها واستكشاف خباياها، بغية تجاوزها
-
الحديث عن الرواية يقود إلى الحديث عن أحد محركاتها الأولى: المعاناة. هل يمكن للرواية أن تضمد النزيف الداخلي للكاتب والقارئ على حد سواء؟
أتفق معك في أن المعاناة محرك رئيسي من محركات الكتابة، وهي تمنح صاحبها الجلد على الاستمرار، والتعبير عن الذات في محنتها، وعدم الوقوع في براثنها، تكون دافعا للإبداع وأداة للاستشفاء ووسيلة للعلاج في الوقت نفسه.
المعاناة متحركة، تنتقل من ضفة لأخرى، تقود النفس في دهاليزها بحثا عن النور، وهي بذلك تلعب دور المعافي للجراح والمهدئ للنفوس والأرواح. والكاتب ينقل معاناته، يكتب عنها، كما أنه يصور معاناة الآخرين أيضا، وينطبق عليه المثل القائل “من طَبَّ لمن حَبَّ”، إذ تأتي كتابته كتطبيب الحكيم المنطلق من تجربته الشخصية، لينقلها للآخرين ويسهم بقسطه في تهدئة القلق الذي يتناهب أرواحهم.
على الصعيد الشخصي، انتشلتني القراءات والروايات من عالم الوحشة واليأس والقلق والشعور باللاجدوى أكثر من مرة إلى عالم أرحب، عالم الأمل والعمل، وأعرف كثيرا ممن أنقذتهم القراءات في حياتهم وأنارت لهم سبلا جديدة لخوضها وتجريبها، وهي بذلك تلعب دورا سحريا في تفكيك العلل المستوطنة في الدواخل عبر مواجهتها واستكشاف خباياها، بغية تجاوزها.
لا أتخيل حياة من دون قراءة، وحسبي أنها من أجمل ما يجمّل حياتي، وأعتقد أن هناك قراء كثيرين يعيشون هذه المتعة المتجددة التي تضفي على حيواتهم معاني ساحرة كل مرة.
-
في كتابك “لماذا يجب أن تكون روائيا”، حاولت الإجابة عن عدد من الأسئلة التي تحيط بالرواية وتحاصرها. دعني أطرح عليك السؤال بطريقة أخرى: لماذا يكتب هيثم حسين؟ ما الرسائل التي يريد إيصالها للقارئ؟ والأهم من ذلك، ما الرسائل التي يريد إيصالها لنفسه؟
أكتب لأني يجب أن أكتب، لأن الكتابة وحدها من أنقذتني وانتقلت بي من عالم لآخر، وكانت أداتي ووسيلتي وسلاحي لتخطي واقعي الذي كان قاهرا بكل تفاصيله. أكتب لأني إن لم أكتب لتهت في البراري أستمع لصرخاتي المتصادية في الأرجاء، ولنهشت روحي روحها من شدة القهر. أكتب لأني لا أتخيل نفسي لا أكتب، ولأن الكتابة هي متنفسي وأنفاسي في حياتي.
هناك رسائل كثيرة يتم تمريرها في الكتابة لتصل إلى الآخرين، وهناك رسائل مطلقة في فراغ الكتابة عساها تعثر على متلقيها ذات مصادفة ما، وأهم رسالة هي أن الإنسان يجب ألا يتخلى عن إنسانيته مهما اشتدت عليه المظالم، ومهما تراكمت عليه المآسي، وأن عليه أن ينتصر للقيم الإنسانية وألا ينساق وراء صيحات العنصريين وصراعاتهم البائسة.
أكون في مواجهة دائمة متجددة مع نفسي، أعيد تذكير نفسي بأن عدت من تجربة موت -تعرضت لحادثة حرق حين كنت في العشرينيات من عمري وكدت أفقد حياتي على إثرها- لأحيا حياة تليق بالإنسان، حياة تستحق اسمها بعيدا عن الأحقاد والكراهيات، وأن هناك دوما أملا في القادم، ولا تستقيم الحياة من دون أمل.
-
هل تجد نفسك أقرب إلى بعض أبطال رواياتك؟ أو إلى كتب من دون أخرى مما كتبته؟
أشعر بالقرب من جميع شخصياتي الروائية، فلكل بطل روائي حكايته، وعالمه واختلافه، ولكل رواية حكايتها وعوالمها وخصوصيتها، ولا يمكن أن تحل واحدة محل أخرى أو تجبها، بل تراها تتحول إلى كائنات تلازمني في رحلتي الحياتية، فأصادف قراء يتحدثون عن رواية ما وعن شخصياتها وأبطالها وكأنهم يفتحون نافذة في قلبي وروحي يتخللون منها إلى أعماقي، فأسعد بتلك المصادفات والزيارات وأستمتع بالأحاديث المتشعبة التي تفتحها.
هناك بعض الشخصيات الروائية تعلقت بها وقادتني للتفكير في مدى تعلق الروائي بشخصياته، واحتمالات استشفائه منها في يوم ما. وهذا ما حدث معي بعد انتهائي من روايتي “رهائن الخطيئة”، التي ترجمت حتى الآن إلى الإنجليزية والتشيكية والكردية، ذلك أن الشخصية الرئيسة بطلة الرواية خاتونة كانت امرأة مسنة ترحل في نهاية الرواية بحادثة مؤسفة، ولم أستطع التخلص من مشاعر الحزن عليها التي لازمتني فترة من الزمان، وتلك المشاعر والأفكار قادتني للتفكير بكتابي “الشخصية الروائية مسبار الكشف والانطلاق” الذي كان عبارة عن دراسة في الشخصية الروائية وعن كيفية بناء الروائيين شخصيات أبطالهم، وعن تلك العلاقة التي تربطهم ببعضهم بعضا.
تاريخنا ملبد بغيوم التناحر، ماذا لو جربنا إقصاء خلافاتنا والبحث عن مشتركاتنا التي تتفوق على الخلافات بكثير، حينها سنتمكن من التصالح مع ذواتنا ومع الآخرين جميعا
-
كونك كاتبا عربيا وكرديا، ما الذي ساعدك في -ما يمكن أن نطلق عليه- “التناغم الهوياتي”.. حيث تتصالح الهويات المتعددة في داخلك، في عالم ملغّم بالاستقطاب السياسي والأيديولوجي وواقع سوري متشظّ ومأساوي؟
في الحقيقة، تحتل الهوية حيزا لافتا في كتاباتي الروائية والأدبية، وهي مسألة أظل أفكر فيها وأحاول استجلاء وتفهم جوانبها المختلفة. أشعر بالتصالح بين الهويتين العربية والكردية في داخلي، وهو تصالح لم أفرضه على ذاتي بقدر ما وجدته متبرعما وراسخا في كياني ووعيي وسلوكي وأفكاري.
لا يمكن لأي منا أن ينسلخ عن أي مكون من مكوناته الداخلية أو أن يعزل أي عامل من العوامل المؤسِّسة لشخصيته والبانية لفكره وكينونته، لذلك لا مجال لتصارع الهويات في داخلي، لأن وعي الهوية معبر لتصالحها مع ألوانها المختلفة التي قد تبدو لوهلة متلاغية، لكنها في الواقع متناغمة وتبلور شخصياتنا التي تنهل من ينابيع إنسانية مختلفة وتثرى بالتنوع.
أحيانا، يتحول القرب إلى حاجز يحجب الرؤية، ويمنع الآخر من التعرف إليك من كثب، لأنه يرى فيه العدو الذي يتربص به، وينظر إليك من فوهة بندقيته فلا يرى فيك إلا هدفا يمكن أن ينال منه، وهذا ما يمنع من رؤية جماليات التنوع والاختلاف، ويجبر على البحث عن صيغ للتعايش بعيدا عن الصراعات والدماء والاحترابات التي لا تنتهي.
تاريخنا ملبد بغيوم التناحر، ماذا لو جربنا إقصاء خلافاتنا والبحث عن مشتركاتنا التي تتفوق على الخلافات بكثير، حينها سنتمكن من التصالح مع ذواتنا ومع الآخرين جميعا. السر يكمن في الاعتراف بأن الآخرين أيضا يستحقون أن يعيشوا حياتهم مثلك، وأنهم بشر لهم خياراتهم في واقعهم ومستقبلهم، وأنه لا يحق لك رسم مصائرهم أو فرض سبل العيش عليهم. ولا أشك أن تقبل اختلاف الرؤى يمهد لتصالح الهويات وتعايشها في كل مكان وزمان.
-
تشتهر الرواية أيضا بكونها الفن الأدبي الأكثر إثارة للجدل إذا تضمن ما يصدم مجموعة من الناس في أفكارهم ومعتقداتهم. واجه روائيون مجتمعاتهم بالكتابة، لكن المجتمعات أو من يوجه الرأي فيها واجه الروائيين بالقضاء أو الفتوى. في غمرة الجدل ومحاكمة كتابات الروائيين (قضائيا أو دينيا)، يغيب السؤال الأهم: كيف علينا أن نقرأ الرواية؟ على أنها كتاب مفتوح على أفكار الكاتب وقناعاته الأكثر حميمية؟ أم أنها عرض لأفكار ورؤى يتهامس بها الناس أو يجهرون بها، والروائي لا يفعل غير التقاطها بعدسته؟
مواجهة الروائي بالعنف والتجريم والتحريم كارثة تاريخية وجريمة بحق الأدب والواقع معا. الروائي يطرح رؤاه وأفكاره في أعماله ويقترح صيغة من الصيغ التي يراها لبناء عالمه الروائي، وهي صيغة غير ملزمة لأحد، بل هي اقتراح جمالي للوجود، وطرح أدبي للعالم، ومن المثير للشفقة أن يتم التعاطي معه بالمحاكمات والصدامات والفتاوى، وكأنه مجرم خارج على القانون.
من الأهمية بمكان قراءة الرواية في سياقها الأدبي والتاريخي بعيدا عن اعتبارها تهمة أو خطرا أو قنبلة توشك على الانفجار في وجه المجتمعات الآمنة المطمئنة، ولا يجوز التعامل مع المجتمعات بمنطق الوصاية وكأن الروائي سيخدش حياءها ويجرح براءتها بطروحاته وأفكاره. لا بد من الثقة بالذات والآخر في الكتابة والقراءة وعدم تنصيب أنفسنا حراسا للفضيلة في وجه المندسين الذين يتم اختصارهم وتعريفهم في الروائيين والمفكرين الخارجين عن طوق القبيلة أو الجماعة.
الفضول هو ما يقود القارئ الغربي في قراءته، فهو يقبل على العمل بعين المستكشف الباحث عن تفاصيل جديدة تساعده على فهم واقعنا الذي تغرقه الحروب والمآسي، والذي يطحننا في أتونه، وهذا الفضول هو الذي يجعله ينكب على القراءة المتفحصة النابشة في ما وراء الحكايات وما بين السطور
-
حظيت بعض أعمالك بالترجمة للغات الأوروبية وشاركت في عدد من الندوات الأكاديمية، هل تلمس فرقا بين القارئ باللغة العربية والقارئ بغيرها من اللغات الأوروبية؟ وكيف يتلقى الأجنبي رواياتك؟
أعتقد أن الفضول هو ما يقود القارئ الغربي في قراءته، فهو يقبل على العمل بعين المستكشف الباحث عن تفاصيل جديدة تساعده على فهم واقعنا الذي تغرقه الحروب والمآسي، والذي يطحننا في أتونه، وهذا الفضول هو الذي يجعله ينكب على القراءة المتفحصة النابشة في ما وراء الحكايات وما بين السطور. هناك قراء في الغرب يتعاملون بمنطق المستعمر المتفوق مع الأعمال المترجمة وينظرون إليها بعين الشك والريبة وعلى أنها لن تضيف إليهم شيئا باعتبارها نتاج عالم يُوصف لديه بالمتخلف. وهذه نظرة لا تتوافق مع منطق العصر الحديث.
التقيت بقراء اعترفوا لي بأن قراءة عملي ساعدتهم على بلورة فهم أفضل وأكثر وعيا بعالمنا والإشكالات التي نقاربها، وقالوا إنها غيرت نظرتهم لنا. وأعتقد أن هذا من أهم أدوار الكتابة والترجمة، ولا سيما السعي لتجسير الفجوات بيننا وبين الآخرين وتبديد جزء من الصور النمطية والأحكام المسبقة التي تقيد علاقاتنا معا.