وكالات : كواليس
رحل عن عالمنا قبل أيام المستعرب والمؤرخ والمترجم والأكاديمي بيدرو مارتينيث مونتابيث (1933-2023) عن عمر يناهز 90 عاما، ويعد مونتابيث من الشخصيات البارزة في مجال الاستعراب الإسباني.
وقد استطاع أن يؤسس لمفهوم الاستعراب بالمعنى العلمي الأكاديمي، ويعترف معظم المستعربين بمكانته الجليلة في مجال الاستعراب، وكان على اتصال بالمجتمعات العربية والإسبانية.
وإلى جانب التدريس الجامعي وإدارة العمل الأكاديمي كرس مونتابيث وقته لدراسة العالم العربي المعاصر، وعرف مدافعا شرسا عن ضرورة التعرف عن قرب على الثقافة العربية، ويعرف بصفته أحد أبرز دارسي التراث الأندلسي وكلاسيكيات الأدب العربي.
ويشتهر المستعرب الراحل بقوله “إن إسبانيا ما كان لها أن تدخل التاريخ الحضاري لولا القرون الثمانية التي عاشتها في ظل الإسلام، وكانت باعثة النور والثقافة إلى الأقطار الأوروبية المجاورة المتخبطة آنذاك في ظلمة الجهل والأمية والتخلف”.
يشار إلى أن مونتابيث ساهم في تقديم العديد من الكتاب العرب إلى الناطقين بالإسبانية من خلال ترجمة عدد من أعمالهم، وعرف بتمتعه بذوق شعري راق، حيث تذوق الشعر العربي وكتب الشعر الإسباني، وتدل اختياراته للأعمال المترجمة من العربية للإسبانية على مستواه الأدبي الرفيع.
بدايات مثقف عربي الهوى
ولد بيدرو مارتينيث في إقليم الأندلس الإداري جنوبي إسبانيا في منتصف عام 1933، وتخرج في كلية التاريخ وفقه اللغة بجامعة كومبلوتنسي.
عمل أستاذا في جامعتي غرناطة وأليكانتي، وشغل العديد من المناصب الأكاديمية، وكان أستاذا لتاريخ الإسلام في جامعة إشبيلية، ومدير قسم اللغة العربية والإسلام و”معهد الدراسات الشرقية والأفريقية” في جامعة مدريد المستقلة.
وعمل قبل ذلك مديرا للمركز الثقافي الإسباني في القاهرة (معهد ثربانتس حاليا) بين عامي 1958 و1962، وفي الوقت نفسه كان مديرا لقسم اللغة الإسبانية في كلية اللغات بالقاهرة، كما درّس في جامعاتها لأكثر من 7 سنوات.
كان يحب تسمية “المستعرب” لا المستشرق، نظرا لما أصاب الكلمة الأخيرة من تشوهات على يد بعض المستشرقين الذين لم ينصفوا الثقافة العربية ورموزها بنظرتهم الاستعمارية التي رفضها الراحل.
ويقول المستعرب والأكاديمي أغناطيوس غوتيريث أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي بجامعة مدريد المستقلة “تميز مونتابيث منذ التحاقه بسلك التدريس في الجامعة الإسبانية في إشبيلية، ومنها بعد فترة قصيرة في مدريد بروح التجديد وتوسيع آفاق الدراسات العربية والإسلامية في بلادنا”.
الحصن الأخير
واجه بيدرو مارتينيث سهام اليمين الناقم على تاريخ وثقافة العرب واللغة العربية بشجاعة وموقف مشرف، اهتم باللغة العربية وثقافتها، وكان يفضل الحديث باللغة العربية التي تعلمها في تطوان والقاهرة وبغداد.
ويشير إغناطيوس غوتيريث إلى أن مونتابيث “من المستعربين الأوروبيين القلائل الذين أتقنوا العربية الفصحى العصرية حديثا، ولا يحجم عن استعمالها في مداخلاته العلنية”.
وأضاف “كان مونتابيث يتردد إلى البلدان العربية لإلقاء المحاضرات فيها والإسهام في مشاريع بحث وتعاون عدة، مما يبرهن على مدى شعبيته في الأوساط الثقافية والجامعية العربية”.
ويرى الكثير من الباحثين أن مونتابيث شدد على أن اللغة العربية “حصننا المتبقي الوحيد، وأنها لغة عظيمة يكمن جوهرها في غناها الحسي والمعنوي والبنيوي”، وسعى دائما لإيجاد إثباتات لغوية تدل على مدى قوة الجذور العربية في اللغة الإسبانية.
أما الروائي والمترجم العراقي شاكر نوري فيؤكد أن “مونتابيث عاش تفاصيل اللغة العربية جاعلا من موضوع الأندلس نقطة التقاء الشعوب، ولم يفعل ذلك على النطاق الإسباني، بل امتد إلى بلدان أميركا اللاتينية الناطقة بالإسبانية”، ويتابع “لذلك كان تأثيره يزداد يوما بعد آخر”.
جسور التواصل بين الثقافتين
لعب مونتابيث دورا بارزا في التعريف بالقضايا العربية والإسلامية، حيث فتح آفاقا جديدة لتحليل العالم العربي المعاصر، وتغلغل في الجامعات الإسبانية، كما لم يتوقف عن إقامة الحلقات والدراسات فأسس دائرة الثقافات العربية الإسبانية في عام 2016.
ويذكر الدكتور شاكر نوري أن مونتابيث “جاء إلى الاستعراب الإسباني في زمن كانت هذه الدراسات بحاجة إلى تحريك أو تغيير نمط التفكير الذي كانت غارقة فيه”، وزاوج بيدرو مارتينيث في مساره العلمي والأكاديمي بين البحث في التاريخ وبين دراسة الأدب العربي وترجمته إلى الإسبانية.
ويؤكد المستعرب والأكاديمي خوسيه ميغيل بويرتا أستاذ مادة تاريخ الفن في جامعة غرناطة أن “مونتابيث أجرى خلال حياته المنغمسة بالثقافة والأدب بحوثا عدة حول العالم العربي المعاصر بأوجهه الثقافية والسياسية، وحول مفهوم الأندلس في الماضي والحاضر، كما تعمق في العلاقات العربية الإسبانية في العصور الوسطى والحديثة”.
يذكر أن مونتابيث اهتم في كتاباته بدراسة التراث العربي والإسلامي الذي اعتبره أحد أبرز المكونات الرئيسية للثقافة الإسبانية ولشخصية المواطن الإسباني حتى اليوم، سواء في تأثيراته الحاضرة في الفنون والآداب أو في ثقافة الطعام والشراب والعادات والتقاليد وغيرها.
ويقول الدكتور شاكر نوري إن مونتابيث “أعطى للأندلس كيانا خاصا بكل ما يحمل من قيم ورموز، بعثه من ركام الماضي وأزال عنه اللبس، وإذا بالإسبان يكتشفون عالما أدبيا زاخرا”.
وتعمق مونتابيث في دراساته الاستعرابية دون أن يقع في القوالب النمطية السائدة، حيث قدم نموذجا إيجابيا لفهم العالم العربي والإسلامي، وكانت أعماله مرجعا لكل تواق لمعرفة العالم العربي المعاصر ولغته وثقافته وآدابه.
ويعتبر نوري أن أهم ما قام به هذا المستعرب “أنه أزال الحدود بين التراث الأندلسي والتراث الإسباني مادا بينهما جسور التفاهم والتبادل، كما بيّن الوشائج التي تربط بين العرب وثقافة البحر الأبيض المتوسط، وهو الوعاء المشترك بين شعوب عديدة رغم اختلاف لغاتها وثقافاتها، لكنها تشترك في رموز موحدة نابعة من وجدان هذا البحر وأعماقه”.
القضية الفلسطينية
عرف عن المستعرب بيدرو مارتينيث دفاعه عن الحقوق الفلسطينية والعربية منذ ستينيات القرن الماضي، كما شغل منصب رئيس “جمعية أصدقاء الشعب الفلسطيني” في إسبانيا، وألف العديد من الكتب في هذا الجانب، من بينها “شعراء المقاومة الفلسطينية” (1974)، و”فلسطين في الشعر العربي الراهن” (1980).
ويرى إغناطيوس غوتيريث أن “أداء مونتابيث كان متميزا في نقل أدب المقاومة الفلسطينية بالتحديد إلى القارئ الإسباني، خصوصا قراء أميركا اللاتينية”، ويشير إلى ميزة انفرد بها مونتابيث من ضمن مستعربي زمانه وهي “أنه كان من المتابعين للمنتجات السياسية والثقافية والاجتماعية، مما حوله إلى مستعرب متعدد الاختصاصات”.
ويشير ميغيل بويرتا إلى أن “الراحل بيدرو مارتينيث انفرد باحترامه المخلص لآراء الآخر وبأريحيته الدائمة وبمحبته للعرب والتضامن مع قضاياهم وإقامة علاقة صداقة وتعاون مباشرة مع كتاب ومثقفين عرب كثر”.
“مستعرب متعدد الاختصاصات”
أثرى مونتابيث حركة الاستعراب الإسباني بمؤلفاته الفكرية والأدبية، وكان أول كتاب نشر له في عام 1956 عن جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وغيرهم، وحاول أن يرصد الإنتاج الفكري والأدبي لدى الكتاب العرب في أميركا اللاتينية.
خلّف مونتابيث أكثر من 30 مؤلفا، فضلا عن الترجمات والمقالات، ومن أهم كتبه:
- “استكشافات في الأدب العربي الجديد” (1977).
- “العرب والبحر الأبيض المتوسط” (1999).
- “تطلعات الغرب والحرمان العربي” (2008).
كما تناول في أبحاثه تاريخ العرب، وأصدر في هذا المجال أعمالا عديدة نشرها منذ تسعينيات القرن الماضي، ومنها:
- “التفكير في تاريخ العرب” (1995).
- “تحدي الإسلام” (1997).
- كتاب “على حدود المقدمات.. رؤية ما هو عربي بعيون أخرى” (2022).
- “الأندلس الدلالة والرمزية” (2018).
- وفي ذكرى مرور 500 عام على سقوط غرناطة (1492) ألف كتاب “أوروبا الإسلامية.. سحر حضارة ألفية”.
ترجم المستعرب مونتابيث إلى الإسبانية أعمالا لأهم الشعراء العرب، مثل محمود درويش ونزار قباني وعبد الوهاب البياتي وآخرين، وهناك العديد من الإصدارات التي عرفت بأسماء أساسية في الأدب العربي، منها:
- “شعر عربي معاصر” (1958).
- “قصائد حب عربية” (مختارات لنزار قباني) 1965.
- “شعراء عرب واقعيون” (أنطولوجيا 1970).
- “أغاني مهيار الدمشقي” لأدونيس (1997).
“ترك الاستعراب الإسباني يتيما”
خرج من تحت عباءة بيدرو مارتينيث مونتابيث عشرات المستعربين الإسبان والأميركيين اللاتينيين ودارسي الثقافة الإسبانية من العرب في قسم اللغة العربية بجامعة مدريد المستقلة، القسم الذي أنشأه في سبعينيات القرن العشرين، وظل يرأسه لأكثر من عقدين.
حاز مونتابيث العديد من الجوائز على نتاجه الأكاديمي المتميز، مثل:
- جائزة التضامن مع العالم العربي من جمعية الصحفيين العرب في إسبانيا.
- جائزة الشيخ زايد للكتاب، فضلا عن 3 درجات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة.
- جائزة الجمعية الإسبانية الفلسطينية “القدس”.
- كما حصل على “الميدالية الذهبية للأندلس” من حكومة الأندلس الإقليمية.
ويعتبر خوسيه ميغيل بويرتا أن صديقه الراحل مونتابيث “ترك الاستعراب الإسباني يتيما لكونه الفاعل الأساسي لانفتاح الدراسات العربية الإسبانية على الأدب العربي الحديث وعلى القضايا الثقافية والاجتماعية للوطن العربي المعاصر”.